كتاب (ولا تيأسوا)

عرض كتاب
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

maxresdefault

إن المتأمل في حياة البشر يجد أن كثيرًا منهم تتوالى عليه ضغوط الحياة ومشاكلها ، ويجد نفسه محاصرًا بين صراعات كثيرة ، تصيبه بالألم واليأس والإحباط ، وقد يستغرق وقتًا طويلًا كي يستعيد توازنه مع نفسه ، وتشرق عليه علامات الأمل والتفاؤل وعدم اليأس، وهكذا يتذكر المسلم قوله تعالى: { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ سورة يوسف: 87 ].

فلا تيأسوا من روح الله، إن الكون كله ملك لله، يتصرف فيه كيف يشاء { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران: 26] فتلك سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير، وكما أن الله - سبحانهقد جعل الابتلاء للمؤمنين سنة جارية، فإنه قد جعل أخذ الظالمين سنة جارية في الكون .

إن واقع المسلمين، وما يحدث لهم من تشريد وقتل واغتصاب، وما ينشر بينهم من تفكك وضعف وانحصار، وكثرة المآسي أصابت ذوي الأخلاق الحميدة، والنفوس الشريفة ببعض اليأس والإحباط، وعاش البعض في حالة من اليأس والقنوط، يرى الحياة كأنها ظلمات، وأصبح عبوسًا مهمومًا متشائمًا .

ولذا نرى أنه من الواجب في هذه المقدمة أن نبث روح الأمل في نفوسنا، وأن نعلم أن المستقبل لا بدَّ أن يكون حتمًا للإسلام والمسلمين، فالله عز وجل يقول: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ الصف : 9] .

الإسلام يحثّ على الرجاء والأمل ويدعو إلى التفاؤل الإيجابي الدافع للعمل من أجل التصحيح والتطوير

اليأس في القرآن الكريم :

ذكر بعض المفسرين أن اليأس في القرآن الكريم على وجهين : أحدهما القنوط { وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [ يوسف : 87]. فعبر باليأس عن القنوط ؛ لأن القنوط ثمرة اليأس .

الثاني: العلم، { أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } [ الرعد : 31] أي : أفلم يعلموا

وقد عد ابن حجر اليأس من رحمة الله تعالى من الكبائر، مستدلًّا بقوله – سبحانه - : { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } وبعد أن ذكر عددًا من الأحاديث المبشرة بسعة رحمته – عز وجل – قال : عد هذه كبيرة هو ما أطبقوا عليه، وهو ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد.  

كتاب ولا تيأسو.jpg2

واختلف الفقهاء في قبول توبة اليائس الذي يشاهد دلائل الموت، وقطع الأمل من الحياة :

فذهب جمهور الفقهاء ((المالكية والشافعية والحنفية)) في قول إلى أنها لا تقبل لقوله تعالى { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء : 18 ]

وقفة مع معاني الآيات الواردة في اليأس :

قال تعالى { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ هود 9 - 11] يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين، فإنه إذا أصابته شدة بعد نعمة، حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل، وكفر وجحود لماضي الحال، كأنه لم ير خيرًا، ولم يَرْج بعد ذلك فرجًا، وإذا أصابه ضر أو فقر ، بَطِرَ ، فان سأل سائل : ما وجه عيب الإِنسان في قوله : { ذهب السيئات عني } ، وما وجه ذمه على الفرح ، وقد وصف الله الشهداء فقال : { فرحين } فيجاب بقوله : إِنما عابه بقوله: { ذهب السيئات عني} لأنه لم يعترف بنعمة الله ، ولم يحمَده على ما صُرف عنه ، وإِنما ذمه بهذا الفرح ، لأنه يرجع إِلى معنى المرح والتكبُّر عن طاعة الله. ويقول تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا } [الإسراء] .

خامسًا : موقف السنة النبوية من اليأس :

لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، فالمؤمن لا يعجز، ولا يتكاسل، ولا ييأس من رحمة الله ولا نصره، وهو يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ))

وبيَّن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ ، قَالَ : لا فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا؛ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ ».

والشاهد من الحديث أن الرجل حينما يئس من التوبة تمادى في القتل ، وهكذا يفعل إذا يئس من ضل الطريق وأفسد في الأرض من النجاة فإنه يزداد عنفًا وضراوة وشراسة.

4كتاب ولا تيأسو.jpg3

سادسًا: من أقوال العلماء عن اليأس:

يروى أن رجلاً سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به هل له من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود، ثم التفت إليه؛ فرأى عينيه تذرفان؛ فقال له

الطريق إلى الجنّة يحتاج إلى صبر على الطاعة وصبر عن المعاصي، والطريق إلى النار محفوفٌ بالشهوات

: إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكاً موكلاً به لا يغلق؛ فاعمل ولا تيأس.

سابعًا : مضار اليأس وفوائد الرجاء والأمل :

الأمل ضياء ساطع في ظلام الخطوب، ومرشد حاذق في بهماء الكروب، وعلم هادٍ في مجاهيل المشكلات، وحاكم قاهر للعزائم إذا اعترتها فترة، ومستفز للهمم إذا عرض لها سكون

وفي المقابل فإن اليأس من الأمراض القاتلة للنفس البشرية، وهو أشد ما تحاربه الشريعة الإسلامية ؛ لأن الحياة حركة وفعالية، والشوق جوادها، وهو مطية الهمة لنشد معالي الأمور في ميادين معركة الحياة، أما اليأس فهو العدو الألد الذي يفت من قوة الهمة، ولذلك فقد جعله الله من صفات الكافرين حيث لا يأس مع الإيمان، ولا إيمان مع اليأس، ويظهر هذا واضحًا في الآية الكريمة {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [ يوسف : 87 ] .

إن اليأس كما يقول الإمام النورسي يعرض للإنسان لأن تتخطفه الشياطين في أودية مهلكة، وذلك إذا وصل حدودًا بعيدة في الخوف من العذاب لدرجة تؤدي به إلى اليأس والإحباط، فيقول : اعلم أنك إذا تدهشت من العذاب ما وفقت للعمل، تتمنى عدم العذاب فتتحرى ما ينافيه، فترى الأمارات المنافية براهين، فتخطفك الشياطين، فاستمع بقلب شهيد إلى قوله – تعالى - : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53] .

يتضمن الكتاب :

الأول: اليأس مفهومه وحكمه وطرق التغلب عليه.

الثاني: أبواب الفرج بعد الضيق في حياة الأنبياء عليهم السلام.

الثالث: أبواب الفرج بعد الضيق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

الرابع: مواقف الصبر والفرج في حياة المؤمنات .

الخامس : أبواب الثبات والفرج بعد الضيق في حياة العلماء.

الفصل السادس : مواجهة الابتلاء بالإيمان واليقين.

السابع : من أبواب الحسنات فرح وفرج للمسلمين.

الثامن : أبواب الفرج في ذكر الله والدعاء والاستغفار.

التاسع : صور معاصرة لليسر بعد العسروالفرج بعد اليأس.

العاشر: الطاعة طريق الأمل .

الحادي عشر: أسئلة حائرة عند أصحاب البلاء.

 

ثامنًا : كيف عالج القرآن اليأس وانحطاط الهمة ؟ :

عالج القرآن اليأس في محورين رئيسين :

المحور الأول : الآيات التي تدعو إلى التوحيد مما يبعث الأمل والأمان في القلوب : {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الزمر : 62 - 63] { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } [ الأحزاب: 3] { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58] { فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الروم : 50] .

فالإيمان إذن يقتضي التوحيد، والتوحيد يقود إلى التسليم، والتسليم يحقق التوكل، والتوكل يسهل الطريق إلى سعادة الدارين، ويبعد اليأس عن الإنسان، ويرتفع به إلى أعلى عليين، بما يمده من قوة الإيمان، أما إذا ترك الإنسان التوكل، فلا يستطيع التحليق والطيران إلى الجنة فحسب، بل ستجذبه تلك الأثقال إلى أسفل سافلين .

والإيمان نور، فإذا استقر نور الإيمان في هذا الإنسان، لبين ذلك النور جميع ما على الإنسان من نقوش حكيمة، فيقرؤها المؤمن بتفكر، ويشعر بها في نفسه شعورًا كاملًا، ويجعل الآخرين يطالعونها ويتملونها، أي : كأنه يقول : هذا أنا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقه، انظروا كيف تتجلى فيَّ رحمته وكرمه، وتصطبغ الكائنات في نظره بالنور الإلهي .

فليس الزمن الغابر كما يتوهم اليائس مقبرة عظمى، بل يشهد ببصيرة القلب، كل عصر من العصور الماضية زاخر بوظائف عبودية تحت قيادة نبي مرسل، أو طائفة من الأولياء الصالحين، ويخترق حجب المستقبل فيرى الموت مقدمة لحياة أبدية، ويرى القبر باب سعادة خالدة، ويتيقن أن كل حادثة من حوادث الكون – كالأعاصير والزلازل والطاعون وأمثالها – إنما هي مسخرات موظفات مأمورات، ويرى أن عوصف الربيع والمطر وأمثالها من الحوادث التي تبدو حزينة سمجة ما هي في الحقيقة والمعنى إلا منار الحِكَم اللطيفة .

وهكذا تتحرر النفس البشرية من كل دواعي اليأس الذي يقوض أركانها.

المحور الآخر: استنهاض الهمة إلى أقصى مدى

إن إحساس الإنسان باليأس ينتج أيضًا من انحطاط الهمة، والانشغال بسفاسف الأمور، حيث يستغل الشيطان حب الراحة والدعة لدى الإنسان؛ فيصرفه عن الإيمان بدسائس ومكائد خبيثة، تصيبه بالغفلة وانحطاط الهمة، فيقعده عن معالي الأمور، ويقذف به في هاوية السفالة والذلة .

لذلك فقد جعل القرآن الكريم للعمل منزلة مقدسة سامية، واستحث الإنسان أن يسعى في الأرض لاستنطاق أسرارها، واستخراج خيراتها ؛ لأن إعلاء كلمة الله في الأرض، يتوقف على الرقي المادي، فقال – تعالى - : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} [ التوبة : 105] { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } [ النجم : 39] .

1كتاب ولا تيأسو

لقد أدرج الله – سبحانه وتعالى - لكمال كرمه جزاء الخدمة في الخدمة نفسها، وأدمج ثواب العمل في العمل نفسه.

ولأجل هذا كانت الموجودات قاطبة تمتثل الأوامر الربانية بشوق كامل، وبنوع من اللذة عند أدائها لوظائفها الخاصة بها، والتي يطلق عليها الأوامر التكوينية، فكل شيء ابتداء من النحل والنمل والطير، وانتهاء إلى الشمس والقمر كل منها يسعى بلذة تامة في أداء مهماتها، أي: اللذة كامنة في ثنايا وظائف الموجودات حيث إنها تقوم بها على وجه من الإتقان التام، برغم أنها لا تعقل ما تفعل ، ولا تدرك نتائج ما تعمل .

فتأمل في وظائف أعضائك وحواسك ترى أن كلًّا منها يجد لذائذ متنوعة أثناء قيامه بمهامه، في سبيل بقاء الشخص أو النوع، فالخدمة نفسها والوظيفة عينها تكون بمثابة ضرب من التلذذ والمتعة بالنسبة لها، بل يكون ترك الوظيفة والعمل عذابًا مؤلمًا لذلك العضو .

تاسعًا : دعوة إلى التفاؤل وترك اليأس :

اليأس هو العدو الألد الذي يفت من قوة الهمة لذلك جعله الله من صفات الكافرين فلا يأس مع إيمان ولا إيمان مع يأس

 

اليأس يعني انطفاء جذوة الأمل في الصدر، وانقطاع الرجاء في القلب، فهو العقبة الكئود والمعوق القاهر الذي يحطم في النفس بواعث الأمل، ويوهي في الجسد داوعي القوة، وصدق الشاعر :

واليأس يحدث في أعضاء صاحبه                       ضعفًا ويورث أهل العزم توهينًا

عاشرًا : التفاؤل حياة :

إن أمتنا تعيش أزمة حقيقية، وتمرُّ بأوقات عصيبة، وفترة ضعف بينة، فقد ضعف تمسكنا بديننا، وعظمت غفلتنا، وكثر لهونا، وشكك عدونا (الداخلي والخارجي) بالأصول والمنطلقات، وبث فكره المناقض، ومكَّن للمناهج البدعية الدخيلة على الأمة، وأزهق الأرواح، واستباح الحرمات، ونهب الخيرات، وعمَّق الفرقة، واستهدف بشدة بواعث المجابهة، ومقومات النهوض المعنوية والمادية .

ومن حق كل من يعيش همَّ الأمة، ويشعر بمسؤولية نحوها أن يحزن، ويتألم، وأن يكثر من التضرع والدعاء، وسكب العبرات، وليس ذلك مجرد أمر يمكن فعله، بل هو إلى هذا الحد جانب مطالب به كل صادق غيور .

ولا تعارض بين هذا، وبين ما نحن بصدد تقريره من حرمة اليأس، وبيان خطر الإحباط، ومن ضرورة التفاؤل، ووجوب القيام برفع راية الأمل، ومناداة الدعاة والمصلحين، بل وكافة أبناء الأمة، ذكورًَا وإناثًا، شبابًا وشيبًا إلى الانضواء تحتها، وعدم الابتعاد كثيرًا عن ظلالها .

لقد جاء الإسلام حاثّاً على الرجاء والأمل، وداعياً إلى التفاؤل الإيجابي الدافع للانطلاقة والعمل من أجل التصحيح والتطوير، بل إن اليأس والقنوط والإحباط والتشاؤم جوانب ليست بداخلة في نسيج التفكير الإسلامي البتة، مهما أحاطت بالمؤمن الشدائد، وادلهمت الخطوب، وغيم الجو وتلبد.

الطريق إلى الأمل والتفاؤل، يأتي عن طريق:

- أن يتعرف على الله ـ تعالى ـ ومدلول أسمائه وصفاته حق المعرفة؛ حتى يتمكن - واقعاً وسلوكاً لا مجرد دعوى - من إحسان الظن به ـ سبحانه ـ والاطمئنان إلى تحقق موعوده ـ عزّ وجل .

كتاب ولا تيأسو.jpg3

ـ القراءة في تاريخ البشرية الطويل، ومطالعة سِيَر الأنبياء والمصلحين، والذين كانوا يتحسسون في الدجى مفاتيح الفرج وسط أكوام القش، ويثابرون في البحث عنها؛ حتى يكرمهم الله ـ تعالى ـ بما نذروا أنفسهم له؛ من هداية أقوامهم، وإخراج أممهم من الظلمات إلى النور.

ـ وأن يتعرف الشخص على نفسه الأمَّارة بالسوء: الداعية للشر، فيجاهدها، ويعيد تشكيل حياته بصورة تمكنه من استثمار طاقتها، ويبعدها عن الملهيات .

ـ وأن يبتعد عن الأطروحات المثالية غير القابلة للتنفيذ بمفردها أو بمجموعة الجوانب التي تتكامل معها في دنيا الواقع، فلا بد من العيش في بيئة يقوم فيها بعمل أفضل ما يمكن تنفيذه، في حدود الهمم الحاضرة، والإمكانات المتاحة مهما كانت ضعيفة؛ لأن استثمار الفرص المتاحة هو المولِّد للفرص، والمهيئ للمعالجة وقبول النصيحة، فمن مضي في دربه الصحيح نحو هدفه قدر على تحقيقه ولو بعد حين.

ـ الابتعاد عن أحاديث اليائسين ومرافقة المحبَطين: زراع الهزيمة، الذين يعظمون قوة العدو، وسطحيي النظرة، واستعجالٍ النتائج، ويستبدلهم بأهل المبادرة، وأهل الإنجاز والعمل.

- والتأمل في قوة الإسلام الذاتية وما يمتلكه من إبهار وجاذبية ونقاء، والفرح بإقبال الأمة على الإسلام من جديد، في مقابل إفلاس المناهج الوضعية في علاج مشاكل الإنسانية بعامة، وأمتنا بصفة خاصة.

ـ وأن يقوم بنشر ثقافة التفاؤل، وفتح بوابات الأمل، أمام أبناء الأمة لخدمة هذا الدين، كلٌ في المجال الذي يمكنه ويجد نفسه فيه، مدركاً أن الليل مقدمة الإصباح، والظلمة أول بشائر النور، وأن الجدب يتلوه الغيث، والحياة في أحيان كثيرة لا تنبثق إلا من باطن الأرض الموات.

- إن من أهم ركائز الأمل ومتطلبات التفاؤل: سعة الأفق، وبُعد النظر، وطول النَّفَس، والصبر والمصابرة، وإعطاء المعالجة والبناء المدى الزمني الذي يحتاجان إليه .

فهيَّا إلى التفاؤل وقراءة الأحداث والمواقف بنفسية متزنة، ورؤية واعية عميقة، متفائلة غير مغرقة في نظرية المؤامرة؛ فإنه لا سبيل لركوب دروب العزة، والوصول لساحة الكرامة في الدنيا والسعادة في الآخرة إلا من خلال ذلك.

- الطاعات طريق الأمل

- اليقين بأن الله قادر على إبدال العسر يسرًا:

وعد من الله (تبارك وتعالى) وهو لا يخلف الميعاد{ فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً (5) إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً} [الشرح : 5، 6] ، وإذا جاز تخلف وعود البشر وتبدل قوانينهم، فوعد الله لا يتخلف، وسنة الله لا تتبدل إنه وعد من الله -سبحانه - يتجاوز حدود الزمان والمكان، ولا يقف عند حدِّ من وما نزلت فيه الآيات .

وقد فهم من الآية الكريمة السلف الصالح هذا المعنى الواسع، فقالوا : لن يغلب عسر يسرين، وقالوا : لو كان العسر في جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه. بل يربط الله ذلك بالتقوى :{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق : 4].

وسنة الله - تبارك وتعالى - : أنه حين تشتد الأزمات وتتفاقم : يأتي اليسر والفرج، أرأيت كيف فرج الله للأمة بعد الهجرة وقد عاشت قبلها أحلك الظروف وأصعبها ؟ وفي الأحزاب حيث بلغت القلوب الحناجر وظن الناس بعدها الظنون، بعد ذلك كانت مقولة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي مقولة صدق : ((الآن نغزوهم ولا يغزوننا)) وحين مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وضاقت البلاد بأصحاب النبي، وارتد العرب، وأحدق الخطر : ما هي إلا أيام وزال الأمر، وتحول المسلمون إلى فاتحين لبلاد فارس والروم، وصار المرتدون بإذن الله بعد ذلك جنوداً في صفوف المؤمنين .. والعبر في التاريخ لا تنتهي.

أضف إلى ذلك : أن المسلم يشعر أن الأمور بقدر الله، وأنه - تبارك وتعالى- قد كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وأن قدره وقدرته فوق كل ما يريد ويكيد البشر .

وثالثة : أن الأمر قد يكون في ظاهره شرًّا، ثم تكون العاقبة خيرًا بإذن الله، أرأيت حادثة الإفك وفيها من الشناعة والبشاعة ما فيها، ومع ذلك هي بنص القرآن :{لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور : 11].

ورابعة : أن الفساد وإن كان الواجب رفضه شرعاً والسعي لدرئه، إلا أنه أحد روافد الإصلاح، وفي التاريخ عبرة : ألم يكن اجتياح التتار والمغول لبلاد الإسلام، والغزو الصليبي .. رافداً مهمّاً من روافد يقظة الأمة ونهوضها، بعد أن وصلت إلى مرحلة شبيهة بما نحن فيه اليوم ؟

فما أجدر بالصالحين اليوم أن ينظروا بعين التفاؤل، وأن ينصرفوا للعمل والجد، ويَدَعُوا عنهم اليأس والتخذيل ؛ فكيد أهل الفساد في بوار، ودين الله ظاهر { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون :8].

5كتاب ولا تيأسو.jpg3

- الرجوع إلى طاعة الله – سبحانه وتعالى – سبيل النجاة :

الرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في التماس سبل النجاة من الفتن والمهلكات، ولفت الأنظار إليهما بعد أن ابتعد كثير من الناس عنهما، والتأكيد أنه ما من خير إلا دلاّ عليه، وما من شر إلا حذّرا منه .

قال تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام : 38]، كما أن السنة النبوية ما تركت من فتنة ولا شر يأتي على هذه الأمة إلى قيام الساعة إلا وألمحت إليه، وحذرت منه، وحددت سبيل النجاة منه ؛ فلا عذر لنا في ترك ما فيه حياتنا وسبيل نجاتنا : كتابِ الله عز وجل وسنةِ نبيه .

     وشيء آخر يتعلق بهذا الأمر ألا وهو لفت الأنظار إلى ذلك الانقياد العظيم من سلفنا الصالح لهدي الكتاب والسنة في الفرار من الشرور والفتن وضرورة الاطلاع الدائم على تلك المواقف العملية الموفقة من سلفنا الصالح إزاء الفتن، والزوابع، وضرورة الاقتداء بهم في تلك المواقف النبيلة المهتدية بالكتاب والسنة.

- الاستقامة تطرد الخوف والحزن :

قال الله تعالى: { فاسْتَقمْ كَما أُمْرتَ } [هود: 112] وقال تعالى: {إنَّ الَّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهمُ المَلائكَةُ أن لا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشرُوا بالْجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلياؤُكُمْ في الحَياة الدُّنْيَا وَفي الآخرَةِ وَلَكُمْ فيهَا مَا تَشْتَهي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً منْ غَفُورٍ رَحيمٍ} [فصلت: 30، 32].

ومعنى الاستقامة: لزوم طاعة الله تعالى؛ قالوا: وهي من جوامع الكلم، وهي نظام الأمور، فالمطلوب من العبد المسلم الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة، فلم يبق إلا التفريط والضياع.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله “، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؛ قال: “ ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللّه برحمة منه وفضل .

فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة، وهي: السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا أخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحد على عمله، ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة اللّه، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات.

- الصلاة باعث على الأمل :

الصلاةُ هي عمود الإسلام، وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي صلةٌ وثيقةٌ بين العبد وبين ربِّه، فإذا حافظ الإنسانُ على الصلوات في المساجد جماعة مع المسلمين فإنَّه تقوى صلته بالله عز وجل، لأنَّه يكون على صلة بالله دائماً وأبداً في اليوم والليلة، يصلي لله خمس مرات صلوات مفروضة، وكذا ما يأتي به من النوافل فإنَّ الله سبحانه وتعالي يثيبه على ذلك كلِّه، فيبعده عن الفحشاء والمنكر؛ لأنَّه إذا همَّ بمعصية وهمَّ بأمر منكر، تذكَّر لماذا يصلي؟ ولماذا يلازم الصلاة؟ إنَّه يفعل ذلك رغبة فيما عند الله من الثواب وخوفاً مما عنده من العقاب، فإنَّ صلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فيكون بعيداً عن الفحشاء وبعيداً عن المنكر، قال الله عز وجل: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِن الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } .

-