وهذه الحكمة للإمام بن القيم الجوزية من كتابه: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم، وهو من أفضل من تبحّر في العوم الكونية، بحيث ترى في هذا الكتاب الموسوعي الذي أنصح بقراءته، لأنه يأخذك إلى دقائق وأسرار تدرك بها عظمة القهار، - مثلا – نتكلم عن الحكمة من خلق الريش في الطيور!! فيعقد لها إعجازا عظيما، وفي آخر الكلام يقول: أإله مع الله؟! فهو أمر فيه ترتيب وحكمة، ويدرسه ويتعمق، حتى يصل بك إلى أن كل شيء في هذا الكون لا يمكن أن يكون بلا قيمة، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴿٢٠﴾ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20-21]، فلم يقل: وفي الأرض آيات للمؤمنين، لأنك في حاجة إلى يقين كي تدرك عظمة الله، وهناك ثمة فرق بين المؤمنين وبين الموقنين، في أن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
مهما دققنا في الأسرار وتعمقنا فيها في كل يوم نكتشف أننا لا نعلم شيئا، لأن آيات الله تعالى متجددة في عطائها، قال تعالى: { لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، هذا علم، وكل في فلك يسبحون، وكما يسبحون يسبّحون، وكما أنهم يسبحون لهم ذكر لم يكن أحد يعرفه، والاكتشافات الحديثة أثبتت أن كل ما يجري في الكون يذكر الله تعالى ويسبحه، وبدأالعلم يكتشف طبيعة الأشياء التي كانت تسبح للخاق سبحانه وتعالى، حتى النار مسبّحة، قال تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وقال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّـهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13].
الذي يتأمل الحكمة يرى أسرارا عجيبة خلف كل شيء خلقه الله تعالى بقدرة وانتظام عجيبين، أيها القمر؛ أنت محترم في مكانك! لكنك أيها القمر لو تقدمت قليلا لغرقت الأرض، ولو علوت عن مدارك قليلا ما دامت الحياة، أيتها الشمس! إن تقدمتِ مثقال ذرة تحترق الأرض، وإن علوتِ مثقال ذرة لتجمدت الأرض، هذا هو معنى الحكمة، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴿٢٠﴾ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20-21]، فأنت في نفسك معجزة كونية، سألتك عن مناعتك! أين مناعتك التي تعيش بها؟ أين روحك التي تعيش بها؟ أين الجاذبية الأرضية؟ ما استطعت إلا أن تقول كلمة واحدة: أإله مع الله؟! {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴿٢٠﴾ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20-21]، يعني: لو أبصرت قدرة الله تعالى فيك سترى غيرك محروما من كثير من النعم.
اعطني يدك! أين أعصابك؟ هل تراها؟ لكنها موجودة بحكمة لا يعلمها إلا الله، المناعة عندك، لكنك لا تراها، الروح عندك ولكنك لا تراها، أنت ما رأيت شيئا، فماذا لو رأيت؟ قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ﴿٣٨﴾ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴿٣٩﴾ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿٤٠﴾ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ﴿٤١﴾ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿٤٢﴾ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 38 – 43]، هل أبصرنا شيئا؟ لا والله ما أبصرنا!.
قلت لك: ظللت أسيرا داخل آية، قوله تعالى: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، فأخذني ابن القيم لتعرف الحكمة في السماوات واصفا كل سماء وسكان كل سماء، وكيف أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وفي كل سماء ملائكة يبقون راكعين وساجدين إلى قيام الساعة، فإذا ما قامت الساعة قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلّم-: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة يارب لمن يزن هذا، فيقول الله تعالى لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة من تجيز على هذا، فيقول من شئت من خلقي، فيقولون سبحانك ما عبدناك حق عبادتك».
بين عرش الرحمن وبين السماوات السبع قدر ما بين كل سماء وسماء، قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى}، آية واحدة حبستني داخلها ثلاثين عاما، ولا زلت حتى الآن أتنعم بأسرارها، قال تعالى: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، عندما كنت في إيطاليا وقفنا عند جبل، فرأينا نوافير مياه تخرج من الجبل تخرج في الشتاء دافئة وتخرج في الصيف باردة، ورغم ذلك يجادلون في الله، قال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّـهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13].
عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: بعثَتْ بنو سعدِ بنِ بكرٍ ضِمَامَ بنَ ثَعلَبةَ وافِدًا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقَدِمَ عليه، وأَناخَ بعيرَهُ على بابِ المسجدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالسٌ في المسجدِ في أصحابِهِ، وكان ضِمامُ بنُ ثَعْلبَةَ رَجُلًا جَعْدَ الشَّعَرِ ذا غَدِيرَتَيْنِ- قال: فأَقبَلَ حتَّى وَقَف على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في أصحابِه، فقال: أيُّكُم ابنُ عبدِ المُطَّلِبِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبِ. قال: محمدٌ؟ قال: نعم. قال: يا ابنَ عبدِ المُطَّلِبِ، إنِّي سائِلُكَ ومُغْلِظٌ عليكَ في المسألةِ، فلا تَجِدَنَّ في نفْسِكَ. قال: لا أَجِدُ في نفْسي، سَلْ عمَّا بَدَا لكَ. قال: أَنْشُدُكَ باللهِ إلهِكَ وإلهِ مَن كان قَبْلَكَ، وإلهِ مَن هو كائِنٌ بعدَكَ، آللهُ أَمَرَكَ أنْ نَعبُدَهُ وحْدَهُ لا نُشْرِكَ به شيئًا، وأنْ نَخلَعَ هذه الأوثانَ الَّتي كان آباؤُنا يَعبُدون معه؟ قال: قال اللَّهُمَّ نعَم. قال: فأَنْشُدُكَ باللهِ إلهِكَ وإلهِ مَن كان قَبْلَكَ، وإلهِ مَن هو كائِنٌ بعدَكَ، آللهُ أَمَرَكَ أنْ نُصَلِّيَ هذه الصلواتِ الخَمْسَ؟ قال: اللَّهُمَّ نعم. قال: ثُمَّ جَعَل يَذْكُرُ فرائِضَ الإسلامِ فريضةً فريضةً: الزَّكاةَ، والصِّيامَ، والحَجَّ، وشرائِعَ الإسلامِ كلَّها يُناشِدُهُ عندَ كلِّ فريضةٍ كما يُناشِدُهُ في الَّتي قَبْلَها، حتَّى إذا فَرَغ قال: فإنِّي أَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأَشهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وسأُؤَدِّي هذه الفرائضَ، وأَجتَنِبُ ما نَهَيْتَني عنه، ثُمَّ لا أَزِيدُ ولا أَنْقُصُ. قال: ثُمَّ انصَرَف إلى بعيرِه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنْ يَصْدُقْ ذُو العَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الجَنَّةَ. قال: فأَتَى بعيرَهُ فأَطلَقَ عِقالَهُ، ثُمَّ خَرَج حتَّى قَدِمَ على قومِه، فاجتَمَعوا إليه، فكان أوَّلَ ما تَكَلَّمَ به أنْ قال: بِئْسَتِ اللَّاتُ والعُزَّى! قالوا: مَهْ يا ضِمامُ، اتَّقِ البَرَصَ، اتَّقِ الجُذامَ، اتَّقِ الجُنونَ. قال: ويْلَكُم! إنَّهما واللهِ ما تَضُرَّانِ وما تَنفعانِ، وإنَّ اللهَ قد بَعَث رسولًا، وأَنزَل عليه كتابًا استَنْقَذَكُم به ممَّا كُنتُم فيه، وإنِّي أَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وقد جِئتُكُم مِن عِندِهِ بما آمُرُكُم به [وأَنهاكُم عنه، قال]: فواللهِ ما أَمسَى مِن ذلك اليومِ في حاضِرَتِهِ مِن رَجُلٍ ولا امرأةٍ إلَّا مُسْلِمًا. قال ابنُ عبَّاسٍ: فما سمِعْنا بوافِدٍ قَطُّ كان أَفْضلَ مِن ضِمَامِ بنِ ثَعْلَبةَ.
آيات التأمل في الخلق:
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: 190، 191].
قال جل وعلا: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾ [النبأ: 14 - 16]. وقال تعالى: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا... ﴾ [النازعات: 30، 31]، وقال جل وعلا: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا... ﴾ [عبس: 24، 25]، وقال جل وعلا: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ... ﴾ [الغاشية: 17].
وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴿٢٢﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿٢٣﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ﴿٢٥﴾ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴿٢٦﴾ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٢٧﴾ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ ۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 22 – 28].
وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29].