الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
وقد اخترت هذا العنوان لأمرين:
الأول لأن صورة الإسلام فى هذه الأيام قد تبدلت وأصبح شكل المسلمين أمام الناس بأنهم مصاصو دماء، لا يعرفون إلا القتل، فأردنا أن نبين لهم أن الإسلام ليس كذلك، وأن الإسلام دين التسامح، ودين الرفق، ودين الرحمة، يقول تعالى{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}
الأمر الآخر أن تصرفات الناس فى الأيام الأخيرة فى بلادنا أصبح فيها قسوة وشدة، كان الناس قديمًا أشدَّ إحساسًا بالآخرين، اليوم أصبح الناس لا ينشغلون إلا بأنفسهم، فأين الرحمة؟الرحمة جعلت النبى رحيمًا بالمسلمين وبغير المسلمين، كان الناس قديمًا لما فهموا الإسلام يعطون زكاتهم لمن يعملون فى الكنيسة، لأن الرحمة تنبعث من داخلهم اقتداءً برسول الله { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} القلب لا يتغلَّظ، ولكن غلظة القلب معناها أن الإنسان لا مجال عنده أن يرحم الآخرين، حتى قالوا مثلًا يخالف شريعة الله، وأنا سأقوله من باب تعليم الناس فيقولون:” لا يرحم ولا يترك رحمة الله تنزل بالناس” هذا الكلام فيه سوء أدب مع الله لأن رحمة الله نازلة لا محالة بالناس قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لا أحد فى الدنيا كلها يستطيع أن يمنع رحمة الله، لأن الرَّحم شُجنة من الرحمن كما يقول النبى صلى الله عليه وسلم، يعنى عطاء ومودة لأن كل إنسان يرحم الناس فهو مرحوم عند الله تعالى، ولأجل هذا المسلمون الأوائل كانوا حساسين لهذا الموضوع، الفاروق عمر رضى الله عنه رأى يهوديًّا فقيرًا يتكفَّف الناس، فقال عمر فى نفسه كيف يعيش المسلمون وبينهم من لا يجد قوت يومه حتى ولو كان غير مسلم؟ ولهذا أمر عمر رضى الله عنه أن يُصرف له راتب من بيت المال، لماذا؟ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء”
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: “إن لى عشرة أبناء ما قبّلت أحدهم قطّ” فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:” أرأيت إن نزع الله الرحمة من قلبك، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء”.
والسارق عندما يسرق فالحد أن تقطع يده، ربما قال قائل هذا ليس من الرحمة، كيف نقطع أيدى الناس بمجرد السرقة؟ هل هذا من الرحمة؟ نعم هذا من الرحمة: قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتّقُونَ} لو قُطعت يد رجل فى مدينة لما سرق أحد فى المدينة كلها بعد ذلك، أنت يوم القيامة تحاول أن تصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذت مال أخيك فى الدنيا، فستمنع من ذلك يوم القيامة.
إقامة الحدود رحمة :{ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} يقول قائل الإسلام هذا دين عنيف يجلد الناس، ويعذب الناس على أخطائهم، لا بل هذا رحمة من الله لأن الناس إذا خافوا من الله فلن يظلم بعضهم بعضًا.
فبإقامة الحدود سنحمى المجتمع من الزنا، وسنحمى المجتمع من السرقة، وسنحمى المجتمع من القتل، وسنحمى المجتمع من جميع الجرائم، أليس هذا من الرحة؟
امحُ من حياتك كل شيئ يغضب الله منك، كى يرحمك الله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}
وتذكر يوم اليرموك وهو يوم عظيم من أيام الإسلام، أربعون من الصحابة يموتون من العطش، لأن كل واحد منهم كان يؤثر أخاه على نفسه بالماء، فأخذ كل منهم وهو يعانى سكرات الموت يرسل الماء للذى يليه حتى ماتوا جميعهم، هؤلاء هم الذين رباهم النبى صلى الله عليه وسلم، واليوم تجد الرجل فى الطابق الأول يقطع الماء عن جيرانه فى الطوابق العليا، بل يؤذيهم، ويقابلهم بالفظاظة وبالغلظة.
المسلم الحق من يحب أخاه مثل نفسه، بل أكثر من نفسه:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت فى مرادها الأجسام
كتب على نفسه الرحمة، عندما تكون القلوب مثل الصخر فاعلم أنها لن تنال شيئًا من رحمة الله، ولا من بركة الله، لماذا؟ لأنهم قطعوا الرحمة عن أنفسهم، قال تعالى:{فَانْظُرْ إِلَى آثَار رَحْمَة اللَّهإذا تراحم الناس زادت البركة، إذا تراحم الناس كثر الخير، وقل الشر، إذا تراحم الناس فيما بينهم رحمهم الله فى الدنيا والآخرة، (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء)
“لا تنزع الرحمة إلا من شقىّ”، الأشقياء هم الذين لا يستحقون رحمة الله ولذا هم أبعد الناس عن الله عز وجل، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أخّر الله تعالى عنده تسعًا وتسعين رحمة إلى يوم القيامة، ولذا تقول الملائكة: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ.} الله عزَّ وجل يعطيك الخير برحمة، ينزل عليك البلاء أيضًا برحمته لحكمة لا يعلمها إلا هو، { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} يجب على كل منا أن يرحم غيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ لا يدخل الجنة قاطع”
أيها الأخ الحبيب، افتح صفحة جديدة مع الذين ظلموك، افتح صفحة جديدة مع الذين بينك وبينهم عداوة، افتح صفحة جديدة مع كل الناس من حولك، افتح صفحة جديدة مع كل من بغى عليك وبغيت أنت عليه، أريدك إنسانًا مرحومًا يوم القيامة، وبرفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
الخطبة التاسعة والسبعون بعنوان: ((كتب على نفسه الرحمة))
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة