سمية رمضان عبد الفتاح
كانت جارة لي في طفولتي، كانت أصغر مني بثلاث سنوات، كنا كثيرا ما نلعب معا، وكانت تقضي معظم وقتها في
بيتنا، كنت أشعر أنها واحدة من أخواتي من فرط اهتمام أبي وأمي بها.. فكان أبي لا ينسى أن يشتري لها فستان العيد معنا، وكذلك الهدايا المتنوعة، وأهم من هذا كله "عروسة المولد"، فقد جاءت تبكي ذات يوم وتقول: (سعاد بتغيظني بعروسة المولد)، فأخذ أبي يربت على كتفها، وأخذها واشترى لها "عروسة المولد"، ولم نكن ندري وقتها سبب اهتمام أبي الزائد عن الحد بها.
ولما رأيت "عروسة المولد" التي اشتراها لها أبي أجمل من "عروستي" زاد غيظي.. وفكرت في حيلة ماكرة، قلت لها: ما رأيك لو نتبادل العرائس، ولكنها رفضت، ففكرت في حيلة أكثر مكرًا، قلت لها: العروسة جميلة ولكنها تحتاج إلى حمام ماء، لتكون أكثر جمالا.. أعجبت الصغيرة بفكرتي جدا، وأخذت تغسل العروسة المصنوعة من الحلوى في الماء، والنتيجة طبعا معروفة..
وعندما عاد أبي حكت له ما حدث وهي تبكي، فأخذها واشترى لها "عروسة" أخرى، وعلم ما يدور في نفسي من مشاعر، فأخذني إلى حجرته، وشرح لي سبب اهتمامه بجارتنا الصغيرة، وتعلمت منه وقتها فضل العطف على اليتيم وحسن معاملته، ومنذ ذلك اليوم أصبحت أكثر حرصا على تلك الصغيرة من أبي..
الجنة هي الثمن !
وكيف لا نعطف على اليتامى، إذا كان الثمن هو الجنة، ليس هذا فحسب، بل مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فعن سَهْلٍ - رضي الله عنه - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ في الْجَنَّةِ هَكَذَا". وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئاً. رواه البخاري. وقد حض صلى الله عليه وسلم على الإنفاق على اليتامى، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أليَّ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ، فَقَالَ: "أَنْفِقي عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ" . رواه البخاري.
أما إذا كان اليتيم من الأقارب، فيصبح الثواب ثوابين، والأجر أجرين.. فلو تكفل أغنياء كل عائلة بفقرائها واليتامى فيها، لما اشتكى أحدٌ من الفقر والحاجة، فما أعظم الإسلام، إنه دين الألفة والمحبة والتواصل والصلة بين الأرحام.
فعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَة عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أنها قالت: "كُنْتُ في الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ". وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ في حِجْرِهَا، قَالَ: فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَجْزِئ عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامِي في حجري مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَانْطَلَقْتُ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ، حَاجَتُهَا مِثْلُ حاجتي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ فَقُلْنَا سَلِ النبي صلى الله عليه وسلم أَيَجْزِئ عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زوجي وَأَيْتَامٍ لي في حجري، وَقُلْنَا لاَ تُخْبِرْ بِنَا. فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ "مَنْ هُمَا". قَالَ زَيْنَبُ قَالَ "أي الزَّيَانِبِ" . قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ "نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَة" رواه البخاري.
وليس الإنفاق وبذل المال للأيتام هو السبيل الوحيد لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، بل قد تكون البسمة الرقيقة والكلمة الحلوة، أو اللمسة الحانية، أو التوجيه النافع، أو غيرها الكثير من الوسائل التي لا تنتهي، فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلاَّ لِلَّهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ في الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى" رواه أحمد.
خير النساء
أما إذا سألت عن خير النساء، فأقول لك: خير النساء التي تحنو على اليتيم، وليس هذا قولي، بل قول خير البشر عليه الصلاة والسلام، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ - قَالَ أَحَدُهُمَا صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الآخَرُ نِسَاءُ قُرَيْشٍ - أَحْنَاهُ عَلَى يَتِيمٍ في صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ في ذَاتِ يَدِهِ". رواه مسلم.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم امتدح السَّائِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - لأخلاقه الحسنة في الجاهلية، ويوصيه بالتمسك بتلك الأخلاق، ويحكي السائب فيقول: جيء بي إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ جَاءَ بي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزُهَيْرٌ فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « لاَ تعلموني بِهِ قَدْ كَانَ صاحبي في الْجَاهِلِيَّةِ » . قَالَ قَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنِعْمَ الصَّاحِبُ كُنْتَ. قَالَ فَقَالَ « يَا سَائِبُ انْظُرْ أَخْلاَقَكَ التي كُنْتَ تَصْنَعُهَا في الْجَاهِلِيَّةِ فَاجْعَلْهَا في الإِسْلاَمِ أَقْرِ الضَّيْفَ وَأَكْرِمِ الْيَتِيمَ وَأَحْسَنْ إِلَى جَارِكَ » . رواه أحمد.
بل إن الساعة ستقوم والروم أكثر الناس على الرغم من أنهم على غير الإسلام، وذلك لبعض خصالهم التي منها إكرام اليتامى، فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ". فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعا، إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ". رواه مسلم.
ولقد حذرنا الله تعالى من ظلم اليتامى، فقال سبحانه في محكم تنزيله: {فأما اليتيم فلا تقهر}، وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من إضاعة حق اليتيم؛ لأنه ضعيف لا حول له ولا قوة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ "اللَّهُمَّ إني أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ". رواه أحمد.
والآن.. نعود ثانية للصغيرة، والتي أصبحت الآن أما لثلاثة أولاد، تقابلت معها منذ شهورٍ قليلة، قالت لي في حفاوة: لم أشعر يوما أني يتيمة، بل كنت أشعر أن الأطفال كلهم لهم أبٌ واحد وأمٌ واحدة أما أنا فكان كل الآباء أبي، وكل الأمهات أمي، كنا أسرة كبيرة، كان التآلف والتآخي ينشر عبيره على شوارع قريتنا، والطيبة والمحبة شجرة كبيرة تظلنا، وتحنو علينا إذا اشتدت علينا الحياة.
كنت أشعر دائما أن قلوب أهل القرية مساكن شعبية، يأوي إليها كل ضعيف ومحتاج، كانت بيوتهم ملاذًا لكل يتيم، وكم أتذكر الآن تلك الأيام الجميلة متمنية أن نرى في مجتمعنا المعاصر مثل هذه النماذج الطيبة، وتلك المشاعر الفياضة، التي تعطي لحياتنا معاني جميلة.
يتيم يعيش مع أبويه!!
على الوجه الآخر كانت لي زميلة في الجامعة، تعرفت عليها وأصبحنا صديقتين حميمتين، وفي يوم من الأيام كنا نزور أحد ملاجئ الأيتام، وبعد أن انتهينا، وفي طريق عودتنا، رأيت عيني صديقتي مغرورقة بالدموع، حاولت التخفيف عنها، وقلت لها: أرجو ألا تتأثري هكذا، فهذه أقدارهم، ويكفيهم شرفا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتيما، فإذا بصديقتي يرتفع صوتها بالبكاء بشكل هستيري.. حاولت تهدئتها، وجلست إليها؛ لأعرف ما بها.
وبعد صمت طويل قالت صديقتي: أنا أشعر باليتم، مع أن أبي وأمي ما زالا على قيد الحياة، لقد سافرا إلى إحدى الدول للعمل هناك، ولا نراهم إلا كل عام أياما معدودة، وقد عهدا بتربيتنا إلى مربية.
ثم قالت وعيناها تدمعان: كم كنت أشتاق خلال العشرين سنة الماضية إلى حضن أمي، وإلى لمسة حانية من أبي، كنت أحتاج إلى توجيههم ونصحهم، كنت أحتاج أن أشعر أن لي أبا وأما وليس ممولان، وعندما كنت أشارك في حفلات المدرسة كنت أتمنى أن يحضرا ليشاركاني كما كان يفعل باقي الآباء، لقد كرهت حياتي بسببهم، ثم أكملت قائلة: إذا كان اليتم هو فقد الأبوين أو أحدهما، فأعتقد والله أن اليتم الأصعب هو من شعر باليتم مثلي ووالدي على قيد الحياة!!
هذه حكايتى مع اليتيمتين
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة