قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا من يبلغ إخواننا أنا في الجنة نرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب؟ فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل سبحانه وتعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، « آل عمران 169».
وذكر الواحدي في أسباب النزول عن جابر بن عبد الله قال، نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أراك مهتما؟ قلت يا رسول الله، قتل أبي وترك دينا وعيالاً، فقال: «ألا أخبرك ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً»، فقال: يا عبدي سلني أعطك، قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله هذه الآية.
وقال ابن عطية، أخبر تعالى عن الشهداء أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا، وأن أجسادهم في التراب، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، فقوله «بل أحياء» مقدمة لقوله «يرزقون»، إذ لا يرزق إلا حي.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان، نهى الله تبارك وتعالى في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء، وصرح بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولم يبين هنا هل حياتهم هذه في البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أو لا؟ ولكنه بين في سورة البقرة أنهم لا يدركونها بقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)، «البقرة 154»، لأن نفي الشعور يدل على نفي الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر.
وقال الإمام القرطبي، لما بين الله تعالى أن ما جرى يوم أحد كان امتحانا يميز المنافق من الصادق، بين أن من لم ينهزم فقتل له الكرامة والحياة عنده، والآية في شهداء أحد، وقيل نزلت في شهداء بئر معونة، وقيل بل هي عامة في جميع الشهداء، وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون، وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فالذي عليه المعظم أن حياة الشهداء محققة، ثم منهم من يقول ترد إليهم الأرواح في قبورهم فينعمون، كما يحيا الكفار في قبورهم فيعذبون، وقال مجاهد يرزقون من ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها.
وقال آخرون، أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون، وهذا هو الصحيح من الأقوال، وقد قيل إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة، ويشركون في ثواب كل جهاد كان بعدهم إلى يوم القيامة، لأنهم سنوا أمر الجهاد، وقيل لأن أرواحهم تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء المؤمنين الذين باتوا على وضوء، وقيل لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض. وهذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى إنه يكفر الذنوب.
يقول العلماء: إن الإنسان روح وجسد ودم وعظم وإحساس في حياته، وبعد مماته يبقى الجسد من غير روح، ويبدأ الميت في التحلل داخلياً بعد أربع دقائق، حيث يستهلك الجسد الأوكسجين، وتزداد نسبة أكسيد الكربون، والفضلات التي تسمم خلايا الجسم.
يقول الباحث محمد لجين الزين: «تتفكك الشحوم والعناصر الأخرى في داخل الجسم، ويبدأ أثر التحلل على الكبد أكثر، ومن ثم يتغير لون الدم وتزداد الحموضة، وبعدها تبدأ مرحلة قيام البكتيريا بالهجوم».
وعندئذ ينهار الجسم بالكامل مما قد يؤدي إلى انفجار الجسد، وتظهر روائح النتن، ويحصل هذا بعد مرور ثلاثة أسابيع من يوم موت الإنسان، وبعده تبدأ الحشرات بالتكاثر، ثم تتغذى على ذلك الجسد المتحلل، وتتعاون كل المخلوقات وقتئذ على تحليل اللحم والعظم.
لكن من الثابت علمياً أن اللحم يفنى أولاً، ومع ذلك فإنه يأخذ من الوقت ستة أشهر إلى عام حتى يفنى بالكامل، في حين أن العظم لا يفنى سريعاً، وقد قدر العلماء مدة فنائه بعشرين عاماً إلى خمسين عاماً.
هذا عن أجساد الناس العاديين، أما أجساد شهداء المعركة الذين يستشهدون في سبيل الله تعالى، ولإعلاء كلمة الله تعالى، وليس لأجل غرض دنيوي، فإن الأمر مختلف تماماً، حيث أن أجسادهم تبقى غضة طرية لقرون وإلى أجل غير مسمى، من غير أي تغير يطرأ عليهم.
ذكر الشيخ محمود الصواف، رحمه الله تعالى، أنه تشرف بالمشاركة ضمن عدد من العلماء في إعادة دفن بعض شهداء أحد في المدينة المنورة، فوجدوا أن أجسادهم بعد 1400 سنة من استشهادهم باقية، لم تتغير ولم تتعفن ولم تتحلل.
يقول الشيخ الصواف: «إن مقبرة شهداء أحد أصابها سيل جارف، فانكشفت بعض الجثث، ومن تلك الجثث جثة سيدنا حمزة، فبدا ضخم الجثة مقطوع الأنف والأذنين، بطنه مشقوق، وقد وضع يده على بطنه».يقول الصواف: «فلما حركناه ورفعنا يده سال الدم».
الشهداء أحياء في قبورهم
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة