الهداية والاسْتِقَامَةَ تُورِثُكَ أُنْسًا بِاللهِ وَنُورًا فِى قَلْبِكَ وَانْشِرَاحًا فِى صَدْرِكَ

محاضرات
طبوغرافي

 

الأستاذ الدكتور أحمد/ عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

maxresdefault

 

 

الهداية والاستقامة

قال– تعالى-: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6-7].

تتناول الآيات شيئين عظيمين وهما الهداية والاستقامة.

والهداية منحة ربانية وفضل إلهى وحتى تؤتى الهداية ثمرها لابد من الاستقامة فلا ثمرة لهداية بلا استقامة.

ولذلك يقول– تعالى– ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، وَيَقُولُ ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [ الأحقاف: 13-14].

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِى اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ قُلْ لِى فِى الإِسْلامِ قَوْلاً لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ قَالَ ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ! ثُمْ اسْتَقِمْ )).

فالاسْتِقَامَةُ عَلَى دِينِ اللهِ مَطْلَب الْعُقَلاء، وَمَسْلَك الْعُلَمَاء، وَطَرِيق الصَّالِحُينَ، ودعوة الْمُرْسَلُينَ.

 الهداية

لمحات من الآيات:

الصراط: هو الطريق، ولا تكون الطريق صراطًا حتى تتضمن خمسة أمور– كما قال ابن القيم رحمه الله:

1- الاستقامة.

2- الإيصال إلى المقصود.

3- القرب.

4- سعته للمارين عليه.

5- تعيينه طريقًا للمقصود.

الطريق المستقيم يتضمن القرب؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين. وكلما تعوج طال وبعد. وكذلك استقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود. ولا بد أن يكون واسعًا ليمر عليه الجميع. ثم إن هذه الطريق متعينة بإضافتها إلى المنعم عليهم؛ كما قال تعالى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وهذا مخالف لصراط أهل الغضب والضلال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

ولنتأمل قوله (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)وقوله فى سورة أخرى: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّه)ِ . ثم نتأمل المقابلة بين (الهداية والنعمة) و(الغضب والضلال)؛ فذكر (المغضوب عليهم والضالين) فى مقابلة (المهتدين المنعم عليهم). يقرن بين الضلال والشقاء، وبين الهدى والفلاح؛ كقوله تعالى: (ُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)وأما اقتران الضلال بالشقاء، فكقوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ)؛ فالهداية والسعادة متلازمان، كما أن الضلال والشقاء متلازمان. نسألك يا الله أن تهدينا فيمن هديت؛ لنسعد فى الدنيا والآخرة!

 الهداية2

علامة الهداية:

للهداية علامة واضحة أخبر بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (( إن النور إذا دخل الصدر انشرح وفى رواية أن الإيمان )) قالوا: ما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: ((التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله )) رواه الترمذى وغيره وذكره أيضا الإمام ابن كثير عند تفسير قوله تعالى ﴿من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام﴾ فى سورة الأنعام.

وإذا عرف هذا فأعظم نعمة ينعم بها الله على الإنسان نعمة الإسلام والإيمان. ولكن من سيثبت على هذه النعمة حتى الممات؟ فالقلوب تتقلب والإيمان يزيد وينقص باللحظات، والإنسان ما دام فى هذه الحياة فهو معرض للفتن العظيمة قل من ينجو منها كما قال عليه الصلاة والسلام ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم)) رواه مسلم عن أبى هريرة.

الاستقامة على الهداية:

مِنْ أَسْبَابِ الاسْتِقَامَةِ: مَعْرِفَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَفْضَالِهِ! إِنَّهُ الرَّبُّ الْعَظِيمِ الذِى خَلَقَنَا مِنَ الْعَدَمِ، وَرَبَّانَا بِالنِّعَمِ! إِنَّهُ اللهُ الذِى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى! إِنَّهُ اللهُ الذِى قَالَ عَنْ نَفْسِهِ ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.

إِنَّهُ اللهُ الذِى تَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ فَقَالَ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَقَالَ ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَى الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِى الْعَظِيمُ﴾.

إِنَّهُ اللهُ الذِى قَالَ مَادِحًا نَفْسَهُ ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ إِنَّهُ اللهُ الذِى يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ! إِنَّهُ اللهُ الذِى أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِالْخَيْرَاتِ, وَمَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ!

إِنَّكَ تُطِيعُ اللهَ الذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ! إِنَّكَ تَتْرُكُ الْمَعْصِيَةَ للهِ خَوْفَاً مِنْهُ وَطَمَعَاً فِيمَا عِنْدَهُ! إِنَّكَ تَتْرُكَهَا لِلرَّبِّ الْعَظِيمِ الذِى قَهَرَ كُلَّ قُوَّةٍ، وَغَلَبَ كُلَّ أَحَدٍ، وَأَجَابَ دُعَاءَ الدَّاعِينَ، وَغَفَرَ ذُنُوبَ الْعَاصِينَ وَقَبِلَ تَوْبَةَ التَّائِبِين! فَهَلْ عَرَفْتَ شَيْئَاً مِنْ عَظَمَةِ مَنْ تَعَبَّدَ؟

وَمِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ: مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا وَفَنَائِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى مُرَغِّبَاً فِى الآخِرَةِ وَمُزَهِّدَاً فِى الدُّنْيَا ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 16-17].

وعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ رَضِى اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ((وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِى الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أَصْبُعَهُ فِى اليَّمِ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعْ؟! )) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ جَابِرٍ رَضِى اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بالسُّوقِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَيْهِ (أىْ: عَنْ جَانِبَيْهِ)، فَمَرَّ بِجَدْى أَسَكَّ (أى: صَّغِيَرُ الأُذُن) مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ ((أَيُّكُم يُحِبُّ أنْ يَكُونَ هَذَا لَهُ بِدِرْهَم؟ )) فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ ثُمَّ قَالَ (( أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ )) قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْباً، إنَّهُ أسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ ميِّتٌ! فقال (( فوَاللهِ لَلدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ )) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَتَأَمَّل كَيْفَ أَنَّ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لا تُسَاوِى عِنْدَ اللهِ جِيفَةً مَيِّتَةً, فَأَيْنَ مَنْ تَقَاتَلُوا عِنْدَهَا وَقَطَعُوا الأَرْحَامَ وَتَرَكُوا الْوَاجِبَاتِ وَانْتَهَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ؟

وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِى رَضِى اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِى وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

وَمِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ: تَذَكُّرُ الْمَوْتِ، وَمَعْرِفَةُ هَجْمَتِهِ وَتَوَقُّعُ حُضُورِهِ فِى كُلِّ وَقْتٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام)) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) فَالْمَوْتُ لابُدَّ مِنْهُ وَلا مَحِيدَ عَنْهُ!

إِنَّ الذِى يُنْجِيكَ مِنْ هَذِهِ الْمَهَالِكِ وَتِلْكَ الشَّدَائِدِ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ, فَيَا تُرَى هَلْ أَنْتَ طَائِعٌ للهِ؟ هَلْ أَنْتَ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ، وَمُجْتَنِبٌ نَهْيَهُ؟

ومِنْ أَسْبَابِ الاسْتِقَامَةِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: الصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ، فَإِنَّ صَاحِبَ الطَّاعَةِ يَحْمِلُكَ عَلَى الْخَيْرِ الذِى مَعَهُ، فَجَالِسِ الأَخْيَارَ، فَإنَّكَ إِنْ ذَكَرْتَ أَعَانُوكَ، وَإِنْ غَفَلْتَ ذَكَّرُوكَ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ خَيْرٌ شَمِلَكَ مَعَهُمْ! وَإِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ الأَشْرَارِ، فَإِنْ ذَكَرْتَ خَذَّلُوكَ، وَإِنْ غَفَلْتَ مَا ذَكَّرُوكَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ لَعْنَةٌ عَمَّتْكَ مَعَهُمْ! عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ, فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِى!

فَصَاحِبِ الْعُلُمَاءَ وَطَلَبَةَ الْعِلْمِ، وَالدُّعَاةَ الأَخْيَارَ وَالْمُصْلِحِينَ الأَبْرَارِ وَاحْذَرْ الْعُصَاةَ وَأَهْلَ الْبِدَع ِ, وَانْجُ بِنَفْسِكَ فَإِنَّ الْعُمْرَ فُرْصَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَمِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ السَّعَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِى فِى طَاعَةِ اللهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ! إِنَّ الْهِدَايَةَ وَالاسْتِقَامَةَ تُورِثُكَ أُنْسًا بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنُورًا فِى قَلْبِكَ وَانْشِرَاحًا فِى صَدْرِكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 67] فَصَاحِبُ الإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَوْعُودٌ بِالْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ فِى الدُّنْيَا وَبِالْجَنَّةِ فِى الآخِرَةِ.

قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: إِنَّ فِى الْقُلُوبِ وَحْشَةً لا يُزِيلُهَا إِلَّا الأُنْسُ بِاللهِ! وَفِى الْقُلُوبِ شَعَثٌ لا يَلُمُّهُ إِلَّا الإِقْبَالُ عَلَى اللهِ! وَفِى الْقُلُوبِ نِيرَانُ حَسْرَةٍ لا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِى رَضِى اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يتوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتهِ بأرضٍ فَلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابهُ فأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتى شَجَرَةً فاضطَجَعَ فى ظِلِّهَا وقد أيِسَ مِنْ رَاحلَتهِ، فَبَينَما هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِها قائِمَةً عِندَهُ، فَأَخَذَ بِخِطامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنْتَ عَبدِى وأنا رَبُّكَ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ )) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 الهداية 4

مراتب الهداية:

للهداية مراتب منها:

المرتبة الأولى: الهداية العامَّة:

وهى هداية عامَّة لجميع الكائنات، فالله قد هَدَى كلَّ نفس إلى ما يُصلِح شأنها ومعاشها، وفطَرَها على جلب النافع، ودفع الضارِّ عنها، وهذه أعمُّ مَراتِب الهداية.

والله- عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: 1- 3]، وفيها ذَكَرَ الله أربعة أمور عامَّة وهي: الخلق، والتسوِيَة، والتقدير، والهداية، وجعَلَ التسوِيَة من تَمام الخلق، والهداية من تَمام التقدير، وبذلك تَكُون التسوِيَة والهداية كمالَيْن للخلق والتقدير؛ ﴿الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: 7].

فالخلق والتسوِيَة يشمَل الإنسان وغيره؛ ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس: 7]، ومن أمثلة ومعانى الهداية العامَّة الخاصَّة بالتسوِيَة والتقدير للمخلوقات عامَّة: الإنسان والحيوان، والطير والدوابُّ، فإن الله قد خَلَقَ الذكر والأنثى، فهَدَى الذكر للأُنثَى كيف يأتِيها، واختِلاف ذُكران الحيوان لإناثه مُختَلِف لاختِلاف الصور والخلق والهيئات، فلولا أنه- سبحانه- جعَلَ كلَّ ذكر على معرفة كيف يأتى أنثى جِنسِه لما اهتَدَى لذلك، أو هَداه لِمَعاشِه ومَرعَاه، وكذلك تقديره- سبحانه- للجَنِين فى الرَّحِم ثم هَداه للخُروج.

وأنواع الهداية كثيرةٌ لا يُحصِيها إلا الله؛ مثل: هداية النحل إلى سلوك السُّبُل التى فيها مَراعِيها على تبايُنِها واختلافها، ثم عودها إلى بيوتها من الشجر والجبال وما يعرش بنو آدم؛ ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: 68]، وكذلك هدايته- سبحانه- للنملة كيف تخرج من بيتها وتطلُب قُوتَها من هنا وهناك، وكيف خاطبَتْ أصحابها، وأمرَتْهم بأن يدخلوا مساكنهم؛ ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: 18].

وهذه الحقيقة الكُبرَى ماثِلَة فى كلِّ شيء فى     الوجود يشهَد لها كلُّ شيء فى الوجود من الكبير إلى الصغير، كلُّ شيء مُسَوى فى صنعته، كامل فى خلقته، مُعَدٌّ لأداء وظيفته، مُقَدَّر له غايته ووجوده، وهو مُيَسَّر لتَحقِيق هذه الغايَة من أيسر طريق، وجميع الأشياء مُجتَمِعة كاملة التناسُق مُيَسَّرة لكى تُؤَدِّى فى تجمُّعها دورها الجماعى مثلما هى مُيَسَّرة فُرادَى لكى تُؤَدِّى دورها الفردي، وهذا واضح فى الكون المشهود فى الذرَّة المفردة والمجموعة الشمسية، كذلك بين الخلية الواحدة وأعطى الكائنات الحيَّة درجات من التنظيمات والتركيبات تدلُّ على الكمال الخلقى والتدبير والتقدير.

ومن أثر هذه الهداية الفطرية أنها قادَتْ كلَّ كائن إلى الاعتِراف برَبِّه وذكره؛ قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44].

وهذا النوع من الهداية- العامَّة الفطريَّة- مُقتَرِنة بالخلق فى الدلالة على الربِّ- تبارَك وتعالى- وأسمائه وصفاته وتوحيده؛ ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]، وهذا نظير قوله: ﴿قَدَّرَ فَهَدَى﴾، وهذا الخلق وهذه الهداية من آيات الربوبية والوحدانية، ومن المُلاحَظ أنَّ الجمع بين الخلق والهداية العامَّة قد جاء فى القرآن كثيرًا.

المرتبة الثانية: هداية الدلالة والبيان والإرشاد:

الهداية 3

وهذا النوع هو وظيفة الرسل والكتب المنزلة من السماء، وهو خاصٌّ بالمكلَّفين، وهذه الهداية هى التى أثبَتَها لرسوله- صلَّى الله عليه وسلَّم– بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، كما أنَّ هذا النوع من الهداية أخصُّ من التى قبلها، فهى مصدر التكليف ومَناطُه، وبها تقوم حُجَّة الله على عِباده؛ فإن الله- تعالى- لا يُدخِل أحدًا النار إلا بعد إرسال الرسل الذين يُبيِّنون للناس طريق الغى من الرشاد: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15]، ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزمر: 57]، ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 165]، يقول ابن كثير: “أي: إنه- تعالى- أنزَلَ كتبه وأرسَلَ رسله بالبشارة والنذارة، وبيَّن ما يحبُّه ويَرضاه ممَّا يكرهه ويأباه؛ لئلاَّ يبقى لمُعتَذِر عذر؛ ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134].

وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن مسعود- رضِى الله عنه- قال: قال رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((... لا أحد أحب إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك بعَثَ النبيِّين مُبَشِّرين ومُنذِرين)).

والله- تعالى- لم يمنع أحدًا هذه الهداية، ولم يَحُلْ بين أحدٍ من خلقه وبين هذه الهداية، بل خلَّى بينهم وبينها، ومَنَحَهم من الوَسائل والأدوات التى تُساعِدهم على تقبُّلها والاستِفادة بها؛ كالعقل والفطرة، وأقام لهم بذلك أسباب الهداية ظاهرة وباطنة، ومَن حرَمَه من خلقه بعضًا من هذه الأدوات والوسائل؛ كزوال العقل أو الصِّغَر أو المرض- فقد حطَّ عنه من التكاليف بحسب ما حرَمَه من ذلك؛ قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ [النور: 61]، وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((رُفِع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستَيقِظ، وعن الصبى حتى يَبلُغ، وعن المجنون حتى يفيق))، كما اتَّفق رِجال الأصول على أنه: “إذا أخَذَ ما وهب انقَطَع ما وجب”.

وهذه الهداية لا تستَلزِم حُصُول التوفيق واتِّباع الحقِّ من العِباد؛

الاستقامة تقى العبد من الوقوع فى المعاصى والذنوب وتبعث فى نفسه النشاط فى طاعة الله والسعى فى كسب مرضاته وتعجل بالرزق فى الدنيا