الأسرة المسلمة واغتنام العمر

محاضرات
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

إن مما يميز الأسرة المسلمة ويزيدها سعادة ويملأ البيت الذي تسكنه نورًا وسكينة هي اغتنام العمر في طاعة الله سبحانه، وهذا ما ينبغي للأسرة أن توجه أبناءها إليه وتربيهم عليه وتعلمهم أن الأعمار فانية، وأن الأعمال باقية وترغبهم في الآخرة، وتعلمهم أننا في هذه الحياة الدنيا جئنا لعبادة الله حق عبادته فلا تفنى منا الأعمار قبل أن يرضى عنا العزيز الغفار.

إننا لا بد أن نقص لأبنائنا قصص الصالحين حتى يسيروا على نهجهم ومنوالهم وحتى نربي في قلوبهم الطموح وحب الخير.

إن خير عطاء تعطيه لأبنائك أن توجههم إلى قضاء أوقاتهم في تعلم القرآن وحفظه وتعلم العلم وفهمه وعبادة الله حق عبادته .

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ((مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجًا مِنْ نُورٍ ضَوْءُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ ، وَيُكْسَى وَالِدَيْهِ حُلَّتَانِ لا يَقُومُ بِهِمَا الدُّنْيَا فَيَقُولانِ : بِمَا كُسِينَا ؟ , فَيُقَالُ : بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ)) [رواه الحاكم وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ].

قال الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى -: (الصبيُّ أمانةٌ عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرةٌ نفيسةٌ خاليةٌ عن كل نقشٍ وصورة، وهو قابلٌ لكل نقش، ومائلٌ إلى كل ما يُمالُ إليه، فإن عُوِّد الخيرَ نشأ عليه، وسَعِدَ في الدنيا والآخرة أبواه، وإن عُوِّد الشر وأًهْمِلَ إهمال البهائم، شَقِيَ وهَلَكَ،وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه، وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً، وإنما يكمل ويقوى بالغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتربية، وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم.

قال ابن القيم رحمه الله: ((وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله, وترك تأديبه, وإعانته على شهواته, وهو بذلك يزعم أنه يكرمه وقد أهانه، ويرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت على ولده حظه في الدنيا والآخرة، ثم قال رحمه الله: وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء)).

ونذكر هنا مثالًا على اغتنام العمر وهو نموذج عطاء بن أبي رباح ، لقد كان عطاء بن ابي رباح عبدا حبشيا مملوكا لإمرأة من أهل مكة كان مخلصا في خدمتها واسمه أسلم ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

كان عطاء أعور أعرج ثم أصبح ضريرا فيما بعد، ولكنه كان فقيها ثقة عالما كثير الحديث، هذا العَبْدُ الأسْود الممْلوك قسَّمَ وقْتَهُ ثلاثة أقْسام: وقْتٌ للعمل مِن أجل أن يأكل، ووقْتٌ من أجل أن يعبدَ الله عز وجل، ووقْتٌ من أجل أن يطلبَ العِلم، فلا تسْمَح لِجانِبٍ من حياتِكَ أن يطْغى على جانبٍ آخر، وإلا ندمتَ أشَدّ النَّدَم، ولا تسْمح لِعَمَلِكَ أن يأخذ جلَّ وقْتك .

جعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ لِسَيِّدَتِهِ، يخْدمها أحسنَ ما تكون الخدمة، ويؤدِّي
لها حُقوقها عليه أكْمَلَ ما تؤدَّى الحقوق، وجَعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ
لِرَبِّه، يفْرُغُ فيه لِعِبادتِهِ، أصْفى ما تكون العبادة، وأخلصَها لله
عز وجل، وجعلَ قِسْمًا ثالثًا لِطَلب العلم، حيث أقْبلَ على منْ بقِيَ
حيًّا من أصْحاب رسول الله، وطفِقَ ينْهَلُ من مناهلِهم الثَّريّة
الصافيَة، فأخذ عن كبار الصحابة كأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله
بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم رِضْوان الله تعالى عنهم، حتى
امتلأَ صدره علمًا وفقْهًا وروايةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
كان عطاء قليل الكلام يؤثر الصمت إلى فيما يحتاج إليه, كانت هذه الفضيلة من أخلاقه الكريمة التي يشهد له فيها الروح كان يسمع محدثه جيدا بما أتي من أدب الإستماع ، ولقد كان من أطرف مواقفه في هذا الشأن الذي حدث بها معاذ بن سعيد عندما قال : كنا عند عطاء فتحدث رجل بحديث فأعترض له أخر في حديثه  فقال عطاء سبحان الله ما هذه الأخلاق إني لأسمع الحديث من الرجل وأن أعلم به منه فأريه أني لا أحسن منه شيئا.

حينما أعْتَقَتْهُ سيّدتَهُ اتّخذ عطاءٌ من بيت الله الحرام مُقامًا له،
فجعلَهُ دارهُ التي يأْوي إليها، ومدرستَهُ التي يتعلَّمُ فيها، ومُصلاّهُ
الذي يتقرَّب إلى الله تعالى فيه، حتى قال بعض المؤرِّخين: كان المسجد
الحرام فِراشَ عطاءِ بن أبي رباح نحْوًا من عشرين عامًا.

وهناك في مجلس هشام بن عبد الملك يقول: اتق الله في نفسك فإنك خلقت وحدك وتحشر وحدك وتحاسب وحدك ولا والله ما معك من ترى أحد.

ويأتي سُليمان بن عبد الملِك يُؤدِّي فريضة الحجّ، وهو في بيت الله الحرام،
حاسِرَ الرأس، حافِيَ القدَمَيْن، ليس عليه إلا إزارُهُ، ورداء، شأنُهُ
كَشَأن أيّ حاجٍّ من المسلمين، ومن خلْفِهِ ولداهُ، وهما غلامان كَطَلْعَة
البدْر بهاءً، وما إن انتهى خليفة المسلمين، من الطَّواف حول البيت
العتيق، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ، وقال:أيْن صاحبكم؟.

ثمَّ مضى هذا الخليفة نحو هذا الرجل، وجعلَ يسْألهُ عن مناسِك الحجّ، بعدها قال سليمان لِوَلدِهِ: هذا الذي رأيْتَهُ يا بنيّ، ورأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه هو عَطاء بن أبي رباح, هو نفسهُ صاحبُ الفتيا في المسجد الحرام, ووارِث عبد الله بن عبَّاس,الصحابيّ الجليل الذي أوتِيَ فهْمًا في القرآن الكريم، ثمَّ أرْدَفَ يقول: يا بنيّ، تَعَلّم العِلْم، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع، وينْبُهُ الخامِل ، ويَعْلو الأرِقَّاء على مراتب المُلوك.

وصَلَ هذا التابعيّ الجليل إلى ما وصَلَ إليه مِن عُلُوّ في مقامه، ومن رُتبةٍ
عاليَةٍ في علْمِه، بِخَصْلَتَيْن اثْنَتَيْن؛ الأولى أنَّهُ أحْكَمَ سلْطانهُ على نفْسِهِ، فلَمْ يدَعْ لها سبيلاً في أنْ ترْتَعَ فيما لا نفْعَ له.

الخصْلة الثانِيَة؛ أنَّهُ أحْكمَ سُلطانهُ على وقْتِهِ، فلمْ يهْدرهُ في فضول

الكلام والعمل, فلمْ يسْمح لِنَفْسِهِ أن يُمضِيَ وقتًا في ما لا طائِلَ منه .

عاش عطاء بن أبي رباح حتى بلغ مائة عام، ملأ حياته بالعلم والعمل، وأتْرعها بالبرّ والتقوى، وزكَّاها بالزُّهْد بما في أيدي الناس، والرغبة بما عند الله، وللهِ درُّ القائل حين قال:

لا تسْألنَّ بُنَيّ آدم حاجــةً

وسَل الذي أبوابهُ لا تُغلــقُ  

الله يغضبُ إن تركْت سؤالهُ

وبنيّ آدم حينما يُسأل يغضبُ

هذا تابعي من التابعين، عَبْدٌ أسْود، وحبشي، وقف أمامه أمير المؤمنين ذليلاً، قال له: ((يا بنيّ، هل رأيْت ذلَّنا بين يديه؟)) تعلَّموا العلمَ، فإنْ كنتم سادةً فُقْتُم، وإن كنتم وسطًا سُدْتم، وإن كنتم سوقةً عِشْتم، ورتبة العلم أعلى الرتب، والعلم لا يُعْطيك بعضَهُ إلا إذا أعْطيتهُ كلَّكَ، فإذا أعْطيتهُ بعْضكَ لم يعْطِكَ شيئًا.

إن في قصة هذا الرجل الصالح دليلا على أن التربية على الطموح وحب العلم والخير لا يعوقها قلة ذات اليد، فكم من أسرة فقيرة لا تملك كثيرًا من المال، ولكن بالتربية الحسنة الطيبة لأبنائها وصل أبناؤها إلى أعلى المراتب وأجلها وصاروا موضع احترام وغبطة ممن حولهم ممن يملكون القصور والأموال.