بداية نوضح مجموعة من الأمور التي يستحسن أن نتوقف عندها في البداية من باب التوضيح، وهي أنَّ الابتلاءات مع شدتها وقوتها هي في النهاية لمساتُ رَحْمَةٍ حَانِيَةٍ من الله، وربما لا يستشعر كثيرٌ من النَّاسِ معنى الإيمان، ومعنى الطَّلب، ومعنى الإلحاح في الدُّعاءِ إلا عندما تشتد الأزمات عليهم، وعندما يشعرون بحالةٍ من الانتكاسةِ في حياتهم، ويشعرون بحالةٍ من الواقعِ المريرِ الذي لن يستطيعوا أبدًا مواجهته إذا كانوا وحدهم في هذا الكون، ويأتي أُنسُ المؤمنِ باللهِ، ويأتي استئناسُ المسلمِ بربهِ والذِّكرِ والتَّضرعِ والمُناجاة بابًا من أبوابِ الفَرَجِ والرحمةِ، ومن أبوابِ فَضْلِ اللهِ على عِبادهِ، ومن ثم ستسمعون يا أحبائي كلمةً تتكرر كثيرا، وهي كلمة: "المُكَفِّرَات"، وهي كلمة تُوحي لك بتساقطِ الذُّنوبِ عن الإنسانِ، بمعنى أنَّ هناك مُكفِّراتٍ تجعل الصَّبرَ على البلايا، والصَّبرَ على المصائب له مكافأة، ومكافأتها أنَّ هناك مكفرات للذنوب، والمكفرات للسيئات والأوزار التي يرتكبها الإنسان في هذه الحياة؛ فالمكفرات عبارة عن مَاسِحَاتٍ للأحزانِ ومَاسِحَاتٍ للآلآم.
أُمُّ مِلْدَم:
(أم مِلدم): هو اسم للحُمَّى كما جاء في الصحيح؛ وهي بَلاءٌ عَظيمٌ ومَرضٌ عَظيمٌ،ففي الحديث: ( استأذنتِ الحمَّى على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وقالَ من هذِهِ قالت: أمُّ مِلدَمٍ فأمرَ بها إلى أهلِ قباءٍ فلقوا منها ما يعلمُ اللَّهُ فأتوهُ فشكوا ذلكَ إليهِ فقالَ ما شئتُم إن شئتُم دعوتُ اللَّهَ فكشفَها عنكم وإن شئتُم أن تكونَ لكم طهورًا قالوا وتفعلُ يا رسولَ اللَّهِ قالَ نعم قالوا فدَعْها) (مجمع الزوائدللهيثمي،و رجال أحمد رجال الصحيح | انظر شرح الحديث رقم 121120 ، أخرجه أحمد (14433) باختلاف يسير، وأبو يعلى (2319) بنحوه).
تأملوا معي هذه المرأة العجوز التي دخلت على النبي – صلوات ربي وسلامه عليه – فإذا هي الحُمَّى وقد تمثلت، وتجسدت في امرأةٍ عَجوزٍ ثائرة الشعر والرأس، فقالت له: يا رسول الله أرسلني إلى من تحب، وكان النبي يحب الأنصار حبًّا كبيرًا، فأرسلها النبي الكريم إلى بيوتِ الأنصارِ فعاشت الحُمى بينهم حتى وصلت إلى عظامهم، وطَهَّرَتهُم من الذنوب تطهيرا عظيمًا، وكان النبي الكريم إذا قابلهم، قال: مرحبا بمن طَهَّرَهم رَبِّي تطهيرًا، أي الأنصار؛ إشارةً إلى أنَّ (أمَّ مِلْدَم) وما على شاكلتها من الأمراض الوبائية إذا دخلت على حَيٍّ أو على قَريةٍ أو على مدينةٍ أو على مكانٍ فإنها تُغربل الذُّنوب، وتُغربل المعاصي حتى لا تبقى على الناس خطيئةٌ واحدةٌ.
هذه الرواية التي ذكرناها رواية مؤثرة، وهناك رواية أخرى جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل، والرواية الأخرى هي أنَّ الحُمى استأذنت على النبي الكريم، وقد جاءت للنبي في صورة حِسِّيَّةٍ، في صورة امرأةٍ سوداء عجوز ثائرة الرأس، فسأل الرسول: من هذه؟ فقالت: أنا أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء، وقباء هو أول حَيٍّ نَزَلَ عليه النبي الكريم عندما هاجر، وقد نزل في قباء قوله تعالى: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}[التوبة:108].
عندما ذهبت الحمى إلى أَهْلِ (قِباء) لقوا منها ما يعلم الله، بمعنى أنهم تعبوا وتأذوا منها إيذاءً شديدًا، فشكوا ذلك إلى النبي محمد، فقال النبي: ما شئتم، إِنْ شئتم دعوت الله فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكون لكم طهورا فافعلوا، فقالوا: أو تفعل؟ بمعنى أن النبي لو دعا لهم بابتعادها عنهم ستذهب عنهم، ولو تركت معهم ستكون طهورا لهم؟ فرد النبي قائلا: نعم، فقالوا: يا رسول الله دعها، أي اترك الحمى عندنا فإنَّ الله تعالى يرحمنا بها، وهذه مرتبةٌ عاليةٌ جدًا من الإيمان، ولو تأملنا الحديث لوجدناه نفس حال المرأة الأنصارية السَّوداء التي كانت تأتيها الحُمى أو كان يأتيها الصَّرع فتنكشفُ عورتها، فاشتكت للنبي، صلوات ربي وتسليمه عليه، فَخَيَّرهَا بين أن يدعو الله لها بالشفاء أو أَنْ تَصْبِرَ، فاختارت الصَّبرَ، وقالت: (بَلْ أَصْبِرُ يَا رَسولُ الله)، وطلبت من النبي الكريم الدُّعاء لها بعدم انكشافِ عَوْرَتِهَا.
وكُلّ هذا معناه أَنَّ هذه مُكَفِّرات، وأنَّ أُمَّ مِلْدِم ما هي إلا صورةٌ من صُوَرِ المُكَفِّرات، فيجب علينا أن نصبر، وإذا تأملنا مثل هذه المرأة التي قالت جملة عظيمة، تقول: (لقد طال الصبر وضاق الصبر)، وهي جملة تحمل في معناها المللَ والملالةَ، وعدمَ القُدرةِ على الصَّبرِ، ومثل هذه العبارة فيها نَوعٌ مِنْ الضَّجَرِ ومن السَّأمِ، ومن المللِ وتَعَجُّلِ الفَرَجِ.
إنَّ الفَرَجَ سيأتي لا مَحَالةَ، ولكنَّ المسألةَ أنَّ اللهَ تَعَالى رُبَّما يختار لك شيئًا؛ مَرضًا أو ابتلاءً قد لا تستطيع أن تتحمله وأنت ضَجِرٌ، ولو تقبلته بِصَبرٍ وثَبَاتٍ لَهَانَ الأمرُ عليك، وهذه أحوالُ بعض النَّاس الذين بلغت عندهم مبلغًا عظيمًا، ويجب علينا أَلا نبثَّ شَكْوَانَا وحُزننا إلاَّ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فإذا كُنَّا من أَصْحَابِ الذُّنوبِ – وهذه حقيقةٌ – وجاءت هذه الابتلاءات لتكفير الذنوب فهذا من لُطْفِ اللهِ بك، وإذا لم نكن من أصحاب الذنوب، وجاءت هذه الابتلاءات كي ترفعك درجات عند الله تعالى فهذا من كَرَمِ اللهِ وَرَحمةِ الله عليك، ولذلك جاء في بعض الأحاديث الصحيحة: «إن الصداع والمليلة لا تزال بالمؤمن وإن ذنبه مثل أحد، فما يدعه وعليه من ذلك مثقال حبة من خردل» [رواه أحمد]؛ فأصحاب الصُّداعِ أو الشقيقةِ، وأصحاب المليلةِ أو الدُّوخةِ ويصبرون عليها؛ فإنَّ كُلَّ ذلكَ يُكَفِّر عنهم السيئات.
ويجب على الناس بعد ازدياد الشكاوى أن يفهموا معنى قولنا: (فقه الابتلاء)، أي ماذا يدور في عقل الإنسان المُبتلى؟ ولو تأملنا كُتبَ السُّنةِ جميعها لوجدناها تُعطي أهميةً كبيرةً جدًا في فَضْلِ المرضِ، ومنها: كتاب رياض الصالحين للنووي؛ إذ وضع فيه بابا اسمه: "فضل المرض"، وكذلك البخاري وضع في صحيحه بابا أسماه: "فضل المرض"، وليس من الضرورة أن يكون هذا المرضُ مرضًا عُضويًا فقط، بَلْ من الممكن أن يكون مرضًا نفسيًا؛ كَمَثَلِ مَنْ عِنْدَهُ اكتئاب، فهو مريض، والمحسود – كذلك - مريض، ومن وَقَفَ حَالهُ مريضٌ هو الآخر، والمرأة التي تأخَّرَ سِنُّ زَوَاجِهَا مَريضةٌ هي الأُخرى؛ فكلّ نفسيةٍ لها ما يتناسب معها في فقه الابتلاء؛ فكل مرض يُصاب به الإنسان مهما كان، صغيرًا أو كبيرا هو يُكَفِّرُ عن الإنسان ذنوبه وسيئاته إن شاء الله تعالى.
متى الفرج؟
(إذا طال الليل فمتى الفجر؟) الإجابة تكمن في القرآن، القرآن هو الفجرُ؛ لا يَزِيغُ عنه إلا هالك، الفَجرُ في سُنةِ النبي الكريم هو الفَرَجُ في كِتابِ اللهِ؛ يأتي الفَرَجُ مع دَعوةٍ؛ يأتي الفَرَجُ مع مُناجَاةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فاصبروا على البلاء؛ فالابتلاءات تُكَفِّر عنكم سيئاتكم.
مُداواة الحُمَّى:
وهناك كَلامٌ جَميلٌ جدًا لابن قيم الجوزية في كتابه: "الطب النبوي" عن الحُمَّى وفضل الحُمى، وعن التداوي من الحُمى، وعن قول النبي الكريم: (إن الحمى من فيح ونار جهنم، فأبردوها بالماء)[رواه البخاري:3261]، وهو علاجٌ ربانيٌ وعلاجٌ نبويٌ كريمٌ: "فأبردوها بالماء"! وقد تكون الحُمَّى حَسَدًا، وهو أمرٌ كَبيرٌ، وقد يكون هناك حَسَدٌ وحُمَّى في نفس الوقت، وكان النبي الكريم يستعيذ بالله تعالى من الحَسَدِ ومِنْ عَينِ الحَاسِدِ؛ من حَرِّها وبَرْدِهَا وَوَصَبِهَا، والأوصابُ في لُغَةِ العَرَبِ هي: الأوجاعُ والألمُ والشِّدةُ والكَرْبُ.
أما إن كان الأمر خاصٌّ بالحُمَّى فقط، فإننا نستخدم كما أمرنا النبي الكريم: "فأبردوها بالماء"، ولو قلت لكم ما يحدث في البلاد الأوربية لتعجبتم؛ إذ إن المستشفيات الحديثة في البلاد الأوربية استحدثوا علاجا لعلاج الحالات الطارئة لعلاج الحُمَّى، وهو أنهم يُجَهِّزُونَ مَدخلَ المشفى بمكانٍ خاصٍ فيه حوضٌ كبير لاستقبال الحالات التي بها حُمَّى، وعند دُخولِ هذا الشخص المريض المشفى، فإنهم يقومون بوضع المريض في هذا الحوض الممتلئ عن آخره بالماء.
على حين الحُمَّى مع الحَسَدِ فإنهَّا تحتاجُ إلى رُقيةٍ شَرعيةٍ، واستخدامات معينة مثل السواك.
يقول النبيُّ الكريمُ في حَديثٍ جَامِعٍ: (اللهم إله جبريل وميكائيل وإسرافيل وإله إبراهيم وإسحاق، عافني ولا تُسلطنَّ أحدًا من خلقك عَلىَّ بشيء لا طاقة لي به)، [مصنف بن أبي شيبة، باب الرجل يخاف السلطان ما يدعو، 6/23]، وهو حديث مهم جدا؛ فمن يعمل به يُعافى في بدنه، ولا يُسَلَّطُ عليه أحد إلا غلبه بإذن الله إلا إن كانت هذه الأمور لا طاقة لك بها، فإن الله تعالى يعافيك، ويعفو عنك بفضل الله سبحانه وتعالى.
عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ النبيَ الكريمَ كان يُعلِّمَهُم الاستشفاء من الأسقامِ الأوجاعِ والحُمَّى، يقول النبي الكريم، صلوات ربي وتسليمه عليه: (بسم الله الكبير، نعوذ بالله العظيم من شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ نَعَّارٍ، ومن شَرِّ حَرِّ النَّارِ [أي الحُمَّى]) [أخرجه الترمذي]، ونص الحديث كلام – سلمكم الله تعالى –عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الحمى ومن الأوجاع كلها أن يقول: «بسم الله الكبير، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار، ومن شر حرّ النار» [سنن الترمذي، 4/405].
والعِرقُ النَعَّار: هو أي مكان يَزيدُ في حَجْمِهِ وعن صُورتهِ الطبعيةِ، فهو إذن عِرْقٌ نَعَّارٌ، وكأنَّ الألمَ في جَسَدِ الإنسانِ يَنْعَرُ وَيَنْعِقُ، وقوله: [ومن شَرِّ حَرِّ النَّارِ]، أي الحُمَّى.
ومع كَون هذا الحديث حَديثًا موجزا فيه مَعَانٍ كَبيرةً وعظيمةً جدًا، فيجب علينا أن نؤمن ونوقن في ذلك.
وهناك حديث آخر جاء في مسند الإمام أحمد للاستشفاء من الحُمَّى، وهو أن تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله، وبالله، محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين)، وهذا الحديث يُقال في أثناء التجهيز لغُسْلِ المحمومِ مع سَكْبِ الماءِ على الإنسانِ المحموم.
الفصل السابع
العلاج العام بالدعاء
(علاج التوهان والإغماء وقِلَّةِ التَّركيزِ والسَّرَحان
والنِّسيان والخوف والهم)
لا نزال نعيش معكم في هذه اللقاءات الإيمانية والهجرة إلى النجاة من مشكلات حياتنا وأزمات حياتنا بما فيها من أمراضٍ منتشرة نفسية وقلبية وعضوية؛ لعلَّ أحاديثنا تكون سببا في الشفاء، وبثِّ الأمل في نفوس الناس، وفي نفوس المحبطين.
وَجَدْنَا في صحيحِ البُخاري هذا الحديث المهم الذي يعد قُوةً دَافعةً وطَاقةً ومُحَرِّكًا إيمانيًا نستمد منه قُوةً وعَزِيمةً، يقول الملك (الله): قال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: " أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه" [صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب لا تحرك به لسانك لتعجل به].
ومعنى الكلام أنَّ العبدَ المسلم في مَعِيَّةِ الرَّحمنِ، فِإذَا صَارَ قَلبُهُ مع اللهِ وَصَارَ لِسَانُه مَعَ الله، وَصَارَ حَالهُ مع الله؛ فلو كَانَ في هَذهِ الحالةِ فَهُو في مَعِيَّةِ الله عَزَّ وَجَلَّ، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}[النحل:128]، ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، ويقول تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194]، فَكُلّ هذه الآيات تَدلّ عَلَى مَعِيَّةِ المُصَاحَبَةِ والمُرافَقَةِ، أي أَنَّ اللهَ هُو أَنِيسُكَ، وحَبِيبُكَ وأنت في معيته؛ فسيدنا موسى - عليه السلام - عندما أراد أن يُرافقَ العبدَ الصَّالحَ "الخضر" عليه السلام، قال له الخضر: {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف: 67]؛ فمعية الخضْرِ - عليه السلام - بما فيها من حقائق خَفِيَّةٍ لا يعلمها الناس، ولا يعلمها موسى - عليه السلام – مع مكانته العظيمة عند الله، إلاَّ أَنَّ هُناك معية معينة لن يستطيع موسى - عليه السلام - أَنْ يُدركَ هذه المعية حتى افترقا في النهاية؛ لأنَّ موسى لم يستطع معه صبرًا، ولم يلتحق بالمعيَّةِ الفِكْرِيَّةِ التي مع الخِضْرِ - عليه السلام - فما بالكم إذا كانت المعيةُ مع اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟!
وربما أتعجب من كثيرٍ من الناس الذين يشعرون بِحَالةٍ مِن الضِّيقِ والتَّبَرُّمِ والاختناقِ، وكثير من الناس يشكون من هذا – سلمكم الله وأحبكم – وأخطر شيء هو الشعور بالتوتر والاختناق؛ إذ يؤدي إلى ردودِ أَفْعَالٍ غَريبةٍ وغَيرِ مُتوقعةٍ بالمرة، ونحن نتعجب؛ لأنَّ الحديثَ واضحٌ؛ فبمجرد أن يستأنسَ الإنسانُ بالله يُصبحُ في مَعيَّةِ اللهِ، فكيف لإنسانٍ يكون في مَعيَّةِ اللهِ ويصيبه يأسٌ أو إحباطٌ أو اختناق؟!
أمَّا عن الإنسان الذي يَدخلُ في دَرَجَةٍ أَعلى من المَعيَّةِ، ويُكْثِر من العبادات والطَّاعات، فإنَّ الشيطان لا يتركه بسلام، وتظهر حالة أخرى، وهى حالةُ الوسوسة؛ وذلك لأنَّ الشيطانَ لا يريدُ له الخير؛ فيبدأ الشيطان في الوسوسةِ حتى يُخرجه من مَعِيَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولهذا نقول: إِنَّ ذِكْرَ الله عَزَّ وَجَلَّ يُضْعِفُ الشيطان، فتأملوا الحديث القدسي إخواني أعزكم الله: (يقول الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه)[رواه ابن ماجه وابن حبان]، ويجب على الإنسان عندما يدعو يجب عليه أن يكون في حالة وعي، وإدراك لما يقول.
علاج التوهان والإغماء وقلة التركيز والسَّرحان والنسيان:
لو تأملنا كتاب الله عز وجل، ولو تأملنا سنة نبيه الكريم لوجدنا فيهما العلاج الشافي والكافي لكل الأمراض؛ فما خلق الله من داء إلا وخلق له دواء، ومن الأمراض العصرية التي كثرت في الآونة الأخيرة: التَّوهان والإغماء، وقلة التَّركيز، والسرحان والنسيان وغيرها كثير، ويجب أن تعلموا يا أحبائي – أعزكم الله وأحبكم - أنَّ أَفضَلَ علاجٍ وتحصينٍ للإنسان هو المداومة على ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وكَثرةِ الصَّلاةِ والسَّلامِ على سيدنا محمد. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ ففيهما العلاج بإذنه تعالى، كما يجب على المريض، وغير المريض أن يكون موقنا؛ بمعنى أن يكون عنده يقين في الله، وأن يكون عنده حسن ظنٍّ بالله، وأن تكون عنده ثقة في الله عزَّ وجلَّ.
هُنَاكَ دُعَاءٌ مُهمّ، وهو في البُخَاري ومسلم: (لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كلّ شيء قدير) [رواه البخاري في صحيحه، رقم: 6473، ومسلم في صحيحه، رقم:594]، وهذا من أهم الأدعية والأذكار التي تُبعد التشاؤم عن نفس الإنسان، ومن المُسْتَحْسَنِ أن يقولها المُسلم صباحَ مساءَ بعددِ المرات التي يقدر عليها: مرتين أو ثلاثة أو أربعة، أو عشرة، أو حتى مئة مرة، وقوله (عشر مرات) يُعادل عِتقَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَمَنْ قَالَهَا في صباحهِ، أو في مسائهِ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلفَ أَلفَ حَسَنَةٍ يعني مليون، سبحان الله، وتمحو عن الإنسان ألفَ ألفَ سيئةٍ، يعني مليون أيضا سبحان الله، كما أنها تكون حِرزًا لهُ من الشيطان في يَومهِ هذا حتى يُصْبِحَ وحتى يُمْسِي.
وهناك دُعاءٌ مُهمٌ أيضًا: (بسم الله ذي الشأن، عظيم البرهان، شديد السلطان، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، أعلم أنَّ الله على كل شيء قدير، وأنَّ اللهَ قد أحاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا) ( أخرجه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق:40/268) والدَّيلمي في مسند الفردوس: 4/، 19رقم 6054) وعن الزبير بن العَوَّام رفعه: "ما من رجل يدعو بهذا الدعاء في أول ليله وأول نهاره، إلا عَصَمَهُ الله من إبليس وجنوده، بسم الله ذي الشأن، عظيم البرهان، شديد السلطان، ما شاء الله كان، أعوذ بالله من الشيطان"، (الغرائب الملتقطة من مسند الفردوس للحافظ ابن حجر].
وكُل كلمة في هذا الدعاء تُعالجَ مثاقيل الجبالِ من الهمِّ والغَمِّ والحِمْلِ العَظِيمِ، وهذا الجزء من الحديث هو الثَّناءُ؛ فَكُلُّ ثناء يأتي بعده دعاء، والدُّعاء هو (تكملة الحديث): "اللهم إني أعوذ بك من شَرِّ نفسي - [النفس الأمارة بالسوء] - ومن شَرِّ كُلِّ دَابةٍ أنت آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربي على صِراطٍ مُستقيمٌ"، والحديث كاملاً: (بسم الله ذي الشأن، عظيم البرهان، شديد السلطان، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أنَّ الله على كُلِّ شَيءٍ قديرٍ، وأنَّ اللهَ قَد أحاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا، اللهُمَّ إني أعُوذُ بك من شَرِّ نفسي - [النفس الأمارة بالسوء] - ومن شَرِّ كُلِّ دَابةٍ أنت آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربي على صِراطٍ مُستقيم)، وهو من الأحاديث الجامعة الكاشفة التي جمع فيها النبي الكريم أشياء يستعين بها المسلم في حياته بعد أشياء أساس، وهي الفاتحة، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة، والمعوذتان، وقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمدُ وله الملكُ، وهو على كل شيء قدير، كُلّ هذا وكأنه جرعة مكثفة يستعين بها الإنسان في حياته على المشكلات والأزمات، ومنها الخوف وحالات الانطواء، وهذه الأدعية تساعد في حَلِّ وكَشْفِ تلك الأزمات.
علاج المهموم والخائف:
وكل إنسان مهموم أو خائف علمه النبي الكريم أن يقول: (حسبي الله ونعم الوكيل)، فإذا كان الله تعالى حسيبك ووكيلك وهو نعم الحسيب ونعم الوكيل، فمم تخاف عندئذ؟
وقولنا: (حسبي الله ونعم الوكيل) ليست فقط لدفع الظلم، لا؛ فهي أمان كل خائف، وما قالها إنسان كان خائفا وتعايش معها إلا أذهب الله عنه الخوف، وهي أمان كل خائف، يقول تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [التوبة: 129]، وعندما أقول: حسبي الله، فلست أدعو عليكم، ولكن الله حسيبي ووكيلي، وطريقي مختلف عن طريقكم، فأنا معتصم بالله وأتقوّى بالله عز وجل، يقول تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]، وجميع الأنبياء الذين مروا بمشاكل وحالات صعبة في حياتهم كان ملاذهم قوله تعالى: {حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}؛ فهي أمان من الخوف وأمان من الهم وأمان من الإرهاق والمهموم الذي كاد له الناس، ووقف ضده الناس وهو على حق، وليس على باطل، ولكن طريقته مختلفة في التعامل مع الأمور فإنه يتوجه إلى الله تعالى، ويقول: يا رب ما وجدت إلا أن أقول: لا إله إلا أنت أيها الملك، يقول تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174]، وذلك في غزوة حمراء الأسد بعد غزوة أحد، وهي غزوة انتصر فيها المسلمون بقوله تعالى: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، انتصروا بها فقط.
