منذ أكثر من مائة سنةً نقل الدكتور طه حسين إلى العربية كتاب " روح التربية " للمفكر الفرنسي جوستاف لوبون . وهو كتاب يناقش مشكلات التعليم في المدارس والجامعات الفرنسية أواخرَ القرن التاسع عشر . ومن المؤكد أن الفرنسيين أفادوا كثيراً من هذا الكتاب ، وغيره ، فنهضوا ببلادهم ، وارتقَوا بتفكيرهم ؛ أما نحن فمن الواضح أننا لم نلتفت إلى أهميته ، ولم نحاول الأخذ بما جاء فيه ، ولو قد فعلنا لكان الحالُ غيرَ الحال ، وما انتهت بنا الأمور إلى هذا المآل !
يوشك هذا الكتاب أن يكون حديثاً مفصَّلاً عن أحوال التعليم في بلادنا العامرة في الربع الأول من القرن الحادي و العشرين ؛ وكأننا نقرأ ولا نفهم ، أو نفهم ولا نعمل ، أو نعمل ولا نحسن ، أو نحسن ولكن يدركنا الكلل والملل ، فنركن إلى الدَّعة والراحة ، ونعود إلى حيث بدأنا ؛ وتلك غفلةٌ قبيحة ، أخجل أن أقول حماقة ، لا تليق بقومٍ يعقلون ، ولا تجمُل بمن يحبون أوطانهم ، ويرغبون في تقدم أمتهم ؛ فمن المنطقي أننا نسنُّ القوانين لنلتزم بها لا لنخالفها ، ونبحث عن العلاج لنتداوى به وليس لنتفرجَ عليه ثم نديرَ له ظهورَنا !!
يحدثنا جوستاف لوبون عن تعليمٍ " ينحصر في استظهار الكتب الدراسية " ، ولا يتجه إلا نحو الامتحان ، ولا ينمي إلا الذاكرة . وينبهنا إلى أن من آثاره السيئة وعواقبه الوخيمة أنه يقطع الصلة بين التلاميذ والعالم الذي يعيشون فيه ؛ فهم لا يكترثون بالحياة الخارجية ، ولا يحفِلون ببدائع الحضارة ، ولا يهتمون إلا بما يدرسون في الكتب وما يُسألون عنه في الامتحانات ؛ وينتهي إلى أنه لا يبقى في نفوس الشباب من كل الكتب التي يعانون من مطالعتها ويشقَون في استظهارها إلا سخطٌ شديدٌ على الدرس وازدراءٌ عميقٌ لكل ما هو علمي .
ويذهب إلى أن من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا النمط البائخ العقيم من التعليم هو أننا لم نُعِد المعلم إعداداً سليماً ، ويتساءل في غيظٍ وحسرة : أيُّ خيرٍ يمكن أن يرجَى من رجلٍ انفق خمسة عشر عاماً من حياته وهو يكدِّس في ذاكرته كلَّ ما يستطيع تكديسَه دون أن يلقي نظرةً واحدةً على العالم الذي يحيط به والحياة التي تصطرع من حوله ، ودون أن يحاول ، ولو مرة واحدة ، أن يمرن قوته الشخصية أو إرادته أو حُكمه ؟
وذكر لوبون أن أسوأ شيءٍ في المدارس هو هذه المراقبة المتصلة التي تضايق الطلاب وتثقل عليهم ، ونصح بأن نترك لهم شيئاً من الحرية ، وأن نعرفهم بأن هذه الحرية ستسلَب منهم إذا أساءوا استعمالها .إن علينا أن نبيِّن لهم الخطأ والصواب ونوقظ في داخلهم صوت الضمير ، ونربيهم على أن يفعلوا الخير لأنه جميل ، لا لأنهم يجنون من ورائه منفعة ، وينتهوا عن الشر لأنه قبيحٌ ، وليس لأنه يجلب لهم الضرر أو يعود عليهم بالخسران المبين .
ولعلَّ خير ما نخرج به من قراءة هذا الكتاب القيِّم ، هو ما يلخصه لنا جوستاف لوبون في قوله : " إن التربية هي الفن الذي يمكِّن من إدخال الشعوري فى اللا شعوري " .وأزعم أنه يقصد من ذلك الغرضَ الأكبر للتربية ، أو الثقافة على وجه العموم ، فالغاية التي نرجوها من تعليم أبنائنا وتثقيفهم هي أن تؤثر العلوم والمعارف في سلوكهم وتهذب أخلاقهم ، وتظهر آثارها الطيبة على أفكارهم ومعاملاتهم ، وأن يتحول تطبعهم الزائف المتكلَّف إلى طبع ثابت أصيل ، وأن يمارسوا بتلقائية وطلاقة ما كانوا يتصنعون في عمله بجهد ومشقة .
هذا كلامَ المفكر الفرنسي الكبير جوستاف لوبون ،
أما أنا فقد بلَّغت ... اللهم فاشهد !
روح التربية ومشكلات التعليم
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة