حلاوة الإيمان لا تأتى لك وأنت جالس على مكتب أو نائم على سرير

محاضرات
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الأسلامى

maxresdefault

إن المسلم لا يجد للحياة مذاقًا إلا إذا تفاعل مع الإيمان واستجاب له، فالإيمان هو الفطرة الطيبة، التى ليس فيها تردد ولا التواء، ولأن الله تعالى خلق الإنسان بيده، ونفخ فيه الروح من روحه، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكة السماء، وخلقه فى أحسن تقويم، وخصه بالتكريم بين العالمين، وأرسل إليه الرسل وأنزل عليه الكتب، ومهد له طريق الهداية، وذّكّره بنعمه عليه فيجب عليه أن يعبد ربّه ويحمده ويشكر نعمه عليه. قال تعالى { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) }[البقرة: 28 - 29].

ويحتاج بعض الناس إلى ما يقوى إيمانهم بالله؛ ولذلك ترى فى القرآن الكريم أن كل نداء بالإيمان يأتى بعده تكليف من الله لنا، كما قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. فوجود الإيمان واستقراره فى القلب المسلم معناه أن الإنسان يستطيع أن يتلقى التكليفات عن الله.

ولا تتحقق الأخلاق فى الإسلام ولا تظهر آثارها إلا إذا كان هناك إيمان ثابت راسخ يعطى المسلم اليقين فى أنه لن تكون هناك حياة طيبة إلا بالإيمان، { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) } [النحل: 97].

ولا يستطيع الإنسان أن يستغنى عن الإيمان كما لا يستطيع أن يستغنى عن الطعام والشراب؛ لأن الإيمان هو وقود القلب والروح، وحركته الدائمة، وهو النجاة من الخوف والحزن والهم والكسل وضيق الصدر، ووحشة النفس فى الدنيا، وهو النجاة من عذاب الله تعالى يوم القيامة، قال تعالى: { يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) } [الزخرف}.

ولأن الإيمان له حق، وله حقيقة، فلا يبلغ المسلم حقيقة الإيمان إلا عندما يزداد يقينه بالله، فيرتفع بهذا اليقين منزلة عالية، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) } [المجادلة].

وليس المطلوب من المسلم أن يؤمن فقط ، بل أن يرتفع بإيمانه؛ ويوجه سلوكه ويستشعر حلاوة الإيمان فى قلبه، فالإيمان له مذاق، وله حلاوة، وله جمال، وله نضارة فى الوجه، وانشراح فى الصدر، وله تجلياته فى سلوك المسلم، وكل هذه المعانى يمكن جمعها فى جملة واحدة نسعى إليها جميعًا، وهى أن نصل إلى مرتبة: ( كيف نتذوق حلاوة الإيمان؟ ).

وهذا ما يَسعَى إليه هذا الكتاب الذى يأخذ بيد القارئ إلى مرحلة المجاهدة فى تذوق طعم الإيمان من خلال مرتبة الرضا بالله، والرضا عن الله، والرضا عن الإسلام وعن شريعة الإسلام، والرضا عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والرضا به صلى الله عليه وسلم .

ويتناول هذا الملخص خمسة موضوعات رئيسة تدور فى فلك الارتقاء بالإيمان فى قلب المسلم، بداية من درجات الاستجابة للإيمان، ومرورًا بالتعرف على درجات الإيمان، ثم الارتفاع إلى مرتبة كمال الإيمان، ثم الربط بين الإيمان واليقين معًا، وتقديم نماذج عملية لهذا الربط.

أولًا: درجات الاستجابـــة
الاستجابــة قبـل الدعـاء.. لماذا؟
قال تعالى فى كتابه الكريم: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) }[البقرة]. أي: وإذا سألك أيها النبى عبادى عنى فقل لهم: إنى قريب منهم، أُجيب دعوة الداعى إذا دعاني، فليطيعونى فيما أمرتهم به، ونهيتهم عنه، وليؤمنوا بي، لعلهم يهتدون إلى مصالح دينهم ودنياهم. وفى هذه الآية إخبار منه سبحانه عن قربه من عباده، القرب اللائق به جل وعلا.

كثيرًا ما نتوجه بالدعاء إلى ربنا جل وعلا والسؤال: ما الخطوات الإيمانية التى يمكن أن أستشعر بها الإجابة من رب العالمين لدعائي؟

ومن عطاءات آية الدعاء السابقة يتوقع الإنسان منا أن الله سبحانه وتعالى كان يقدم الإيمان على الاستجابة، { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) } [البقرة].. وإنما سبحانه وتعالى جل فى علاه قدم الاستجابة على الإيمان؛ لأنها توضح لنا مكانة النبى الكريم صلى الله عليه وسلم ، فأنت تسأل النبى صلى الله عليه وسلم ، أى أن الناس عندما يحتاجون علمًا، وعندما يحتاجون نورًا توفيقًا وهداية وصلاحًا فإنهم يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس فى هذا العصر الذى نعيش فيه يحتاجون إلى علماء يأخذون بأيديهم، ويحتاجون إلى علماء ورثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والنور، يحتاجون إلى مصابيح الهداية التى تحدث عنها النبى الكريم صلى الله عليه وسلم . فإذا كان عندك استعداد فإن الله سبحانه وتعالى يستجيب لك، أما إن كان عندك قلب غافل لاهٍ فإنه لن يسمع لك.

بعد الاستجابة يأتى الإيمان، فعندما علمت أن الله تعالى ينظر إليك ويراك، وأنه تعالى مطلعٌ عليك، تلاحظ أن الإيمان يحتاج إلى استجابة، ودائمًا نقول: مَن استعد استمد، فالذى يستعد للصلاة فإنه يُهيأ لها بالحضور القلبى بالوضوء وبالقرآن الكريم كما فى قوله تعالى: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [ الإسراء ]. كل فريق من العاملين للدنيا الفانية، والعاملين للآخرة الباقية نزيده مِن رزقنا، فنرزق المؤمنين والكافرين فى الدنيا؛ فإن الرزق مِن عطاء ربك تفضلاً منه، وما كان عطاء ربك ممنوعًا من أحد مؤمنًا كان أو كافرًا.

فالذى عنده استعداد للإيمان فإنه يسعى إلى هذا الإيمان، فالإيمان له حلاوة، وله طعم جميل، والإيمان عبارة عن حركة وليس نومًا، وهو عبارة عن ارتباط المسلم بالمسجد وبالقرآن، وارتباط المسلم بحب الله عز وجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لم يذق عبد حلاوة الإيمان إلا إذا أحب لله وأبغض لله”
وأولى مراتب الاستجابة هى وقوف العبد أو المؤمن عند هذه الآية حين قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]. إنا نخصك وحدك بالعبادة، ونستعين بك وحدك فى جميع أمورنا، فالأمر كله بيدك، لا يملك منه أحد مثقال ذرة. وفى هذه الآية دليل على أن العبد لا يجوز له أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة؛ كالدعاء، والاستغاثة، والذبح، والطواف إلا لله وحده، وفيها شفاء القلوب من داء التعلق بغير الله، ومن أمراض الرياء، والعُجب، والكبرياء، فلا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، بذلك نتذوق حلاوة الإيمان، فالإيمان إحساس.

أما المرتبة الثانية فهى اليقين، أي: يقين الأمة كلها بالله عز وجل ، كما فى قوله تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) } [الحجر]. أي: ولقد نعلم بانقباض صدرك أيها الرسول بسبب ما يقوله المشركون فيك وفى دعوتك، فافزع إلى ربك عند ضيق صدرك، وسَبِّح بحمده شاكرًا له، مثنيًا عليه، وكن من المصلِّين لله العابدين له، فإن ذلك يكفيك ما أهمَّك، واستمِرَّ فى عبادة ربك مدة حياتك حتى يأتيك اليقين، وهو الموت. وامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، فلم يزل دائبًا فى عبادة الله حتى أتاه اليقين من ربه.

أما المرتبة الثالثة فنأخذها من هذه الآيات: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح: 29].

والمعنى: أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذين معه على دينه أشداء على الكفار، رحماء فيما بينهم، تراهم ركعًا سُجَّدًا لله فى صلاتهم، يرجون ربهم أن يتفضل عليهم، فيدخلهم الجنة، ويرضى عنهم، علامة طاعتهم لله ظاهرة فى وجههم من أثر السجود والعبادة، هذه صفتهم فى التوراة، وصفتهم فى الإنجيل كصفة زرع أخرج ساقه وفرعه، ثم تكاثرت فروعه بعد ذلك، واشتد الزرع، فقوى واستوى قائمًا على سيقانه جميلاً منظره، يعجب الزُّرَّاع؛ ليَغِيظ بهؤلاء المؤمنين فى كثرتهم، وجمال منظرهم الكفار.

وفى هذا دليل على كفر من أبغض الصحابة رضى الله عنهم ؛ لأن مَن أغاظه الله بالصحابة فقد وُجب فى حقه موجِب ذاك وهو الكفر.. وعد الله الذين آمنوا منهم بالله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به، واجتنبوا ما نهاهم عنه، مغفرة لذنوبهم، وثوابًا جزيلاً لا ينقطع، وهو الجنة، ووعد الله حق مصدَّق لا يُخْلَف، وكل مَن اقتفى أثر الصحابة رضى الله عنهم فهو فى حكمهم فى استحقاق المغفرة والأجر العظيم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذى لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضى الله عنهم وأرضاهم.

فيجب أن تعيش مع الناس الذين ينهضون بك إلى الله سبحانه وتعالى ، وليس مع الذين يشدونك إلى الدنيا، وتكون دائمًا مع من هم ينقلونك من حالة أدنى إلى حالة أعلى، قال تعالى فى كتابه الكريم: { طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) } [طه].

أي: ما أنزلنا عليك أيها الرسول القرآن لتشقى بما لا طاقة لك به من العمل، لكن أنزلناه موعظة، ليتذكر به مَن يخاف عقاب الله، فيتقيه بأداء الفرائض، واجتناب المحارم. تذكرة لمن يا رب؟ لمن يخشى، فأنت فى حاجة إلى رصيد إيمانى لكى تبنى عليه، إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى، كما قال تعالى: { إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) }[ق]. أي: إن فى إهلاك القرون الماضية لعبرة لمن كان له قلب يعقل به، أو أصغى السمع، وهو حاضر بقلبه، غير غافل ولا ساهٍ.

فلا تصحبن إلا مَن ينهض بك حالهُ؛ فلا يكذب ولا يخون ولا يغتاب، ويخاف من الله سبحانه وتعالى ، كن مع هذا؛ لأنه يشحن قلبك نورًا وحبًّا لله عز وجل : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة: 186].

فلا تصحبن إلا من ينهض بك حاله، ويدلك على الله مقاله، أي: عندما تستمع إليه فإن صدرك ينشرح إلى الله، وتزداد حبًّا لله، ومخافة من الله، لا يتكلم عن أحد، لا يذكر نقائص أحد، ولا يذكر عيوب أحد، ولكن إذا تحدث فإنه يتحدث ويعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه، ويستمع إليه، والله تعالى يراه، فهذه قمة الإيمان، وهذه أعلى منازل الإيمان، كما فى قوله تعالى فى الآية السابقة.

أما المرتبة الرابعة فهى الصبر، قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [التغابن: 11]. أي: ما أصاب أحدًا شيءٌ من مكروه يَحُلُّ به إلا بإذن الله وقضائه وقدره، ومَن يؤمن بالله يهد قلبه للتسليم بأمره، والرضا بقضائه، ويهده لأحسن الأقوال والأفعال والأحوال؛ لأن أصل الهداية للقلب، والجوارح تبع، والله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء من ذلك.

ففى قوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الشعراء]. أي: وفَوِّضْ أمرك إلى الله العزيز الذى لا يُغلب ولا يُقْهَر، الرحيم الذى لا يخذل أولياءه، وهو الذى يراك حين تقوم للصلاة وحدك فى جوف الليل، ويرى تقلُّبك مع الساجدين فى صلاتهم معك قائمًا وراكعًا وساجدًا وجالسًا، إنه سبحانه هو السميع لتلاوتك وذكرك، العليم بنيتك وعملك.

ثانيًا درجــات الإيمــان:
الإيمان درجات، وهذه الدرجات أو الأجزاء عندما تجمع بعضها مع بعض يتكون الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم : “الإيمان بضع وسبعون شعبة” . والشعبة هى فرع من الأصل، أي: الإيمان عبارة عن شجرة، والشجرة لها ساق، والساق له فروع، والفروع تخرج منها الثمار.

إذن بداية الإيمان فى جذر الشجرة وهو التوحيد، أى جذر الإيمان هو التوحيد، وثمرته الأخلاق التى علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإنسان المؤمن هو الذى يأتى بجميع الأعمال التى كلفنا بها الله تعالى فى حياتنا، أي: الصلاة جزء من هذا الإيمان، وأساس فى الإيمان، وتلاوة القرآن، والصدق، والإخلاص كل هذه من شعب الإيمان، أى أن الإنسان لكى يكون مؤمنًا لا بد وأن يُحصِّل بضعًا وسبعين شعبة من شعب الإيمان، وعندما تسقط منه شعبة أو بعض هذه الشعب فإنه فى حاجة إلى أن يراجع نفسه؛ لأن الإيمان يحتاج إلى تجديد ومراجعة، وأن تجعل الحياة كلها لله عز وجل أساس هذه الحياة، إنه لا يجتمع نقيضان فى شيءٍ واحد.

لا يجتمع الإيمان والحسد:
لا يمكن أن يكون المؤمن حسودًا، فالمؤمنُ يحب الخير للناس كلهم، وحلاوة الإيمان لا تأتى لك وأنت جالس على مكتب، أو نائم على سرير، ولكن حلاوة الإيمان تحتاج إلى مجاهدة، قال تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) [الحجرات].

أي: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وحسَّنه فى قلوبكم فآمنتم، وكرَّه إليكم الكفرَ بالله، والخروجَ عن طاعته، ومعصيتَه، أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الراشدون السالكون طريق الحق.. حبب إليكم السعى إلى الإيمان، أي: الإيمان يحتاج إلى سعي.

من درجات الإيمـان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا يجتمع الإيمان والحسد فى قلب مؤمن”. ثم قال صلى الله عليه وسلم : “لا يجتمع الإيمان والكذب فى قلب امرئ مسلمٍ”. ثم قال صلى الله عليه وسلم : “لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر فى صدر امرئ مسلمٍ”. وقال: “ولا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن”. وقال: “لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه”.

ويعنى ذلك أن الإيمان صار عبارة عن جزئيات إيمانية معينة، عندما نضمها إلى بعض فإنها تتساوى فى مراتب الإيمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “الإيمان بضع وسبعون شعبة”. فلا بد أن أتذوق بضعًا منها، ولا أتذوق من شعبة واحدة فقط.

أى كم نأخذ فى الإخلاص؟ كم نأخذ فى التوبة؟ كم نأخذ فى الاستغفار؟ كم نأخذ فى الصدق مع الله جل فى عُلاه؟ كم نأخذ فى الصدق مع الناس والصدق فى القول؟ كل هذه مراتب تحدث عنها علماء الأخلاق فى الإسلام.

يُضاف إلى ذلك أيضًا: لا يجتمع الإيمان والمِراء، أي: لا يمكن أن يكون المؤمن مجادلاً حتى لو كان محقًّا أو صادقًا.. فإذا وجدت مؤمنًا يريد أن يفرض عليك رأيه، وأنه على حق أمام الناس فلا تنشغل به.

إذن الإيمان عبارة عن عناصر إيمانية متكاملة، فعندما نصلى فإننا نستشعر حلاوته، وأبناؤنا عندما يقرءون القرآن، ويحفظون سورة بعد سورة، ويجدون أن كل سورة لها مذاق وطعم، فإنهم يتذوقون حلاوة الإيمان مع كل سورة من سور القرآن الكريم.

أين أجد حلاوة الإيمان؟
المسلم يتفقد حلاوة الإيمان -أى يبحث عنها- فى مواضع ثلاثة:
(1) الصلاة، ولا بد لها من خشوع.
(2) الذكر مع التفكر، وأذكار الصباح والمساء، ويشعر بها، ويعمل بها، ويعرف أسرار الذكر.
(3) تلاوة القرآن، والخشوع فى التلاوة، وحب قراءة سورة بعد سورة، والاستشعار بحلاوة الإيمان، والاستماع هنا لا يكفي، ولكن يجب أن تعيش القرآن الكريم بكل جوارحك، أهم شيء أن يكون هناك رصيد من الإيمان، ورصيد الإيمان أن تكون هناك قاعدة يُبْنى عليها الإيمان.

سُئِـلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَى الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ”. فأفضل الأعمال التى يعيشها الإنسان فى هذه الحياة هو إيمان بالله عز وجل .

من ثمرات الإيمان:
الإيمان عندما يستقر فى قلب صادق مع الله، ما النتيجة؟ قال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) } [المائدة]. فالإيمان هنا معرفة، والإيمان أيضًا عبارة عن تحول كامل فى حياتنا.

لماذا لا نستمتع بالصلاة ولا العبادة؟ لماذا نحن متوترون فى حياتنا؟ لماذا نحن عصبيون فى حياتنا؟ لافتقاد السكينة الهدوء والاطمئنان، والسكينة لا تثبت إلا بالإيمان، قال تعالى: { هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [الفتح: 4].

أي: هو الله الذى أنزل الطمأنينة فى قلوب المؤمنين بالله ورسوله يوم “الحديبية “ فسكنت، ورسخ اليقين فيها؛ ليزدادوا تصديقًا لله واتباعًا لرسوله صلى الله عليه وسلم مع تصديقهم واتباعهم، ولله سبحانه وتعالى جنود السماوات والأرض ينصر بهم عباده المؤمنين، وكان الله عليمًا بمصالح خلقه، حكيمًا فى تدبيره وصنعه.. أي: هو الذى أنزل السكينة؛ لكى يثبت بها قلوب المؤمنين.

الفرق بين السكينة والمحبة:
السكينة تأتى من الله إلى قلب مستعد لها، ولكن القلب الهلِعَ المتوتِّرَ العصبى لن تستقر فيه السكينة، كما فى قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى (39) } [طه]. أي: وألقيت عليك محبة منى فصرت بذلك محبوبًا بين العباد، ولِتربى على عينى وفى حفظي. وفى الآية إثبات صفة العين لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وكماله.

فسيدنا موسى عليه السلام لم يشترِ هذه المحبة من الناس، وإنما ألقى الله سبحانه وتعالى المحبة على سيدنا موسى عليه السلام منذ صغره.

تشابه الإيمان بالثمر الطيب:
كل هذه المعانى نستشعرها عندما تكون عندنا حديقة، هذه الحديقة فيها جميع أنواع الثمار، وأنواع الخضروات، فهى من أعلى بها ثمار: تفاح، ومشمش، وفراولة، وعنب، ومن أسفل بها: جرجير، وطماطم، وبصل، وكل الخضروات فى الأرض، وهذا يسقى من ماء واحد، أى أن التفاح والعنب يُسقَى من الماء نفسه الذى يُسقى منه الجرجير والخس، فالكل يُسقى من ماء واحد.

فصار الإيمان عبارة عن طعوم، كل واحد يتذوق شيئًا معينًا، ويتذوق عبادة معينة يجد نفسه فيها، ويتذوق صحبة معينة يحب أن يجلس معها وأن يألف إليها، وأن يسكن إليها، وطعم الإيمان يُسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض فى الأُكُل، كما فى قوله تعالى: { وَفِى الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الْأُكُلِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد: 4].

أي: وفى الأرض قطع يجاور بعضها بعضًا، منها ما هو طيِّب يُنبتُ ما ينفع الناس، ومنها سَبِخة مِلْحة لا تُنبت شيئًا، وفى الأرض الطيبة بساتين من أعناب، وجعل فيها زروعًا مختلفة، ونخيلاً مجتمعًا فى منبت واحد، وغير مجتمع فيه، كل ذلك فى تربة واحدة، ويشرب من ماء واحد، ولكنه يختلف فى الثمار والحجم والطعم وغير ذلك، فهذا حلو، وهذا حامض، وبعضها أفضل من بعض فى الأكل، إن فى ذلك لَعلامات لِمَن كان له قلب يعقل عن الله تعالى أمره ونهيه.

ثالثًا: كمال الإيمان
يواجهنا دائمًا سؤال، ونتحير الإجابة عنه، وهو: كيف أستشعر أن قلبى يتزلزل كما كان يتزلزل قلب الصديق والفاروق رضى الله عنهما؟

ونقول: كمال الإيمان معادلة إيمانية سهلة وبسيطة ومرتبط بأمرين معا وهما الثقة بالله عز وجل واليقين فى نصر الله، فما دام الله سبحانه وتعالى وعدنا بالنصر فإن الله لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح } [النصر: 1]. أي: إذا تمَّ لك أيها الرسول النصر على كفار قريش، وتم لك فتح “مكة” فقد جاء نصر الله، وسيأتى نصر الله، ولكن متى يكتمل النصر؟ يكتمل النصر مع اكتمال الإيمان، لأجل هذا فإن بعض الناس الآن عندهم ذبذبة فى الإيمان، وذبذبة فى العقيدة، والمسلم يجب ألا يتذبذب، ولا يأتيه الضعف أبدًا؛ فهذه الأمة منتصرة بإذن الله تعالى، فإذا لم تنتصر هذه الأيام فإن نصر الله تعالى قادم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم بدر وهو يقول ويرفع يديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم : “اللهم نصرك الذى وعدتني”
ومن أمثلة الثقة واليقين بالله تعالى ما فعلته أم موسى عليها السلام، ويظهر هذا فى قوله تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) }[القصص]. أي: وألهمنا أم موسى حين ولدته وخشيت عليه أن يذبحه فرعون كما يذبح أبناء بنى إسرائيل: أن أرضعيه مطمئنة، فإذا خشيت أن يُعرف أمره فضعيه فى صندوق، وألقيه فى النيل دون خوف من فرعون وقومه أن يقتلوه، ودون حزن على فراقه، إنا رادُّوه إليك وباعثوه رسولاً، فوضعته فى صندوق وألقته فى النيل.

إن كمال الإيمان والثقة فى الله تتجلى فى هذا الموقف، موقف أم سيدنا موسى عليه السلام ، والمنطق يقول: إذا خفت عليه فاحفظيه فى مكان آمن، وضعيه فى مكان آمن، وأبعديه عن الفرعون، هذا هو المنطق البشري، ولكن المنطق الإيمانى والعطاء الإيمانى له مفهوم آخر، والعطاء الإلهى له مفهوم آخر.. فإذا خفتِ عليه ماذا تفعل؟ { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [القصص: 7].

وهذا المعنى يُستفاد به أيضًا عند النوازل، كما حدث فى أحداث غزة المجاهدة عام 2008، فإن الله تعالى يأمر وهو الحافظ الحفيظ، وربك على كل شيء حفيظ.. كما فى قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) } [الأنفال: 45].

انظر إلى الخطاب: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر قد استعدوا لقتالكم، فاثبتوا ولا تنهزموا عنهم، واذكروا الله كثيرًا داعين مبتهلين لإنزال النصر عليكم، والظَّفَر بعدوكم؛ لكى تفوزوا.

رابعًا: مع الإيمان واليقين
الإيمان فى حاجة إلى يقين، وفى حاجة إلى ارتفاع وزيادة، والناس يتفاوتون فى هذا الإيمان على قدر حبهم لله عز وجل ، وعلى قدر حبهم للقرآن الكريم، وعلى قدر إقبالهم على كلام الله، وعلى قدر حفظهم له، والعمل به، قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) } [المائدة].

والإيمان لكى يكتمل فإنه فى حاجة إلى تدعيم، والتدعيم أى تحسين الإيمان، والإنسان دائمًا لا بد وأن يتعلم من أهل العلم، كما فى قوله تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَى ثُمَّ إِلَى مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) } [لقمان]، أي: واسلك أيها الابن المؤمن طريق مَن تاب من ذنبه، ورجع إلى وآمن برسولى محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إلى مرجعكم فأخبركم بما كنتم تعملونه فى الدنيا، وأجازى كلَّ عامل بعمله.

وقال تعالى { الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } [الفرقان: 59]. أي: الذى خلق السماوات والأرض وما بينهما فى ستة أيام، ثم استوى على العرش، أي: علا وارتفع، استواءً يليق بجلاله هو الرحمن، فاسأل أيها النبى به خبيرًا، يعني: بذلك سبحانه نفسه الكريمة، فهو الذى يعلم صفاته وعظمته وجلاله، ولا أحد من البشر أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل: إن أصل الكلام هنا: اسأل عنه خبيرًا، أي: عالمًا فاهمًا محيطًا بأسرار الأسماء والصفات؛ لأن الله لا يسأل عن ذاته ولا عن أسمائه ولا عن صفاته.. وإنما الذين يبلغون عن الله بصدق وروية وعلم وإحاطة هم الذين جعلهم الله تعالى سبيلاً إلى هداية للعباد، كما قال تعالى فى سورة الأحزاب: { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) } [الأحزاب]
ولكون الإيمان يحتاج إلى تدعيم وتحسين ومتابعة فالصغير أو الكبير عندما يمسك مصحفًا لا يستطع أن يتعلم بمفرده، فلا بد وأن يتعلم على يد شيخ يعلمه القرآن وعلومه، وهكذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى غذى هذه الأمة كلها بنور الإيمان، فالتلقيح لا بد أن يحدث؛ لأنه إذا لم يحدث تلقيح للإيمان لن يزيد هذا الإيمان، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “جددوا إيمانكم”.

خامسًا تلقيح الإيمـــــان:
يريد الله سبحانه وتعالى أن يجدد الإيمان فى قلوب الناس، فيأتى العلماء وأهل الفقه أن يوقظوا الإيمان فى نفوس الناس، وهذا مفهوم تلقيح الإيمان، فالناس على حالتين:
الحالة الأولى: الذين يستجيبون لله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم .
الحالة الأخرى: الذين لا يستجيبون لله تعالى ولا للرسول صلى الله عليه وسلم .

فهذا حبيب النجار صاحب يس الذى ذكره الله تعالى فى سورة “يس”: { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) } [يس: 20]. وهو سوف يسعى إلى الله تعالى، وسوف يسعى لتبليغ رسالات الله سبحانه، وكيف لا يخشى أحدًا غير الله تعالى؟ إنه يريد لهذه البيئة وهذا الجو أن يكون جوًّا إيمانيًّا، ولهذا الزمان الذى نعيش فيه أن يكون إيمانيًّا.

قال تعالى: { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِى لَا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّى إِذًا لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّى آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) } [يس]. وجاء من مكان بعيد فى المدينة رجل مسرع، وذلك حين علم أن أهل القرية هَمُّوا بقتل الرسل أو تعذيبهم، قال: يا قوم اتبعوا المرسلين إليكم من الله.. حريص على تبليغ رسالات الله.

كل شخص منا فى حاجة إلى آخر يذكِّرُه بالإيمان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم، ولا يعظون إخوانهم، وما بال جيران لا يتعلمون من جيرانهم”.

فالإنسان مطالب ومكلّف أن يبلغ رسالة الله تعالى، وأن يبلغ أى علم أو نور أعطاه الله إياه، فهذا الرجل حريص -وهو حبيب النجار- أن يدعو إلى الله تعالى بكل قلبه وبكل أحاسيسه، يقول: { إِنِّى آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25]. اسمعونى إنى سأتكلم فأعطونى قلوبكم وأسماعكم. أي: إنى آمنت بربكم فاستمعوا إلى ما قُلْته لكم، وأطيعونى بالإيمان، وأعطونى آذانكم، ولكنهم لا يستمعون إليه، وغدروا به وقتلوه، فقد قتلوه وهم يعلمون أن قلبه المؤمن الجياش الذى يحبّ الخير يتمنى لهم الهداية، وبعد أن مات، ودخل القبر، وانتقل إلى عالم البرزخ يجد خيرات وعطاء عظيمًا من الله عز وجل .

فانظروا إلى هذا الرجل ليس أنانيًّا، ولكنه ناصح وأمين فى تبليغ رسالات الله تعالى، فيدخل الجنة كما ورد فى قوله تعالى: { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ} [يس]. أي: قيل له بعد قتله: ادخل الجنة، إكرامًا لك، فهذا عملك الذى قدمته لله تعالى، قال وهو فى النعيم والكرامة: يا ليت قومى يعلمون بغفران ربى لى وإكرامه إياي؛ بسبب إيمانى بالله وصبرى على طاعته، واتباع رسله حتى قُتِلت، فيؤمنوا بالله فيدخلوا الجنة مثلي.

الخاتمة ولله الحمد ومنه العون، فقد اجتهدنا فى بيان معنى حلاوة الإيمان وطعم الإيمان، وكيف يصل المسلم إلى هذه المرتبة.. وهذا ما تناولته فصول هذا الكتاب الذى أدعو الله سبحانه وتعالى أن يكون بابًا من أبواب الخير ورفع الهمة لدى المسلمين، ويكون مجالاً لتلقيح الإيمان فى قلوبنا، والمؤازرة والتواصى بالحق والصبر.