التفسير الموضوعي للقرآن الكريم: سورة البقرة: الآيات من 201-214

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور / أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

قال – تعالى- :{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ(210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب (214)} .

هاوية.
أما الرزق في الدنيا فالله يؤتيه من يشاء كافراً كان أو مؤمناً دون أن يحاسبه أحد على ذلك بل لحكمة من الله يستدرج الكفار بالتوسعة عليهم ليزدادوا إثماً، ويبتلي المؤمنين إن قدر عليهم رزقه ليزدادوا بذلك أجراً: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} التزيين للدنيا أي جعلها حلوة محببة للذين كفروا يتشبثون بها ويتنعمون فيها إما بتوسعة الرزق عليهم من الله سبحانه، أو بوسوسة الشيطان لهم بالتمتع فيها والإغراق في الشهوات واللذات.

أما الأول فيكون المزين لهم هو الله سبحانه لاستدراجهم على نحو قوله سبحانه {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران 178].

وأما الثاني فيكون المزين هو الشيطان بوسوسته كما ذكرنا على نحو قوله سبحانه عن فعل إبليس - لعنه الله : {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].

كان الناس أمة واحدة:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}[البقرة:213].

إن الناس كانوا في بداية عهد آدم - عليه السلام - بعد أن أخرجه الله من الجنة وأنزله على الأرض، كانوا مقرين لله بالعبودية مؤمنين به سبحانه، فكانوا أمةً واحدةً، والأمة هنا هي مجموعة من الناس بعقيدة واحدة.

ثم بعد ذلك اختلفوا فأصبح منهم المؤمن ومنهم الكافر، فبعث الله النبيين في أوقاتهم التي حددها سبحانه يبشرون المؤمنين برضوان الله والجنة وينذرون الكافرين بسخط الله والنار، وكان الله سبحانه ينزل معهم كتبه بآياته المبينة لهم الخير من الشر، وليحكم النبيون بينهم في كل ما يتنازعون فيه.

غير أن تلك الأمم كانت تختلف على رسلها، وكان أشدها اختلافاً علماؤها وأحبارها ورهبانها، فهم الذين كانوا يغيرون ويبدلون في الكتب المنزلة عليهم بعد أن جاءتهم الدلائل القاطعة المبينة للحق من الباطل، أي أنهم كانوا يعمدون إلى الباطل يفعلونه وهم يدركون أنه باطـل، أي يضـلـون على علم دون حجة أو برهان بل استكباراً وعناداً وظلماً وعدواناً، أما الذين أخلصوا لله وصدقوا بما جاءهم رسل الله فأولئك كان الله سبحانه يهديهم سبيل الرشاد، ويبين لهم ما أدخله المختلفون على رسلهم من تحريف وتبديل ليبتعدوا عنه فلا يقعوا في الإثـم والضـلال بل ينجيهم الله من ذلك بمنِّه وفضله {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

ومن فوائد هذه الآية:

أن دين الإسلام هو الفطرة؛ لقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة}.

ومنها: الحكمة في إرسال الرسل؛ وهي التبشير، والإنذار.

ومنها: أن النبوة لا تنال بالكسب؛ وإنما هي فضل من الله
ومنها: أن الشرائع التي جاءت بها الرسل تنقسم إلى أوامر، ونواه؛ لقوله تعالى: {مبشرين ومنذرين}؛ لأن الإنذار: عن الوقوع في المخالفة؛ والبشارة: لمن امتثل، وأطاع.

ومن فوائد الآية: أن الكتب نازلة من عند الله.

ومنها: أن الواجب الرجوع إلى الكتب السماوية عند النزاع
ومنها: رحمة الله عزّ وجلّ بالعباد، حيث لم يكلهم إلى عقولهم؛ لأنهم لو وكِلوا إلى عقولهم لفسدت السموات والأرض
ومنها: أن الناس لو رجعوا إلى الكتاب المنزل عليهم لحصل بينهم الاجتماع، والائتلاف.

ومنها: أن الخلاف بين الناس كائن لا محالة.

ومنها: أن فعل الذين اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات إنما كان ذلك بغياً منهم؛ لقوله تعالى: {بغياً بينهم}.

الامتحان بالبأساء والضراء مهر دخول الجنة:
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [204].

لقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} أي: الفقر {وَالضَّرَّاءُ} أي: الأمراض في أبدانهم {وَزُلْزِلُوا} بأنواع المخاوف حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.

ولكن لشدة الأمر وضيقه قال {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}.

وهذه الحالة التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها مشبهة حال النبي ومن معه من المؤمنين، فيما دُفعوا إليه من بغي المشركين، ومقاتلتهم لهم، فقال: أم حسبتم أن تشتروا الجنة لتسكنوها، ولم تفعلوا أفعال من سبقكم من الأمم، فيما أصابهم من البأساء والضراء، وما نالهم من قتال الكفار من الشدة والمضرة، حتى استعجلوا النصر، ولما نفد صبرهم، أعلمهم سبحانه أن نصره قريب من أوليائه، غير بعيد عن أنصاره، وكذلك حالكم إذا عرفتم حالهم، وعاقبة أمرهم ومآلهم.

{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} والتي هي شدة البؤس والفقر، {وَالضَّرَّاءُ} من ضروب الآلام والعذاب والخوف {وَزُلْزِلُوا} حركوا بأنواع البلايا والرزايا ليزحزحوا عن إيمانهم لما أنزل في قلوبهم من الجزع والخوف.

فالزلزال عبارة عن كمال الضر والمحنة والبؤس والخوف والترويع حتى ضاق صبرهم فقال رسولهم والمؤمنون معه: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}؟ أي: ضجوا إلى الله يستمطرون مدده ونصره.

فعند ذلك قيل لهم على سبيل الإجابة للغوث والرحمة: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} هكذا كانت حالهم إلى أن أتاهم نصر الله فقد تذوقوا أنواع البلاء والشدة قبل أن يأتيهم النصر.

ولما كان هذا الابتلاء شديدا على النفوس، جاءت هذه الآية مسلية لأهل البلاء، ببيان السنة الكونية، فإن الإنسان إذا علمها، هان عليه احتمالها طلبا لما بعدها من تمكين في الدنيا والآخرة ، مصداق قوله تعالى : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.

ولقد عرف الصحابة رضي الله عنهما ذلك وصدقوه فتحملوا في سبيل الله أنواعاً فظيعة من الإيذاء وتكالب الأعداء، وثبتوا على دينهم ممتثلين لأمر الله وتوجيهه في هذه الآية ومثيلاتها في القرآن، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: ((إن من كان قبلكم كان يوضع المنشار على مفرق رأسه فينشر من رأسه إلى رجليه فلا يرده ذلك عن إيمانه)).

وروى قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نلقي من المشركين فقال: ((إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء فلم يصرفهم ذلك عن دينهم، حتى إن الرجل يوضع على رأسه المنشار فيفلق فلقتين ويمشط الرجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وايم الله ليتم هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون)).

ولقد صدقهم الله وعده فتحقق ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأضعاف أضعافه.

نسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا الاستقامة في القول والعمل.

الشيطان يتدرج مع المؤمن في الإغواء، فيبدأ بالتوسع في المباحات، ثم التساهل في المتشابهات، فاقتراف محقرات الذنوب، حتى يصل به إلى الكبائر.

يتضمن الملحق:
المنافقون ومخالفة الباطن للظاهر
المؤمن وتحاشي خطوات الشيطان
أخذ العبرة والعظة من أحوال بني إسرائيل
حب الدنيا سبب للبعد عن الآخرة
كان الناس أمة واحدة