بقلم: أ.د. محمد علي دبُّور
أستاذ التاريخ الإسلامي المشاركبجامعتي القاهرة وأم القرى
إن من أهم أسباب التراجع الذي أصاب الأمة الإسلامية كثرةَ المفاهيم المغلوطة التي اجتاحت عقول الكثيرين وأفهامهم، وتزداد الخطورة إذا علمنا ورأينا أن تلكم المفاهيم الخاطئة تحولت في أعماق الوعي الجمعي الإسلامي إلى مسلمات أو ما يشبه المسلمات في حياتنا الفكرية والثقافية، وتزداد الأزمة تفاقمًا عندما يخيم علينا شبح الاستسلام لتلكم المفاهيم القاتلة التي تساعد على سريان روح الكسل والخمول، والخنوع والخضوع، واليأس والفشل، وتكون معول هدم لأركان أمة شاء الله لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس.
إن من هذه المفاهيم المقلوبة اعتقاد أن رمضان شهر للراحة والكسل، والخمول والنوم الطويل، شهر تتوقف فيه كل المهمات، وتتعطل فيه كل الأعمال، وتتأخر فيه كل الواجبات، وتؤجل فيه كل المشاريع، شهر يرتبط في الأذهان بالتعب وانعدام القدرة والتسويف...هكذا صارت علاقتنا برمضان وفكرتنا عن رمضان.
وكل هذه المفاهيم بعيدة كل البعد عن حضارتنا وإنجازات أسلافنا، غريبة على قيمنا، متباينة عن مبادئ ديننا، فلو قلَّبنا صفحات تاريخنا، وفتشنا في زوايا حضارتنا لوجدنا أن أعظم الإنجازات وأفضل الانتصارات وأهم الفتوحات وأسمى البطولات تحققت في هذا الشهر الكريم، مما يدلنا على أنه ليس شهرًا للقعود، وإنما هو شهر الهمة العالية والروح الوثابة والقوة الضافية والنشاط الزائد والطموح الذي يتجاوز كل الحدود.
ولو ذهبنا نستقصي كل الفتوحات التي حدثت في هذا الشهر الكريم لطال بنا المقام، ولكننا سنذكر أبرز هذه الفتوحات العظيمة، وما يمكن أن يؤخذ منها من الدروس والعبر، فكان منها: غزوة بدر الكبرى (17 من رمضان سنة 2 هـ)، أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، فتح مكة المكرمة (20 من رمضان سنة 8 هـ)، وهو يوم الفرقان، معركة البويب بين المسلمين والفرس على ضفاف نهر الفرات بالعراق (12 من رمضان سنة 13 هـ)، الفتح الإسلامي لبلاد النوبة (السودان) (رمضان سنة 31 هـ)، فتح جزيرة رودس في عهد معاوية بن أبي سفيان بقيادة جنادة بن أبي أمية (رمضان سنة 53 هـ)، الفتح الإسلامي للأندلس (28 من رمضان سنة 92 هـ)، فتوحات المسلمين في جنوب فرنسا (رمضان سنة 102 هـ)، معركة بلاط الشهداء (9 من رمضان سنة 114هـ)، فتح عمورية بقيادة الخليفة العباسي المعتصم بالله (17 من رمضان سنة 223 هـ)، فتح سرقوسة من جزيرة صقلية (14 من رمضان سنة 264 هـ)، فتح حارم من أعمال حلب بقيادة نور الدين محمود (26 من رمضان سنة 559 هـ)، معركة المنصورة بين الأيوبيين والحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا (رمضان سنة 647 هـ)، معركة عين جالوت بين المسلمين والمغول على أرض فلسطين (25 من رمضان 658 هـ)، فتح أنطاكية على يد الظاهر بيبرس (14 من رمضان سنة 666 هـ)، معركة شقحب (مرج الصُّفر) بين المسلمين والمغول على مشارف مدينة دمشق (2 من رمضان سنة 702 هـ)، فتح جزيرة قبرص في عهد المماليك (رمضان سنة 829 هـ)، فتح البوسنة والهرسك في معركة قوص أوه (قوصوه) بين العثمانيين والصرب (4 من رمضان سنة 791هـ)، وغيرها من الفتوحات العظيمة والإنجازات العسكرية الحاسمة في تاريخ المسلمين، وهي كثيرة وما ذكرناه منها فيه كفاية، أو كما يقال: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق؛ أي: يكفي المسلمين فخرًا أن يستحضروا هذه المشاهد الخالدة في التاريخ الإسلامي؛ ليأخذوا منها الدروس والعبر.
إن هذه الجهود الكبيرة والبطولات الرائعة تُحَدِّثنا حديثًا واضحًا لا غموض فيه أن شهر رمضان كان فرصة لتحقيق الآمال وإنجاز الأعمال، ولم يكن فرصة للراحة والكسل والخمول، ولا شك أن هناك عواملَ كثيرةً تقف وراء هذه القفزات العسكرية الجبارة، نوجزها في عشرٍ لعلها تكون درسًا بليغًا للفهم والعبرة والعظة والعمل:
• في رمضان يتعانق صفاء الروح مع قوة الإيمان، فتكون المحصلة عزيمة بلا حدود، وإرادة تكسر كل الحواجز، وقوة تحقق المستحيل، وشجاعة تبدد كل الهواجس، وجسارة تتحدي كل العوائق، وإقدامًا يحصد النصر.
• في رمضان تحلق النفس البشرية المتحلية بالإخلاص والتقوى في آفاق الإيمان والقرب من الرحمن، فتكون المحصلة ارتفاع الروح المعنوية التي تدفع النفس دفعًا إلى العمل بلا كلل، والقفز فوق العقبات بلا ملل.
• في رمضان – ومع الصوم الحقيقي - تتخلى النفس البشرية عن أمراضها وأدرانها ووساوسها، فتبقى قوية نقية طاهرة صابرة، تتحلى بالإيثار والحب، وتتزين بروح التعاون والقرب.
• في رمضان تكون المعركة الأولى بين المرء ونفسه، فإن هُزم فيها فلن يحقق نصرًا على غيره، وإن انتصر على نفسه فسيكون انتصاره على غيره أيسر.
• الغزوات والمعارك في الإسلام ليست للاعتداء والظلم كما هو ديْدَنُ الدول الباغية الظالمة المستكبرة في الأرض، بل وسيلةٌ لدفع العدوان ورد الحقوق.
• إن النصر في الإسلام ليس بالعدد الكثير ولا بالسلاح الوفير، إنه مقرون بأخذ الأسباب والإخلاص في العمل، وجميل التوكل على الله مسبب الأسباب.
• رمضان شهر التربية؛ لإعداد الأمة وتقويتها ماديًّا ومعنويًّا، لتبقى دائمًا وأبدًا حائط صد منيع ضد كل مَن تسوِّل له نفسه التهجم عليها عقائديًّا أو فكريًّا أو عسكريًّا.
• إن الانتصارات الإسلامية كانت مثالاً للرحمة والعفو وحسن الخلق والتواضع، كما جسدت مبادئ الحضارة الإسلامية وعظمة الإسلام في صورة واقعية نادرة المثال.
• كان الهم الأكبر لدى قادة المسلمين هو تقديم العمل لهذا الدين وإعلاء رايته على كل المنافع والمصالح والمطامع الشخصية البالية الفانية.
• وأخيرًا....إن شهر رمضان لم يشرعه الله تعالى للقعود والتخلف عن ركب الجهاد والحركة والدعوة إلى الله، ولم يشرعه كذلك للتحجج به عن التفلت من الالتزامات الوظيفية أو الاجتماعية، بل إنه شهر نشاط وحركة، وجدّ واجتهاد، وفتوحات وانتصارات.
وهذا كله كافٍ لكي ينفض عنا غبار الكسل والدعة والخمول، ولكي نفهم شهر رمضان الفهم الصحيح، ونتعامل معه التعامل اللائق؛ ليكون – بحقٍّ - شهر الإنجاز والعمل لا شهر الكسل والملل.
رمضان شهر الفتوحات الربانية
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة