لفضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلاميقال الله تعالى:
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيْهِ قُلْ قِتَالٌ فِيْهِ كَبِيْرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُوْنَ يُقَاتِلُوْنَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوْكُمْ عَنْ دِيْنِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوْا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِيْنِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
[البقرة: 214-220]. الآيات
ويتضمن التفسير هذا العدد الآتي
الخير فيما أراده الله لا في هوى النفس
محاربة المسلمين أكبر من القتال في الشهر الحرام
الإيمان والهجرة رجاء رحمة الله سبحانه
قصة تحريم الخمر
فضل كفالة اليتيم والرفق به والإحسان إليهوإليكم التفصيل:
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [215].
إن سؤال السائلين في هذه الآية عن الإنفاق لم يكن عن جنس ما ينفق أو نوعه من ذهب أو فضة أو حنطة أو شعير، وإنما السؤال عن كيفية الإنفاق ووجوهه.
فأجابهم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فقوله {مِنْ خَيْرٍ} بصيغة التبعيض، فالتعبير عن المال بالخير يقتضي الكثرة كما أن التعبير بالتبعيض بقوله: {مِنْ خَيْرٍ} يقتضي أن الإنفاق بالتصدق أو الإنفاق والتصدق يكون من فضل المال الكثير .
وقد قدم الله الوالدين لمكانتهما من عظيم الحق ثم {وَالْأَقْرَبِينَ} وفسروهم بالأولاد والأحفاد ثم الإخوة ثم أولادهم، إذ تعبير الله بالأقربين يقتضي ذلك وتختص الإناث من الأقارب لمزيد حاجتها، ولأن النفقة والصدقة كلما قوي نفعها زاد تأكيدها وعظمت مثوبتها عند الله وحصل دافعها على مزيد من الحب والاحترام والدعاء الذي إذا استجابه الله حصل فيه النفع الكبير.
وقد راعى الله أحسن أنواع الترتيب في الإنفاق في هذه الآية الكريمة.
ثم قال سبحانه: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} يعني: كل ما تفعلونه من خير مع هؤلاء أو غيرهم ابتغاء وجه الله فإن الله به عليم علمًا تامًا.الخير فيما أراده الله لا في هوى النفس:
يقول الله - تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [216]
هذه الآية تفيد وجوب القتال لنصرة الإسلام والدفاع عنه وفي هذه الآية الكريمة وختامها بقوله: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ فوائد كثيرة:
أولها: أن المؤمن إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب انشرح صدره لما يكرهه كما ينشرح صدر المريض للاكتواء بالنار الحامية وشرب الدواء الكريه طلبًا للعافية فيقدم على فعل ما يكرهه من بذل النفوس والمال ورجاء حصول محبوباته من وراء ذلك.ثانيها: أنه إذا علم أن المحبوب قد يأتي بالمكروه فإنه لا يأمن حصول الضرر من الجانب الذي يرجو منه الخير فتأتيه المضرة من حيث يريد المسرة وذلك لجهله بالعواقب.
ثالثها: أنه لا يقترح على ربه أي شيء ولا يختار لنفسه عليه أي شيء حتى في قلبه، فلا يقل: لو أن الله أمر بكذا أو حكم بكذا أو جعل كذا في وقت كذا، ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل هلاكه أو مضرته فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئًا بل يسأله حسن الاختيار له، ويسأله أن يرضيه بما يختاره له أو يقدره عليه، كما في حديث الدعاء النبوي: ((وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك اللطف فيما جرت به المقادير)).
رابعها: أن هذه الآية تقتضي من العبد تفويض جميع أموره إلى الله الذي يعلم عواقبها.خامسها: أنها تقتضي من العبد رضاؤه بما يفرض عليه أو يشرع له في الأحكام معتقدًا كفايتها للمقاصد الحسنة وحل المشكلات في الحاضر والمستقبل، ومعتقدًا أيضًا خيريتها إما في الحال أو في الاستقبال.
سادسها: أنه إذا فوض أمره إلى الله ورضي بما يختاره فالله يمده بالثقة على ما تحمله والعزيمة على تنفيذه ويعينه على الصبر عليه ويصرف عنه الآفات التي تعترض اختياره أو تعرقل تنفيذه ويريه من حسن العواقب لاختياره له ورضاه به ما لم يكن يرى بعضه لولا ذلك.
سابعها: أنه لا أنفع ولا أجدى من امتثال أمر الله وإن شق عليه في الابتداء لأن عواقب أحكام الله كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وإن كرهتها النفس في البداية، ففيها خير ونفع قد لا يعلمه إلا المشرع الذي هو الله العليم الحكيم.
هذا في فعل المأمورات، فأما ترك المحظورات فأعظم وأعظم لأنه لا ينهى إلا عن كل سيء وخبيث ومضر وفاسد، فلا شيء أضر على العبد من ارتكاب ما نهى الله عنه إن مالت إليه نفسه أو وجدت لذة عاجلة فعواقبها من المصائب والشرور والآلام والأحزان ما لا يحصى.
ثامنها: أن العقل يقضي على صاحبه باجتناب اللذة العاجلة التي يعقبها شر طويل وألم عظيم، كما يقضي عليه الإقدام على تحمل الألم الذي يعقبه لذة عظيمة وخير كثير، فكيف إذا انضاف إلى ذلك تعليم الله الذي تدرك به الغايات من مبادئها وعلم العبد أن الله قد يجعل الخير فيما هو مكروه للنفوس ورآه مفروضًا عليه، فإن إيمانه بالله يكسبه قوة صبر يوطن به نفسه على تحمل المشقة طمعًا في حسن العاقبة وثقة بالله المشرع العظيم القائل: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216] فبقوة يقينه وصبره يهون عليه تحمل كل مشقة.
تاسعها: من فوائد هذه الآية الكريمة أنها تريح قلب المؤمن من الوساوس والأفكار وأنواع الاختيارات المشغلة لقلبه والمضيعة لوقته والمخلة بعقله، فيتلقى أوامر الله ونواهيه برحابة صدر وانشراح خاطر جازمًا أن عاقبتها الخير بجميع معانيه ودفع الشر بجميع معانيه وتحصيل السعادتين العاجلة والآجلة فيكسب راحة الضمير وصدق العزيمة والقوة المعنوية، فهذا نزر يسير من معاني قوله: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.
محاربة المسلمين وإخراجهم أكبر من القتال في الشهر الحرام:
قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيْهِ قُلْ قِتَالٌ فِيْهِ كَبِيْرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُوْنَ يُقَاتِلُوْنَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوْكُمْ عَنْ دِيْنِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوْا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِيْنِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ ﴾ [217].
ذكر المفسرون وأصحاب السير كابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي والطبراني في الكبير وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبدالله بن جحش - وهو ابن عمته - مع ثمانية من المهاجرين في آخر شهر جمادى، وقيل باثني عشر رجلاً يعتقب كل اثنين على بعير، وكتب له كتابًا فقال: ((اخرج بأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح الكتاب فانظر فيه فما أمرتك فامض له ولا تستكره أحدًا من أصحابك على الذهاب معك)).
فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه أن امض حتى تنزل (نخلة) فأتنا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم، ولم يأمره بقتال، فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمعًا وطاعة، من كان منكم رغبة في الشهادة فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاني أن استكره أحدًا منكم.
فمضى القوم معه، فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبه بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عنه لطلب البعير، ومضى القوم حتى أتوا (نخلة) ونزلوا بها، فمر بهم عمرو بن الحضرمي ورفاق معه في عير لقريش تحمل زبيبًا وزيتًا، فتشاوروا في قتالهم لمضايقة شهر رجب، وكانوا في آخر يوم من جمادى، فعزموا على قتالهم، فقتلوا ابن الحضرمي وأسروا اثنين من رفاقه وهرب الرابع فلم يدركوه، فاستاقوا العير وذهبوا بالأسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ((إني والله لم آمركم بقتال.
واستغل الكفار وأعوانهم فرصة الدجل فزعموا أن الوقعة حصلت في أول رجب وهي في آخر جمادى، فأزعجهم الخوف من الله أن يكون شهر جمادى ناقصًا وتكون الوقعة كما قيل، فتساءلت قريش مع الرسول ومن حوله من المشركين عن استحلال الشهر الحرام، فتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العير والأسيرين حتى أنزل الله هذه الآية المبينة لحقيقة الأمر، وأن أعمال المشركين أفظع وأشنع وأكبر جريمة من القتل في الشهر الحرام، بل إن الفتنة فتنة المسلمين بأصناف الإغراء والتنكيل ليرجعوا إلى الشرك هي أكبر من القتل مطلقًا ومن القتل في الشهر الحرام، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العير وفدى الأسيرين وأبطل الله في هذه الآية جميع أراجيف المشركين من قريش وغيرهم، وأذهب حزن المسلمين مما حل بهم من الذم الكاذب والتهريج الباطل، وشفى صدورهم بهذه الحقيقة الدامغة.
وهذه الآية الكريمة ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ أتى الله سبحانه بها لذكر مبررات المسلمين للقتال الذي هو كبير في الأشهر الحرم، وقد كانت العرب تعظمها لما ترسب فيها من ملة إبراهيم عليه السلام
اختلف العلماء رحمهم الله في نسخ حرمة القتال في الأشهر الحرم ابتداءً، فالجمهور جوزوه وقالوا: إن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ، وهو مذهب الأئمة الأربعة كلهم رحمهم الله، وخالفهم عطاء وغيره، لكن حجة الأئمة حجج كثيرة: منها: غزوه لخيبر في شهر المحرم، ومنها بيعة الرضوان على القتال، وهذه لها سبب خاص، وأقوى من ذلك حصاره للطائف، وكان قد خرج إليها في أواخر شوال، وفتح الله عليه هوازن وقسم غنائمها، ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصرهم أربعين يومًا قضى فيها شهر ذي القعدة بكامله، وكذلك بعثه صلى الله عليه وسلم السرية إلى أوطاس في شهر ذي القعدة.وقد أجاب المانعون بأجوبة من أقواها آية المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ [المائدة: 2].
ولكن من الصعب تسليم تأخر نزولها عن آيات سورة التوبة، لأن سورة المائدة ليس كلها من المتأخر كما لاحظها المحققون.وسئل سعيد بن المسيب: هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم. قال أبو عبيد: والناس بالثغور اليوم جميعًا على هذا القول يرون الغزو مباحًا في الشهور كلها، ولم أر أحدًا من علماء الشام والعراق ينكره عليهم، كذلك أحسب قول أهل الحجاز، والحجة في إباحته قوله تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ [التوبة: 5].
وهذه الآية ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام.
وقوله سبحانه فيمن يرتد عن دينه: ﴿ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ﴾ أما حبوط أعمالهم فهو زوال ثوابها وجدواها وكونها باطلة في الدنيا ومحروم من جميع نتائجها في الدنيا والآخرة، وأصل الحبط مأخوذ من الهلاك، وهو أن يأكل بعض الأنعام ما يضره من نبات الربيع فينتفخ بطنه فيهلك، ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم)) فسمى فساد الأعمال بالحبط لما فيه من الهلاك المعنوي بفسادها وعدم الاعتداد بها وحرمان ثوابها.الإيمان والهجرة رجاء رحمة الله سبحانه:
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [218].
ورد أن عبدالله بن جحش قائد السرية حينما استاق العير وقتل بعض أهلها عند دخول شهر رجب الحرام سالكًا مسلك الحرم في عدم تفويتهم بآخر يوم من جمادى، وأقيمت عليه الصيحات، وامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ المال حتى نزلت الآية السابقة المثلجة للصدور، وأعطت المسلمين أحكامًا وسلاحًا من الحجج تساءل هذا القائد عن الطمع في الأجر والثواب بعد أمانه من حصول العقاب، فأنزل الله هذه الآية الكريمة يصور فيها حقيقة المؤمنين وحسن مثوبتهم لأنهم حققوا إيمانهم وصدقوه بالهجرة ثم بالجهاد يبغون من وراء ذلك رحمة الله، فليبشروا بالرحمة والمغفرة.
والهجرة هي مفارقة الوطن والأهل مشتقة من الهجر الذي هو ضد الوصل، ومنذ أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة بعد انعقاد بيعة العقبة بينه وبين من آمن من أهلها على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، ثم هاجر الكثير منهم وجب على كل مسلم أن يتبعه في هجرته ليعتز الإسلام بأهله، فيقدرون باجتماعهم على الدفاع عن أنفسهم ويتفسح المجال للزحف بالدعوة.
وقوله تعالى: ﴿ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الجهاد من الجهد الذي هو المشقة، ومن بذل الوسع، فهم هاجروا امتثالاً لأمر الله بعدما بذلوا جهدهم في مقامرة الكفار ومقاومتهم، ثم جاهدوا بعد الهجرة، فحياتهم كلها في جهاد، ولذلك يرجون رحمة الله وهم أجدر بحصولها، لأنهم فعلوا أسبابها، فصار رجاؤهم صحيحًا ومتحقق وهذا بخلاف من لم يعمل الأسباب ويرجو النجاة والثواب، فإنه متمن لا راجِ، كما قيل: "ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري عل اليبس".
فرجاء عباد الله مخالف للأماني من أصحاب الأماني الذي لا يعملون ويتمنون على الله، لأن عباد الله المؤمنين يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد، مستقصرين أنفسهم ومنتقصين أعمالهم في حق الله، يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته ولم يقضوا الواجب من نصرة دينه، فيقدمون على الله بين الخوف والرجاء، لكن رجاءهم مبني على القطع واليقين في رحمة الله، وقيل، إن التعبير بـ (الرجاء) للرحمة لعدم العلم في كميتها لا في حصولها، وقيل: إنهم يرجون رحمة الله للتوفيق على الاستقامة حتى يموتوا وهم في هجرة وجهاد، وقيل: هو للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر، وإنما هو على طريق التفضل من الله لا لأن في فوزهم اشتباهًا، بل فوزهم مؤكد من الله.
وقوله سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ واسع المغفرة للتائبين المستغفرين وعظيم الرحمة بالمؤمنين المحسنين وخصوصًا المهاجرين المجاهدين الصابرين فهو يغفر لهم ما جرى من تقصير، ويرحمهم ويلطف بهم فيما جرت به المقادير لأن بركة الإيمان بركة عظيمة.
فالإيمان الصحيح الذي يحشو قلوب أهله بحب الله وتعظيمه ويجعلهم يتفانون في طاعة الله ورسوله ويفضلونها على الأهل والعشيرة والأوطان والمال والإخوان والجاه وكل متع الدنيا ولذاتها، فيهجرونها في سبيل الله، ويعرضون أنفسهم للمكابد والمكائد، فيجاهدون ابتغاء وجهه الكريم ينالهم من بركة الإيمان ذلك الفوز برحمة الله، والله غفور رحيم.
قصة تحريم الخمر:قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [219].
الخمر اسم لكل ما خامر العقل وأسكره من أي مشروب ونحوه، كما سنذكر النصوص في ذلك وهذه الآية الثانية التي نزلت في المسكر، فالأولى جاءت في الآية [67] في سورة النحل: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ نزلت في مكة هي وما قبلها وما بعدها، وكانوا يشربونها في مكة، وهذه الآيات ساقها الله في هذه السورة المكية للتعجيب ليس للإباحة ولا للاستدلال وإنما هي لبيان ما يجمعه الله من المتعارضات، وكيف يخرج الخبيث من الطيب والطيب من الخبيث الكريه المستقبح، فهي للتعجب، وفي قوله تعالى: ﴿ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ دليل على أن ما فيه السكر ليس برزق حسن.
أما الآية الثانية فهي هذه الآية المدنية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾. والآية الثالثة في سورة النساء نزلت بعدما غلط بعض الصحابة في قراءة القرآن ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43].
أما الآية الرابعة ففي سورة المائدة نزلت بالقطع بالتحريم بعد قول عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا.
وقد ذهب بعض الأئمة إلى أن الخمر حرمت بهذه الآية التي نتكلم عليها من سورة البقرة وأن ما أتى بعدها من الآيات فهو من قبيل التوكيد، لأن لفظ الإثم يفيد الحرمة، كما قال تعالى في الآية [33] من سورة الأعراف: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ ولكن يرد قولهم نص آية سورة النساء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43].
فقد كانوا يتجنبون السكر في قرب أوقات الصلاة. والصحيح الذي لا مراء فيه أن تحريم الخمر جاء على التدريج، وفي ذلك من الحكمة الإلهية ما لا يحيط به علماء التربية ولا غيرهم، لأن القوم ألفوا شرب الخمر وأولع بها كثير منهم، وكانت لهم تجارة وفيها نفع مالي كبير، ويعتقد بعضهم منفعتها، فلو منعوا منها دفعة واحدة لشق عليهم ولم يكمل انقيادهم خصوصًا قبل رسوخ الإيمان في قلوب الجماهير كافة، فاستعمل الله معهم الرفق بهذا التدريج الذي يوافي نمو الإيمان وقوته.
فضل كفالة اليتيم والرفق به والإحسان إليه:قال تعالى: ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 220].
هذه الآية الكريمة فيها تيسير على المسلمين مما لقوه من العنت في معاملتهم لليتامى، فاليتامى لهم شأن عظيم في دين الله، كما مضى الكلام عليه في آية البر وغيرها، لأن التكافل في الإسلام يوجب على كل مسلم أن يرعاهم حق رعايتهم، وأن يعوضهم عما فقدوه من عطف آبائهم، وقد كان الجاهليون يأكلون أمال اليتامى لاستضعافهم لهم، ويحتكر أحدهم زواج اليتيمة له ولولده ليأكل مالها، وإن كان زاهدًا في نكاحها عضلها من الزواج حتى لا يتدخل الزوج في شأنها، ولهذا أنزل الله هذه الآيات في سورة الأنعام والإسراء والنساء: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء]، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 3]، ﴿ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ﴾ [النساء: 127].
وعند ذلك تحرج المسلمون من أموال اليتامى وأخذوا يعزلونهم عنهم في الأكل والمنزل حتى أنهم يتركون ما يفضل من أكله فلا يتصرفون به، فشكا عبدالله بن رواحة رضي الله عنه ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ليس كل من عنده يتيم يكون عنده سعة في المنزل، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية التي فيها الحل الصحيح الحاوي لليسر والرافع للعسر والتي تزيل من نفوسهم التحرج والتأثم: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ يعني إصلاح تربيتهم وإصلاح أموالهم في تنميتها.ومن أعظم الإصلاح لليتيم أن يعيش في بيت كافله غير معزول عنه كأنه (داجن)، فإنه التحرج من مخالطتهم ينافي إصلاح أحوالهم ويزيد التعقيد في نفوسهم، ولهذا قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾، فهم إخوانكم في الدين والإنسانية، فعليكم أن تعاملوهم معاملة الإخوان في المخالطة، لأنهم ما داموا إخوانكم فمن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء وشركاء في الملك والمعاش، وهذا فيه نفع بلا ضرر، لأن كل واحد منهم يسعى في مصلحة الجميع، فالمخالطة بنيت على المسامحة لانتفاء مظنة الطمع وتحقق الإخلاص وحسن النية، فيكن اليتيم في البيت كالأخ الصغير، ترعى مصالحه بحسب الإمكان، ويتحرى كافله أن يكون الرجحان في كفته لأنه يتيم، وتعبير الله سبحانه بالمخالطة يشمل المصاهرة، لأن تعليلها بإخوة الإسلام علة لإباحتها.
قال الرازي في تفسيره:
قال القاضي: هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما، لكي ينشأ على علم وأدب وفضل، لأن هذا الصنع أعظم تأثيرًا فيه من إصلاح حاله بالتجارة، ويدخل فيه أيضًا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة، ويدخل فيه أيضًا معنى قوله تعالى: ﴿ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ﴾ [النساء: 2] ومعنى قوله ﴿ خَيْرٌ ﴾ يتناول حال المتكفل، أي هذا العمل خير له من أن يكون مقصرًا في حق اليتيم ويتناول حال اليتيم أيضًا، أي هذا العمل خير لليتيم من حيث أنه يتضمن صلاح نفسه وصلاح ماله، فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي.نسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا لصالح العمل وأن يزرع في قلوبنا الرفق والتقوى.
أما الرزق في الدنيا فالله يؤتيه من يشاء كافراً كان أو مؤمناً دون أن يحاسبه أحد على ذلك بل لحكمة من الله يستدرج الكفار بالتوسعة عليهم ليزدادوا إثماً، ويبتلي المؤمنين إن قدر عليهم رزقه ليزدادوا بذلك أجراً: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} التزيين للدنيا أي جعلها حلوة محببة للذين كفروا يتشبثون بها ويتنعمون فيها إما بتوسعة الرزق عليهم من الله سبحانه، أو بوسوسة الشيطان لهم بالتمتع فيها والإغراق في الشهوات واللذات.
أما الأول فيكون المزين لهم هو الله سبحانه لاستدراجهم على نحو قوله سبحانه {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران 178].وأما الثاني فيكون المزين هو الشيطان بوسوسته كما ذكرنا على نحو قوله سبحانه عن فعل إبليس - لعنه الله : {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].
كان الناس أمة واحدة:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}[البقرة:213].إن الناس كانوا في بداية عهد آدم - عليه السلام - بعد أن أخرجه الله من الجنة وأنزله على الأرض، كانوا مقرين لله بالعبودية مؤمنين به سبحانه، فكانوا أمةً واحدةً، والأمة هنا هي مجموعة من الناس بعقيدة واحدة.
ثم بعد ذلك اختلفوا فأصبح منهم المؤمن ومنهم الكافر، فبعث الله النبيين في أوقاتهم التي حددها سبحانه يبشرون المؤمنين برضوان الله والجنة وينذرون الكافرين بسخط الله والنار، وكان الله سبحانه ينزل معهم كتبه بآياته المبينة لهم الخير من الشر، وليحكم النبيون بينهم في كل ما يتنازعون فيه.غير أن تلك الأمم كانت تختلف على رسلها، وكان أشدها اختلافاً علماؤها وأحبارها ورهبانها، فهم الذين كانوا يغيرون ويبدلون في الكتب المنزلة عليهم بعد أن جاءتهم الدلائل القاطعة المبينة للحق من الباطل، أي أنهم كانوا يعمدون إلى الباطل يفعلونه وهم يدركون أنه باطـل، أي يضـلـون على علم دون حجة أو برهان بل استكباراً وعناداً وظلماً وعدواناً، أما الذين أخلصوا لله وصدقوا بما جاءهم رسل الله فأولئك كان الله سبحانه يهديهم سبيل الرشاد، ويبين لهم ما أدخله المختلفون على رسلهم من تحريف وتبديل ليبتعدوا عنه فلا يقعوا في الإثـم والضـلال بل ينجيهم الله من ذلك بمنِّه وفضله {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ومن فوائد هذه الآية:
أن دين الإسلام هو الفطرة؛ لقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة}.
ومنها: الحكمة في إرسال الرسل؛ وهي التبشير، والإنذار.
ومنها: أن النبوة لا تنال بالكسب؛ وإنما هي فضل من الله
ومنها: أن الشرائع التي جاءت بها الرسل تنقسم إلى أوامر، ونواه؛ لقوله تعالى: {مبشرين ومنذرين}؛ لأن الإنذار: عن الوقوع في المخالفة؛ والبشارة: لمن امتثل، وأطاع.
ومن فوائد الآية: أن الكتب نازلة من عند الله.
ومنها: أن الواجب الرجوع إلى الكتب السماوية عند النزاع
ومنها: رحمة الله عزّ وجلّ بالعباد، حيث لم يكلهم إلى عقولهم؛ لأنهم لو وكِلوا إلى عقولهم لفسدت السموات والأرض
ومنها: أن الناس لو رجعوا إلى الكتاب المنزل عليهم لحصل بينهم الاجتماع، والائتلاف.
ومنها: أن الخلاف بين الناس كائن لا محالة.
ومنها: أن فعل الذين اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات إنما كان ذلك بغياً منهم؛ لقوله تعالى: {بغياً بينهم}.
الامتحان بالبأساء والضراء مهر دخول الجنة:
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [204].
لقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} أي: الفقر {وَالضَّرَّاءُ} أي: الأمراض في أبدانهم {وَزُلْزِلُوا} بأنواع المخاوف حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}.
وهذه الحالة التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها مشبهة حال النبي ومن معه من المؤمنين، فيما دُفعوا إليه من بغي المشركين، ومقاتلتهم لهم، فقال: أم حسبتم أن تشتروا الجنة لتسكنوها، ولم تفعلوا أفعال من سبقكم من الأمم، فيما أصابهم من البأساء والضراء، وما نالهم من قتال الكفار من الشدة والمضرة، حتى استعجلوا النصر، ولما نفد صبرهم، أعلمهم سبحانه أن نصره قريب من أوليائه، غير بعيد عن أنصاره، وكذلك حالكم إذا عرفتم حالهم، وعاقبة أمرهم ومآلهم.{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} والتي هي شدة البؤس والفقر، {وَالضَّرَّاءُ} من ضروب الآلام والعذاب والخوف {وَزُلْزِلُوا} حركوا بأنواع البلايا والرزايا ليزحزحوا عن إيمانهم لما أنزل في قلوبهم من الجزع والخوف.
فالزلزال عبارة عن كمال الضر والمحنة والبؤس والخوف والترويع حتى ضاق صبرهم فقال رسولهم والمؤمنون معه: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}؟ أي: ضجوا إلى الله يستمطرون مدده ونصره.فعند ذلك قيل لهم على سبيل الإجابة للغوث والرحمة: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} هكذا كانت حالهم إلى أن أتاهم نصر الله فقد تذوقوا أنواع البلاء والشدة قبل أن يأتيهم النصر.
ولما كان هذا الابتلاء شديدا على النفوس، جاءت هذه الآية مسلية لأهل البلاء، ببيان السنة الكونية، فإن الإنسان إذا علمها، هان عليه احتمالها طلبا لما بعدها من تمكين في الدنيا والآخرة ، مصداق قوله تعالى : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.
ولقد عرف الصحابة رضي الله عنهما ذلك وصدقوه فتحملوا في سبيل الله أنواعاً فظيعة من الإيذاء وتكالب الأعداء، وثبتوا على دينهم ممتثلين لأمر الله وتوجيهه في هذه الآية ومثيلاتها في القرآن، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: ((إن من كان قبلكم كان يوضع المنشار على مفرق رأسه فينشر من رأسه إلى رجليه فلا يرده ذلك عن إيمانه)).
وروى قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نلقي من المشركين فقال: ((إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء فلم يصرفهم ذلك عن دينهم، حتى إن الرجل يوضع على رأسه المنشار فيفلق فلقتين ويمشط الرجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وايم الله ليتم هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون)).
هذا وبالله التوفيق..
التفسير الموضوعي: الآيات 214- 230 من سورة البقرة
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة