الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
بدليل أنَّ بعض الناس آمَن بدعوة الرسل وبعضهم كفر بها، ولكنَّها سبب فى حصول الاهتِداء، والسبب هنا قد اكتَمَل بإرسال الرسل ووصول دعوة وبلاغ الرسل إلى أُمَمِهم، فلا نقص إذًا فى السبب، إنما النقص يرجع إلى العبد الذى لم يَقبَل ولم يَنتَفِع بما جاءَتْ به الرسل بسب فساد الفطرة وطغيان المادة؛ قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [فصلت: 17]، ﴿هديناهم﴾؛ أى: بَيَنَّا لهم ودعوناهم، فاستحبُّوا العَمَى على الهدى؛ أى: بصَّرناهم وبيَّنَّا ووضَّحنا لهم الحقَّ على لسان نبيِّهم صالح، فخالَفُوه وكذَّبُوه وعَقَروا ناقة الله- تعالى- التى هى برهان على صدق نبيِّهم، فعدم الاهتِدَاء واقِعٌ بسبب القُصُور الحادِث فى المحلِّ القابِل للأثر وهو الإنسان، وليس فى قُصُور السبب، فكانت النتيجة أنْ أضلَّهم الله عقوبة على ترْك الاهتِداء وعدم الاستِجابة لما جاءَتْ به الرسل.
المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام والمعونة:
وهذه المرتبة أخصُّ من التى قبلها، فهى هداية خاصَّة تأتى بعد هداية البيان؛ تحقيقًا لقوله- تعالى-: ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: 76]، فلا تكون لملك مُقرَّب ولا نبى مُرسَل، إنما هى خاصَّة بالله وحدَه، فلا يقدر عليها إلا هو، ولا يُعطِيها إلا لِمَن حقَّق شروطها واستَوفَى أسبابها.﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15- 16].
وهذا النوع من الهداية هو الذى نَفَاه الله عن نبيِّه- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]، ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [النحل: 37].
وهذا النوع من الهداية يستَلزِم أمرَيْن:أحدهما: فعل الربِّ- تعالى- وهو الهدى بخلق الداعية إلى الفعل والمشيئة له.
الثاني: فعل العبد، وهو الاهتِداء وهو نتيجة للفعل الأول “الهدى”؛ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ [آل عمران: 73]، ﴿مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف: 17]، ولا سبيل إلى وجود الأثر الذى هو الاهتِداء من العبد إلا بعد وجود المؤثِّر الذى هو الهداية من الله، فإذا لم يحصل فعل الله لم يحصل فعل العبد، وهذا النَّوْعُ من الهداية لا يقدر عليه أحدٌ إلا الله- سبحانه- قال أهل الجنة: “الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله”.
كما أنَّ هذا النوع من الهداية هو الذى نَفَاه القرآن عن الظالمين والفاسقين والكاذبين والمسرف المرتاب، وكلُّ آية فى القرآن وردَتْ فى نفى الهُدَى فيجب حملها على هذا النوع؛ لأن هذا فضله يختصُّ به مَن يشاء من عباده، ولا حرج فى ذلك.المرتبة الرابعة: مرتبة الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة:
وهذه المرتبة- وهى آخِر مَراتِب الهداية- وهى الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة، وهو الصراط المُوصِل إليها، فمَن هُدِى فى هذه الدار الدنيا إلى صراط الله المستقيم الذى أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هُدِى يوم القيامة إلى الصراط المستقيم، المُوصِل إلى جنَّته ودار ثوابه، وعلى قدر ثُبُوت قدم العبد وسَيْرِه على هذا الصراط الذى نصَبَه الله لعباده فى هذه الدار الدنيا، يكون ثُبُوت قدمه وسيره على الصراط المنصوب على متْن جهنم؛ قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ . مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 22- 23]، ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ .
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد: 4- 6]، فهذه هداية بعد قتلهم؛ ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾؛ أى: إلى الجنة، وذلك يفسِّره قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [يونس: 9]، ﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾؛ أى: أمرَهم وحالَهم ويَعصِمهم أيَّام حياتهم فى الدنيا، ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ أى: عرَّفهم بها وهداهم إليها.
كيف نستقيم على الهداية:
أولا: بتوفيق الله فأساس الهداية توفيق الله كلكم ضال إلا من هديته فمرد الأمر إلى فضل الله وهل أحد يستطيع أن يعمل بدون توفيق الله وإعانته وتيسيره وتسديده فالاستقامة على طاعة الله لا يثبت عليها ولا يرزقه الاستدامة عليها بشيء أعظم من توفيق الله للعبد وإذا حرم العبد التوفيق حرم الثبات على طاعة الله والخير، فأول ما تبدأ به انزع من قلبك أى منة وانزع من قلبك الشعور بالحول والقوة وتبرأ من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته. فالمهتدى دائما يخاف من الانتكاس فى كل لحظة فالهداية منةٌ من الله.
ثانيا الإخلاص والمتابعة وإذا رزق الله العبد الإخلاص رزقه سبيل الخلاص وإذا رزقه الإخلاص فتح فى وجهه أبواب الرحمة فما سلك طريق إلا سهله الله له وما أراد بابا من الخير إلا فتحه الله له ومن اطلع الله على قلبه فرأى فيه الإخلاص والصدق إلا ثبته ونفحه برحمته وأحبه ووضع له القبول فى الأرض ومن هنا يجتهد العبد من أول لحظة يذوق فيها الطاعة أن يكون عبدًا لله فيكون قوله لله وعمله لله وسعيه لله وعلمه لله وفى هذا يقول الحسن البصرى (( والله ما نطقت بلسانى ولا نظرت ببصرى ولا سمعت بأذنى ولا مددت يدى ولا مشيت برجلى حتى انظر هل هى لله أم لغير الله فان كانت لله تقدمت وان كانت لغير الله تأخرت)).
ثمرات وفوائد الاستقامة على الدين:1. امتثال لأمر الشرع الذى أمر الله- تبارك وتعالى- نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- به، والخطاب للرسول- عليه الصلاة والسلام- خطاب لأمته من بعده، ففى الاستقامة على الدين امتثال لهذا الأمر.
2. هى التى تقى العبد من الوقوع فى المعاصى والذنوب، وتبعث فى نفس العبد النشاط فى طاعة الله- عز وجل-، والسعى الحثيث فى كسب مرضاته، واكتساب الأجور.
3. الرزق العاجل فى الحياة الدنيا قال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾ [ الجن: 16]، فنتيجة الاستقامة هى الرزق العاجل فى الدنيا، وقد ذكر الله- عز وجل- أن اليهود والنصارى لو تمسكوا بدينهم لرزقهم الله، فهى سنة إلهية، “وهذا كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [ المائدة: 66]، وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [ الأعراف: 96]، وكلها نصوص على أن الأمة إذا استقامت على الطريقة القويمة شرعة الله لفتح عليهم بركات من السماء والأرض، ومثل ذلك قوله- تعالى-: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾ [ نوح: 10-12]، ومفهوم ذلك أن من لم يستقم على الطريقة فقد يكون انحرافه أو شركه موجباً لحرمانه من نعمة الله- تعالى- عليه كما جاء صريحاً فى قوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾[ الكهف: 32-34]
4. الأمن من الخوف كما قال الله- عز وجل-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [ فصلت: 30].5. تولى الله- عز وجل- للمستقيمين قال تعالى: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ [فصلت: 31]، فالمستقيم على هذا الدين يكون الله- تبارك وتعالى- وليه فى الدنيا والآخرة ﴿وَفِى الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾.
6. الاستقامة تجعل العبد على دوام صلة بالله- عز وجل-، وتبعث فى النفس طمأنينة، وفى القلب راحة، حيث أن الذى استقام على دين الله عرف حق الله فقام به على الوجه الذى يرضيه- سبحانه وتعالى-.
7. استحقاق دار السلام التى أعدها الله- تبارك وتعالى- حيث قال- عز وجل-: ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ . لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[ الأنعام: 126-127].
هذه بعض ثمرات الاستقامة التى يجنيها المسلم حين يتمسك بدينه، ويستقيم على المنهج الذى ارتضاه الله- عز وجل– له نسأل الله رب العرش الكريم الاستقامة على هذا الدين، والتمسك بسنة الحبيب- صلى الله عليه وسلم-، والسير على نهجه إلى يوم القيامة، إنه نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.
مباحث الملحق:
* علامات الهداية
* الاستقامة علي الهداية
* أسباب الاستقامة
* مراتب الهداية
* ثمرات وفوائد
الاستقامة على الدين
التفسير الموضوعي للقرآن الكريم لفضيلة الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض سورة الفاتحة (3)
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة