التفسير الموضوعي للقرآن الكريم لفضيلة الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض سورة الفاتحة (2)

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

 الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة يونس الآيات (62-64).
الركن الثاني- الرجاء:
والرجاء من الأمل نقيض اليأس.

قال ابن القيم رحمه الله: “ الرجاء: حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيِّب لها السير. وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الربِّ تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه. وقيل هو الثقة بجود الربِّ تعالى” (مدارج السالكين (2/35).
والرجاء ركنٌ في العبادة، والمراد به هو أن يفعل العبد العبادة بدافع – أيضًا – الرجاء في ثواب الله ورحمته ورجاء مرضاته، لأنه هو النافع فهو المرجو جلَّ وعلا وحده دون ما سواه.

والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه، ودليل كونه مقربًا إلى الله قوله تعالى في وصف بعض أنبيائه وذكر عبادتهم والدافــع لها، فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين} سورة الأنبياء الآية (90).

وأخبر تعالى عن خواص عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقرَّبون بهم إلى الله تعالى أنهم كانوا راجين له خاضعين، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} سورة الإسراء الآيتان (56-57).

كما وصف المؤمنين أنهم يرجون الله طمعًا في ثوابه والقرب منه فقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} سورة السجدة الآية (18).

وقال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} سورة الزمر الآية (9).
وأخبر عن الصحابة المهاجرين الذين فرُّوا بدِينهم وتركوا أموالهم وأولادهم وأوطانهم وما عملوه في الإسلام والدافع لذلك، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة البقرة الآية (218).

وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي» الحديث أخرجه الترمذي رقم (3534) في الدعوات.

وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتن أحدكم إلاَّ وهو يحسن الظن بربه»( أخرجه مسلم رقم (2877) في صفة الجنة، وأبو داود رقم (3113) في الجنائز).

الركن الثالث- الخوف:
فكما أنَّ المسلم يعبد ربَّه تبارك وتعالى حبًّا له ورجاءً لثوابه وطمعًا في جنته، فإنه كذلك يعبده خوفًا من عقابه وحذرًا من ناره..
والخوف:

قال أبو القاسم الجنيد: هو توقع العقوبة على مجاري الأنفاس.
وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكُّر المخوف.
وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره..
والوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة، والخشية أخصُّ من الخوف

حلاوة العبادة  :
وهذه تتفاوت من شخص لآخر حسب قوة الإيمان وضعفه: {مَنْ عَمِلَ صَالِـحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وهذه الراحة والطمأنينة والسعادة تكون بعبادة الله وحدَه، وتعلُّق القلـب به، ودوام ذكره.

قال ابن القيم: «والإقبال على الله - تعالى - والإنابة إليه والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته واللَّهَج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة».

وأما من أعرض عن هدى الله، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيعيش عيشة القلق والضنك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124]. فهو «لا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيِّق حرج لضلاله وإن تنعَّم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشكٍّ؛ فلا يزال في رَيبه يتردَّد؛ فهذا من ضنك المعيشة».

وثمة أسباب للحصول على حلاوة العبادة، منها:
أولاً: مجاهدة النفس على العبادة وتعويدها، مع التدرج في ذلك:
قال ابن القيم: «السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف، ومشقة العمل لعدم أُنْس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت (أي الصلاة) قرة عين له، وقوة ولذة».

وقال ثابت البناني: «كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة».

وقال أبو يزيد: «سُقْتُ نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك».

قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. فإذا جاهد العبد نفسه هداه الله وسهل له الوصول إلى ما جاهد نفسه إليه.

ثانياً: الإكثار من النوافل والتنويع فيها على اختلاف صفاتها وأحوالها:
حتى لا تمل النفس، وحتى تُقبِل ولا تدبر؛ فتارة نوافل الصلاة، وتارة نوافل الصوم، وتارة نوافل الصدقة... إلخ؛ فإن ذلك مما يورث محبة الله؛ كما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه أن الله يقول: «وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه...». فـ «من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل قربه إليه، ورقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه؛ حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهَداً له بعين البصيرة».

ثالثاً: التأمل في سير الصالحين:
قال جعفر بن سليمان: «كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع كأنه وجه ثكلى»، وهي التي فقدت ولدها. وكان ابن المبارك يقول: «إذا نظرت إلى فضيل بن عياض جُدِّد لي الحزن، ومقتُّ نفسي»، ثم يبكي.

رابعاً: قراءة القرآن وتدبر معانيه، والوقوف عند عجائبه:
فإن في القرآن شفاءً للقلوب من أمراضها، وجلاءً لها من صدئها، وترقيقاً لما أصابها من قسوة، وتذكيراً لما اعتراها من غفلة، مع ما فيه من وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، وبيان أحوال الخلق بطريقَيْهِم (أهل الجنة، وأهل السعير)، ولو تخيل العبد أن الكلام بينه وبين ربه كأنه منه إليه لانخلع قلبه من عَظَمة الموقف، ثم يورثه أُنْسَ قلبه بمناجاة ربه، وَلَوَجَد من النعيم ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان، وخصوصاً تدبُّر ما يتلا في الصلوات.

خامساً: الخلوة بالله - تعالى - والأنس به:
بحيث يتخير العبد أوقاتاً تناسبه في ليله أو نهاره يخلو فيها بربه، ويبتعد فيها عن ضجيج الحياة وصخبها، يناجي فيها ربه يبثه شكواه، وينقل إليه نجواه، ويتوسل فيها إلى سيده ومولاه. فكم لهذه الخلوات من آثار على النفوس، وتجليـات على القلـوب؟ قيـل لمالك بن مغفـل - وهو جالس في بيته وحده -: ألا تستوحش؟ قال: أَوَ يستوحش مع الله أحد؟ وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: «من لم تقرَّ عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنـس بك فلا أَنِـس». وقـال ذو النـون - رحمه الله -: «من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه».

سادساً: البعد عن الذنوب والمعاصي:
فكم من شهوة ساعة أورثت ذلاً طويلاً، وكم من ذنب حرم قيام الليل سنين، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، ويكفي هنا قول وهيب بن الورد حين سئل: «أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: لا، ولا من همَّ».

قال ابن الجوزي: «فرب شخص أطلق بصره فحرمه الله اعتبار بصيرته، أو لسانه فحُرِم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه، فأظلم سره وحُرِم قيام الليل، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك».

فالذنوب داء القلوب. قال يحيى بن معاذ: «سَقَمُ الجسد بالأوجاع، وسَقَمُ القلوب بالذنوب؛ فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، فكذلك القلب لا يجد حلاوة العبادة مع الذنوب».

سابعاً: التقلل من المباحات:
قال أحمد بن حرب: «عبدتُ الله خمسين سنة فما وجدت حلاوة العبادة حتى تركت ثلاثة أشياء: تركت رضا الناس حتى قدرت أتكلم بالحق، وتركت صحبة الفاسقين حتى وجدت صحبة الصالحين، وتركت حلاوة الدنيا حتى وجدت حلاوة الأخرى... ».

قال العلاَّمة ابن القيم: «غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر: إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله - تعالى - فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله - عز وجل - خيراً منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب، فيبعث رائده لنظر ما هناك فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله تحرك اشتياقاً إليه، وكثيراً ما يتعب ويُتعِب رسوله ورائده. فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة فمن أطلق لحظاته دامت حسراته...».

مكانة الدعاء
ولا بد ألا نغفل عن جانب مهم من العبادة وهو الدعاء :
ومما يبين مكانة الدعاء العظيمة ومنزلته الرفيعة افتتاح القرآن واختتامه بالدعاء وسورة الفاتحة تشتمل على نوعي الدعاء : دعاء العبادة ودعاء المسألة وختم بالمعوذتين وهي كلها مبنية على الدعاء .

الدعاء يشتمل على خصائص جليلة ومزايا كثيرة لا توجد في غيره من أنواع العبادات :
-نفع الدعاء يقع في الحياة والممات حيث ثبت انتفاع الميت بدعاء الأحياء من ولد أو والد أو قريب قال صلى الله عليه وسلم ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : منها ولد صالح يدعو له).

- سهولة الدعاء وعدم تقيده بزمان ولا مكان ولا حال .

-اشتماله على حضور قلبي لا يوجد في غيره ، فإن من تعبد بالصلاة والزكاة والصيام يغلب عليه فيها الغفلة فإذا دعا استدعى ذلك له حضور في قلبه .

-اشتماله على التذلل وإظهار الفاقة وذل العبودية وعز الربوبية.

-الدعاء يجتمع فيه أنواع العبادات ما لا يجتمع في غيره :
-توجه القلب إلى المدعو وقصده بكليته .

-رجاء إجابته للدعاء والرغبة إليه رغبة صادقة مع قطع الرجاء والأمل عن غيره.

-الخوف من عدم إجابته والرهبة والخشية منه .

-التوكل والاعتماد عليه في قضاء الحاجات .

-تعظيم المدعو بأنواع التعظيم من التضرع والتذلل والخضوع والتملق والانطراح بين يديه
-ذكر المدعو باللسان واللهج باسمه في السر والعلن وندائه والاستغاثة به والهتاف باسمه .

-محبة المدعو فإن النفس مولعة بمحبة من يحسن إليها .

-التواضع وإظهار الفقر والحاجة والانكسار بين يدي الله تعالى و التذلل له و التبري من الحول و القوة إلا به.
-البكاء ورفع اليدين إلى السماء .

-الإخلاص يقوى في الدعاء بالذات .

نسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا الإخلاص في العبادة والدعاء وأن يقبل لنا الأعمال إنه نعم المولى ونعم النصير.