وسأربط لكم الآن بين الخوف، وأن هذا الخوف زراعة من الشيطان يزرع فيك الخوف يزرع فيك الفشل يزرع فيك الإحباط، يضربك، وأنت لا زلت على الأرض، يقول تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]؛ فالناس الذين سيطر عليهم الشيطان أصبحوا أولياء له؛ فالذي يخاف من الشيطان يصبح عبدا له ويسمع كلامه في كل شيء، ويصبح تلميذا مطيعا للشيطان، فالشيطان يزرع فيه الخوف من كل شيء، يقول تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} [سبأ: 20]، يقول تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، فلا يجب عليكم أن تخافوا من الشيطان، بل يجب أن تخافوا من الله عز وجل فقط.
إذن قولنا: (حسبي الله ونعم الوكيل)، وقوله تعالى في سورة آل عمران: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[173]، وقوله تعالى في سورة التوبة: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]؛ فكل هذه الآيات – سلّمك الله تعالى وأحبك – مما يستعان به على مواجهة الخوف والإحباط والإعياء، والإرهاق والزهق والحالة النفسية المتردية.
ونأتي إلى دعاء آخر في موضوع السلامة من الخوف، يقول النبي الكريم: "لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنت، عزَّ جارك، وجلَّ ثناؤك"، وهذا الدعاء من أدعية الأمان من الخوف وعندما يأمن الإنسان من الخوف يذهب عنه التوهان والتوتر والقلق، وكل شيء.
ومن المعلوم أن الخوف يؤدي إلى أمراض كثيرة شديدة، مثل التبول اللا إرادي، وحالات التهتهة، وحالات الفأفأة، وحالات الثأثأة، وحالات ثقل اللسان وكل هذه أساسها الخوف والتوتر الزائد والعصبية الزائدة، وكل هذه الأحاديث تعالج هذه الأشياء لمن داوم عليها.
علاج تخطي الأزمات بالدعاء
ونختم بدعاء للخروج من الأزمات، وكل أحاديثنا إليكم الغرض منها مساعدة الناس على تجاوز مشاكلهم.
الإمام عليّ كرم الله وجهه كان النبي الكريم يصطفيه ويختصّه بأشياء بسيطة يعلمنا من خلالها، عن سويد بن غفلة، سمعت عليا كرم الله تعالى وجهه، أن النبي الكريم علمه كلمات عندما يكون في ورطة أو في أزمة، وفرح الإمام علي بأن النبي سيعلمه كلمات يقولها وقت الأزمات، فقال الإمام علي: بلى يا رسول الله، كم من خير قد علمته لنا، فقال له النبي قل: "بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" من قالها فإن الله تعالى يصرف بها ما شاء من أنواع البلاء، والدعاء بالتفصيل: قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يَا عَليّ أَلا أعلمك كَلِمَات إِذا وَقعت فِي ورطة قلتهَا؟ قلت: بل جعلني الله فداءك. قَالَ إِذا وَقعت فِي ورطة فَقل: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم، فَإِن الله تَعَالَى يصرف بهَا مَا شَاءَ من أَنْوَاع الْبلَاء ".[السنن المبتدعات المتعلقة بالأذكار، فصل فيما يقوله من وقع في هلكه، 1/261].