في هذا الدرس سنلتقي بأطياف عظيمه من الذين تعلموا في جامعة الحب، لا تنس أن المعية في الأساس هي معية الحب، وأن المعية الخاصة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى اختارهم برفقة النبى صلى الله عليه وسلم، كما أن الله تعالى، يصطفي الأنبياء، ويجتبيهم على من دونهم، فإن الله تعالى يصطفي لهم أتباعًا، وهم الذين يحملون همّ الرسالة، قال الملك: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} الربيون هؤلاء اختيار إلهي، لأنهم مسجلون عند الله أنهم من أصحاب الإخلاص، ومن أصحاب التجرد، ومن أصحاب القلوب، وهى الطائفة المتميزة التي أصحبكم معها بفضل الله عز وجل.
إن الذي يشغلني في هذه الدروس ليس أن أعرض لك مادة علمية أجمع فيها بين القرآن والسنة، فهذا هدف عام، ولكن الهدف الخاصّ عندي الذي أقصده هو: وأيكم مثل هؤلاء؟ كما كنت أسألكم، أيكم زيد؟ وأيكم الصديق؟ وأيكم عمر؟ هذا الذي يعنينى أن نحاول التشبه بهؤلاء، حتى إذا ما مات الإنسان، يجد في صحيفة أعماله، ما يثقل موازين حسناته بالحبّ، فالحب يصنع الإخلاص، والحبّ يصنع الأمانة.
دعوني أكرر لكم في أول درسنا أن الله تعالى اختار صفوة الخلق من البشر لكى يكونوا تابعين ومؤيدين لصفوة الصفوة، وهم الأنبياء، تأمل: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} هؤلاء صفوة، اصطفاهم الله تعالى، لنصرة دينه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ، {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} التأليف الربانى يصنع الإخلاص في الحب، إذا أخلصت في الحب فإنك لن تبالى بعد هذا.. بمعنى أنك ستعطي بغير حساب، الله أكبر، سيبقى الناس إلى يوم القيامة يذكرون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظون أسماء الذين كانوا في بدر، والذين كانوا في أحد، والذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الأحزاب، لماذا؟ لأنهم أخلصوا في المحبة.
دعني آخذك لنبحث عن المخلصين، وشعارهم هو شعار النبى صلى الله عليه وسلم في سورة الزمر: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي}..
المراتب ترتفع بدأنا بالأمر الإلهي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالإخلاص- أمر- { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ }، والمعنى، أن العبادة بلا إخلاص لن تكون شيئًا، وسأعرِّج على هذه المعلومة بصوره مكثّفة إن شاء الله.
عبادة بلا إخلاص كزرع لا يُنتفع به، وكماء مالح لا يروي ظمأً ولا يغيث عطشان، والمخلصون هم الذين أحبهم الله، فإذا أرادوا أن يُصلُّوا جعلوا مخافة الله تعالى أمامهم، وجعلوا الصراط تحت أقدامهم، دخلوا الآن مرحلة الحساب, يصلى هذا المخلص، وعينه على الآخرة، عندما يسجد يستشعر المعانى الإيمانية.
ادع ربك بإخلاص، وكن على يقين أن صوتك الخافت هذا الذي لا يكاد يُسمع معروف عند الله تعالى، ومسموع فى الملأ الأعلى.
لا زالت الفرصة أمامك لكي تدعو الله بقلبك، ليس بصوتك ولا بلسانك، إذا وصلت إلى معية المخلصين الذين أتحدث عنهم في هذه الليلة، لن تتمنى أن ترفع رأسك من السجود.
ادع ربك الآن قبل أن يأتى عليك يوم تقول فيه: يا ليتنى مددت يدى في وقتها، يا ليتنى استغرقت في الدعاء، إن الله تعالى كان ينظر إلىّ، الملك كان يطالعني، كان يراقبني، إنّ هذه السجدة هى نجاتي يوم القيامة.
هل أنت يا صاحب القلب راض عن نفسك الآن؟ هل قلبك الآن موجود؟ أم أنه يفكر فى الدنيا وملذاتها وشهواتها؟
أصحاب القلوب إذا دعوا، علموا أن الله تعالى ينظر إلى قلوبهم وليس إلى أجسامهم.
اجعلوا هذه الدروس في معية الحبيب اكتشافًا لكم، أنا أكتشف نفسي، وكل منكم يكتشف نفسه في معية الحبيب.
أنا أدخلك حديقة وبستان، من أجمل الحدائق والبساتين التى رأيتها في حياتي، ولأجل هذا فاجعل نفسك باسم جديد، كنت أقول لك قديمًا أريد أحمد الجديد، أريد إبراهيم الجديد، ولكننى عندما دخلت معية الحبيب صلى الله عليه وسلم، وعندما دخلنا معية المخلصين، سأقول لك أريد قلبك الجديد.
لم يكن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، إلا جامعًا لقضية النجاة، النجاة عندنا في التجرّد لله، النجاة عندنا في تهذيب القلب، والنجاة عندنا في ترقيق القلب.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام جمع المسألة كلها جمعًا ربانيًّا جميلًا: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، سأعيدك للدرس الماضي، أنت مع من أحببت، لا بكثير صيام ولا بكثير صلاة ولا بكثير صدقة، لكن الحبّ هو حبّ المخلصين الذى هو مرتبة سأحاول أن أقف بك عندها بإذن الله سبحانه وتعالى، لكن القرآن دائمًا يشدني: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}.
المفاهيم التى عشنا بها في حياتنا كانت خاطئة، كانت ذابلة، كانت سقيمة.
سآخذك إلى ساحة القلوب، ابحث عن قلبك، أى قلب تريد؟ قلبًا أبيض ناصع البياض؟، أم قلبًا مدلهمًّا بالسواد؟ ابحث عن قلب، لن أقول لك اشتر قلبًا, ولكن خذ قلبًا من هذه القلوب التى صفّاها الملك، أى قلب تريد؟ قلب الصديق على شاكلته؟ قلب الفاروق على شاكلته؟ قلب زيد؟ قلب بن عوف؟ قلب طلحة؟ قلب الزبير؟.
في معية الحبيب سترى أنفسًا جميلة، وسترى قلوبًا أبحث عنها في هذا الدرس: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} لم يقل بعمل سليم، ولا بصلاة سليمة، ولا بتجارة سليمة، كما قلت، وأنا أبحث عن سجدة أفتخر بها يوم القيامة كالتى حاولت أن أقدمها لك الآن كنموذج للأعمال التى يؤديها أصحاب القلوب، هناك فرق بين قلب مطمئن، وقلب مستريح، وقلب هادئ البال، وقلب آخر مرتجف، وقلب آخر متقلب، وقلب آخر كان مشتتًا، كان مبعثرًا لا يعرف ما المطلوب منه، دخل الامتحان فبدلًا من أن يقرأ الورقة من وجهها، قرأها من ظهرها، فاستوى عنده ظهرها مع وجهها، هذه هى القضية، لأن القلب كان يقرأ من اليسار ولم يكن يقرأ من اليمين، فكان يقرأ من اليسار يعني: كان عمله كأعمال أهل اليسار، ولم يقرأ من اليمين ولو قرأ من اليمين لبلغ مرحلة الإخلاص، أن يكون من أهل اليمين هذا شيء رائع، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} هؤلاء هم أصحاب القلوب، عمل أهل اليمين هو عمل أصحاب القلوب، لو سألتك سؤالًا مفاجئًا: ماذا تشتهي؟ ستقول لي في ضوء محاضرتك هذه، أشتهى أن أكون صاحب قلب سليم، ثم تتواتر الأماني، أتمنى أن أكون من أصحاب اليمين، ولماذا من أصحاب اليمين؟ لأنهم أهل الراحة يوم القيامة، الذين استراحت قلوبهم في الدنيا، واطمأنت قلوبهم بذكر الله تعالى في الدنيا، {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُا كِتَابِيَهْ}.
انظر إلى صفحة اليدين وهى ممدودة فرحًا، ليست مغلولة إلى ظهرك، ولا مربوطة برقبتك، ولا ينادى عليك: أين حقوق العباد؟ أين مظالم العباد؟ ولكن مُدّت يداك لكي تأخذ هدية، ما أجمل هذه الهدية، أترى أن عملك يوافق عمل أهل اليمين؟ كيف كان إخلاصهم مع الله؟ الذي أحدثك عنه في معية المخلصين.
كن أبا خيثمة، وهو واحد من هؤلاء الذين أحبّهم، والذين أعشق ترابهم، لقد تخلف أبو خيثمة لأمر ما عن غزوة تبوك، وهى ساعة العسرة، كأن الدنيا لعبت بفؤاده لحظه، فتأخّر عن سيدنا، صلوات ربى وسلامه عليه، وجلس، وبينما كان جالسًا يتأمل، ويسأل نفسه سؤالًا: أين رسول الله؟ وكان النبي قد غادر مدينته إلى تبوك، عندئذٍ أدرك أبو خيثمة أن وجوده في هذا المكان في الظل الظليل لا يليق به، وأن وجوده في هذا المكان بين نسائه لا يليق به، ماذا تفعل يا أبا خيثمة؟ فعل شيئًا عجيبًا، وهو الإخلاص نفسه، فخرج أبو خيثمة، وأخذ يجرى ويجرى، ويجرى حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، والنبى كان واثقًا أنّ هذه النوعية من البشر لا يجلسون في الظل الظليل، وغيرهم يؤدي عنهم، ويحمل عنهم الهموم والمتاعب، لا بد أن يكون معهم.. وظل يجري حتى أدرك النبى طيفه يأتى من بعيد، فقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، كن أبا خيثمة، فكان أبا خيثمة؛ لأن النبى حبيب الله أدرك أن صاحب القلب هو صاحب همّة، وصاحب القلب لا يمكن أن يستريح، لأن قلبه يحركه، ويمده بالوقود: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) إذًا أمثال هؤلاء، الذين عاشوا بالإخلاص، وعاشوا على الإخلاص، يظل أحدهم ماسكًا كتاب الله، وهو يحمى المسلمين، ويقف حارسًا عليهم، والناس نيام، وهو يمسك ما تيسر من كلام الله تعالى، وهو الذى كُلّف أن يقف أمينًا وحارسًا على هذا المكان، في هدأة الليل، يداعب نسمات الليل بكلمات الله، يملأ سكون الليل العليل بكلمات الله التى تسرى وتملأ الكون نورًا، كان الصحابىُّ واحدًا من هؤلاء، من أصحاب القلوب الذين تأثّرت بهم في حياتي.
إنى لا أذكر لك في هذه الدروس علمًا، وإنما أذكر لك حياةً عشتها، ولازلت أعيشها مع أصحاب القمة العالية من أمثال هؤلاء. الرجل أيها الأحبة ظل يحرس ويقرأ القرآن، ويصدع بالقرآن، حتى ناوشه الأعداء بالسيوف، والسيوف تأتى له من هنا، وتأتى له من هنا، وهو مستمر في رسالته، ومستمر في تأدية الأمانة، فى الذكر مع القيام بالحراسة، لو كان هذا الرجل ضعيفًا مثلى لهرب، لو كان من أصحاب القلوب الضعيفة من أمثالي ما بقي في مكانه يحمي حمى الإسلام، ولكن هؤلاء عندهم تجرد كامل لله الملك، فظلَّ الرجل واقفًا، وتأتى السيوف إليه حتى سقط مغشيًّا عليه، فأدركه أخوه المسلم، وقال له لماذا لم تهرب؟ لماذا لم تجرِ؟ فقال هذا الرجل الذي أخلص في الحبّ: ما تمنيت أبدًا أن أقطع كلام الله، الله أكبر، انظر إلى الإخلاص الذي جعله يتمسك بالرسالة، الذى جعله يذود عن الرسالة، ويذود عن حمى الإسلام، ولذا قلت لك: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام قد رفعه الله تعالى إلى مرتبة عظيمه في الإخلاص، لم يصل إليها أحد على وجه الأرض:
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} يعني على قلبك المخلص، على قلبك الذي يتحمل هذه الأنوار: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} معين لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل فؤاده في حالة تنقية، لا يأتي الخطل على فؤاده، ولا يأتي الكذب على فؤاده، ما كذب الفؤاد، ما كذب الفؤاد ما رأى، هل رأيتم الفؤاد يرى؟ أنت ترى بفؤادك أم ترى بعينيك؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم ينظر بقلبه قبل أن ينظر بعينيه، صلوات ربى وسلامه عليه، تنام عيناه كما جاء في الصحيح، ولا ينام قلبه صلى الله عليه وسلم، بأبى أنت وأمى يا حبيب الله.
سترى طفلًا صغيرًا، إذا قست عنده منسوب الإخلاص ومستواه فى حياته العادية، سترى أنه مليء بالإخلاص، يقرأ القرآن بإخلاص، يذهب إلى مدرسته بإخلاص، يصلى بإخلاص، يتأمل النار أمامه بإخلاص، فما بالك بأصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام؟ وهم يقرءون القرآن، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} كلمة مخلصين في القرآن ربطها الله تعالى بأمرين، ربطها بالدين، وربطها بالدعاء.
ما هذا المعنى الذى أردنا أن نقوله هنا؟ أن الإخلاص لا بد وأن يصاحب العبادة بكل أنواعها: (مخلصًا له الدين، مخلصين له الدين)
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وفى سورة غافر: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
هذه آيات عجيبة، فادعوا الدعاء بالإخلاص، والإخلاص في الدين يعنى الإخلاص بين مرتبتين، بين الدين، وبين الدعاء، فإذا أخلصت في الدين أخلصت في العقيدة، وأخلصت في الدعاء، كل هذه المعاني جُمعت في النبى صلى الله عليه وسلم، وفي أصحاب النبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام، ولذا أردتُ أن أعيِّشك جانبًا من حياة هؤلاء المخلصين، الذين أخلصوا في الحبّ، وأخلصوا في المحبة، وأخلصوا في دوام الإخلاص، دوام الإخلاص يعنى ماذا؟ أنا أستطيع أن أصلى أربع ركعات، الركعة الأولى أصليها بإتقان وإجادة، وتركيز عالٍ، والركعة الرابعة صليتها بدون قلب.
سأسمى الإخلاص الليلة بالإخلاص المتوازن، الطالب الممتاز هو الذى يجيب على آخر سؤال بنفس المصداقية والإتقان الذى أجاب بهما على السؤال الأول، وبنفس الخط وبنفس التركيز، كذلك كان أصحاب النبى صلوات ربى وسلامه عليه، فلقد تعلموا منه أنَّ الإخلاص فى أول العمل، كالإخلاص في آخره، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} الله أكبر.
أيها الناس أيها المسلمون أيها الأحباب، الذي يريد أن يموت مسلمًا، ويخرج من الحياة ضاحكًا مستبشرًا، لابد أن تنطبق عليه هذه الآية، وأنت الآن أيها الأخ الحبيب في معية المخلصين، فمن كان يرجو لقاء ربه، من كان يرجو النجاة، فليعمل عملًا صالحًا، ولكن هذا العمل الصالح كما حدثتك عبر سنوات عديدة، لابد أن يكون نقيّا، كما قلت لك فى أول الدرس، ومثلتها لك وقلت لك ربما سجدة واحدة تنجيك، ولكن هذه السجدة لها شروط ولها مواصفات، كما حدثتك قبل قليل.
ثم قال سيدنا وأنا في معية الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه" خذ هذه القاعدة وضعها فى فؤادك، أىّ عمل، لا تسألنى كما سألتنى في السنوات الماضية، ما علامات قبول العمل؟ لن أجيب على سؤالك، علامات قبول العمل، قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لعمّار بن ياسر رضى الله عنه: أين تجد قلبك؟ هذه هى أسئلة الإخلاص الحقيقية، أين تجد قلبك؟ هل شعرت بتأثير الصلاة على قلبك؟ هل شعرت بتأثير الزكاة على قلبك؟ هل شعرت بتأثير الصيام على قلبك؟ فإذا شعرت بهذا التأثير فعملك إذًا مقبول بإذن الله عز وجل: { وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} لقد تعلمنا أن الله الآن شاهد علينا، أيجوز لك أيها المسلم، يا صاحب القلب أن يكون الملك شاهدًا عليك وأنت تبتعد وتبتعد وتبتعد؟ أصحاب القلوب يبحثون عن الأماكن وعن الأوقات التى يحبُّ الملك أن يراهم فيها.
أصحاب القلوب الذين أحدثكم عنهم، هم الذين أخذوا زادهم من حبّ النبى العظيم صلوات ربى وسلامه عليه، فى تجريد العمل وإخلاصه لله وحده، لا أريد إلا وجه الله.
قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إنك لم تنفق نفقة خالصة لله تعالى إلا أُجِرت عليها حتى ما تضعه في فىّ زوجتك" الله أكبر، هذا معين الإخلاص الذى لا ينضب.
علامات الإخلاص، شخص يعمل خيرًا كثيرًا، ويسعى بين الناس، ويساعد الناس لكن كل هذا للدنيا، ليس لله.
وضع الملك للمخلصين قاعدة، أيكم يصل إليها؟ وإليك هذه القاعدة:
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} سبحان من هذا كلامه.
يعني، شخص يعمل جميع الأعمال الصالحة، يصلى، ويزكى، ويصلح بين الناس، ولكن ليس في قلبه مكان للإخلاص، أو أن يكون هذا العمل موجّهَا لله سبحانه وتعالى، ثم قال الحق سبحانه وتعالى وحُقّ له أن يكون الحقّ فى شأن واحد من هؤلاء المخلصين الذين أنا فى معيتهم، إنه الصّدّيق رضى الله تعالى عنه، نجم كبير فى سماء التاريخ الإسلامى، وهو يتصدق بماله كله لله، والنبى صلى الله عليه وسلم كان ذكيًّا، كان ثاقب الذهن، كان حادّ الذكاء، فقال له وماذا أبقيت لأولادك؟ فقال يا رسول الله، أبقيت لهم الله ورسوله.
هذا الحوار لابد وأن يأتى في القرآن، هذا الحوار الجميل بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين صِدِّيق هذه الأمة، خلده القرآن الكريم.
فقال الملك فى شأن الصديق الذي يقود مراكب الصادقين والصديقين والمخلصين: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى*ِ إلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} الله أكبر، هذه أجمل قاعدة من قواعد الإخلاص، وهى أن تعمل العمل لا تنتظر جزاءً إلا من الله، إذًا أنت أستاذ فى الإخلاص، لا تقل أنا فعلت كذا وفعلت كذا، أنت فى معية المخلصين، انسَ كلمة "أنا"، اجعل وجه الله أمامك، فإذا أطعمت أطعمت لوجه الله: {إِنَّمَا نُطْعِمكُمْ لِوَجْهِ اللَّه} أيُّكم هذا الرجل يا أحبابى؟ إذا أطعمت أطعِمْ لله، إذا أصلحت أصلِح لله، وإذا أعطيت فليكن عطاؤك لله، كما قال الله عزّ وجلّ:{وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ* إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ} هذا هو أفضل مكسب.
هذا الدرس هدية لكل أصحاب القلوب، وهو أعظم درس قدمته في حياتي، تربية أصحاب القلوب، رباهم سيدنا صلوات ربي وسلامه عليه، أتستكثروا على أحدهم أن يجود بكل ما يملك من أجل الله، لا والله، لكن الله كريم كبير، فكافأه الملك وحُقّ له أن يكون الملك.
هناك أعمال تأخذ أعلى مستوى للجدارة والأسبقية، مكتوب عليها هذه الآية التى ذكرتها من قبل فى سورة الإنسان {إِنَّمَا نُطْعِمكُمْ لِوَجْهِ اللَّه}لا نريد إلا وجه الله، هذا هو حال المخلصين.
{وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ* إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ}بماذا يرضى؟ بأنه فاز فى اختبار الإخلاص، اختبار الإخلاص فاز فيه سيدنا إبراهيم، أحييك أيها الخليل، وأحبك كثيرًا، أحبّك بقلبك الخليلى النقى الأبيض، اختبار الإخلاص في معية المخلصين.
فاز فيه موسى عليه السلام، وما أدراك من موسى، اختبار الإخلاص فاز فيه صالح عليه السلام.
اختبار الإخلاص فاز فيه سليمان عليه السلام، اختبار الإخلاص نجح فيه جميع من ينتظرون الجزاء من الله تعالى وحده، ليس من غيره، إذا أدَّيت العمل، وانتظرت الجزاء من غير الله، فلن تُثاب على هذا العمل، يمكن لك أن تأخذ راتبًا، لا حرج، أن تأخذ مكافآت، لا حرج، هذا مقابل احتسابك فى العمل أنه خالص لوجه الله، ولكن إذا أعطيت، وأكثرت في العطاء، وتكلمت بما فعلت فقد أُحبط عملُك.
إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجه تعالى.
دعونى فى معية الإخلاص، وفي معية المخلصين، أبحث عنهم فوجدت الشاشة مزدحمة بهم.
أتكلم عن من؟ لأن أصحاب النبى صلوات ربى وسلامه عليه، عندما أحبوه أخلصوا في حبه، ولما أخلصوا فى حبه، طهّر الله قلوبهم، ونقّى الله تعالى قلوبهم، حتى صارت قلوبهم خالصةً نقيّة لله ربِّ العالمين.
أيها الأحباب هذا الحديث له بقيه، وكل هذه الأحاديث لن تنتهى ولن تشملها صفحة في كتاب، ولا شريط فى إذاعة، إنما الموضوعات التى أتكلم عنها هى الطاقة التى تدور بها الحياة، طاقة الحياة نفسها، التى تعطى الشخص منّا القوة والقدرة على الطاعات، وتعطيه العزيمة على بذل الطاقات لإرضاء رب الأرض والسماوات.
الطاقة التى تعطيك الصبر، لكى تبقى واقفًا أو مسافًرا أو متحملًا أعباء الحياة، وتكاليف الحياة. الصبر على هذا بالإخلاص، الوقود الذي يعطى لهذه الحياة قيمة.
بطاقة الإخلاص، لرجل يعمل ساعات طوال لكى ينفق على أمه الضريرة أو على أبيه العاجز.
إنى أحترم هؤلاء المخلصين لأننى بطبيعة الحال أجدنى صغيرًا جدًّا امامهم، حجمى صغير فى مقام المحبين، وأجد حجمى أصغر فى مقام المخلصين الذين امتلأت قلوبهم بالإخلاص، فكانت حياتهم كلُّها لله رب العالمين، (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
هذا الإحساس هو الذى يوجد عندك الخوف من الله: { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } إذا سألت فاسأل ربك أن تكون مخلصًا، كما سأل النبى صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إنى أسألك الإخلاص فى القول والعمل، اللهم إنى أسألك قلبًا سليمًا، اللهم إنى أسألك لسانًا ذاكرًا، اللهم إنى أسألك الثبات فى الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمكتك، وحسن عبادتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار)
فى معية المخلصين سترى هذا النداء الربانى.
واعلموا أن فيكم رسول الله.