فهل مِن مدكر؟ لفضيلة الاستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

محاضرات
طبوغرافي

 الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

 

الشيطان لا يريد لك أن ا أن تستغفر، ولا أن تحمد، بل يحاول أن يخرجك من هذه الحالة الإيمانية؛ ولذا قال الله تعالى: (وَإذَا رَأَيْتَ الَّذينَ يَخُوضُونَ في آيَاتنَا فَأَعْرضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْره وَإمَّا يُنسيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ الْقَوْم الظَّالمينَ)[الأنعام:68].

والقرآن الكريم دائمًا يدعو إلى تذكر نعم الله وآياته على الإنسان؛ لأن تذكر هذه النعم باب من أبواب الشيطان لايريدك أن تحمّد الله ولا
تفسير سورة الفاتحة

العدد الثاني 2
العبادة والاستعانة
قال – تعالى - : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة : 5 ]
العبادة هى كمال الطاعة والانقياد لأوامر الله والانتهاء عن زواجره ، والوقوف عند حدوده ، وقبول جميع ما ورد عنه على لسان نبيه دون رد شيء من ذلك أو إلحادٍ فيه .

وقد لخص العلماء تعريف العبادة بقولهم: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة، فمثال الأفعال الظاهرة الصلاة، ومثال الأقوال الظاهرة التسبيح، ومثال الأقوال والأفعال الباطنة الإيمان بالله وخشيته والتوكل عليه، والحب والبغض في الله.
وأصل معنى العبادة مأخوذ من الذل، يقال: طريق معبّدٌ إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، غير أن العبادة في الشرع لا تقتصر على معنى الذل فقط، بل تشمل معنى الحب أيضًا، فهي تتضمن غاية الذل لله وغاية المحبة له، فيجب أن يكون الله أحبَّ إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله عنده أعظم من كل شيء .

فالعبادة اسم جامع لكل أنواع الخير التي أمر الله تعالى بها واجتناب كل النواهي التي نهى الله عنها قال – تعالى - : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } [ النساء : 36].

وتنبع أهمية العبادة من كونها الغاية التي خلق الله الخلق لأجلها، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] ولأجل تحقيق هذه الغاية واقعا في حياة الناس بعث اللهُ الرسل، قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36] وقال تعالى{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له)) ) رواه أحمد) .

وبالعبادة وصف الله ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى: {وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} [الأنبياء: 19].

وذم المستكبرين عنها بقوله: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [الأنبياء: 19] ونعت أهل جنته بالعبودية له، فقال سبحانه {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} [الإنسان:6] ونعت نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية له في أكمل أحواله، فقال في الإسراء {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } [الإسراء:1 ] ، وقال في مقام الإيحاء {فأوحى إلى عبده ما أوحى } [النجم:10] وقال في مقام الدعوة {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} [الجن:19] وقال في التحدي { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله } [البقرة:23] فالدين كله داخل في العبادة وهي أشرف المقامات وأعلاها وبها نجاة العبد ورفعته في الدنيا والآخرة.

إن التذلل والخشوع في العبادة ناشئ عن حب وتعظيم ، فمن خضع لأحد مع بغضه له لا يكون عابداً له ، ومن أحبه ولم يخضع له بالقبول والانقياد لم يكن عابداً له أيضاً – كمحبة الإنسان لوالده أو صديقه ، إذ لا بد أن يقترن الحب بالتعظيم ليحصل الخضوع والانقياد ، فلو حصلا بسبب الخوف والإرهاب لا يكون عبادة ، ومن هنا وجبت محبة الله ورسوله وتعظيمهما وتقديم محبتهما على كل شيء .
ويشهد لذلك حديث عدي بن حاتم المشهور فى الصحاح والمسانيد حيث نص الرسول – صلى الله عليه وسلم - أن موافقة النصارى لأحبارهم ورهبانهم فيما يشرعونه عبادة لهم ، وإن كانوا لا يحسبونه ولا يعتقدونه عبادة . والله سبحانه يقول : {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} .

ولباب العبودية الحب في الله ، والبغض في الله ، والمولاة في الله والمعاداة فيه فلا تجوز محبة شخص إلا في ذات الله .
وروح العبودية التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، ومن مقتضياتهما الأمر بالمعروف . والنهي عن المنكر .
وعلى عابد الرحمن أن يعرف نفسه حق المعرفة وأن يعرف دوره وواجبه في هذه الحياة ، فلا يعيش في مجتمعه مقلداً ومسايراً ، ولا تابعاً مسالماً ، بل يكون قائداً آمراً وناهياً ، يفرض عقيدته ومبدأه حيث حل .

أهمية الاستعانة بالله في حياة المؤمن
إن المؤمن الذي يريد أن يرتقي في أشرف منازل الآخرة ، لا يستطيع أن يرتقي إلا بعد عون الله وتوفيقه له ، والمصلي كل يوم يقول في صلاته {إياك نعبد وإياك نستعين}
إن الاستعانة ضرورية ومهمة في حياة المؤمن، ولن يستطيع أن ينجز شيئا من أعماله الدينية أو الدنيوية إلا بعد توفيق الله وإعانته وتسهيله وتيسيره له .

•         متى تكون العبادة عبادة ؟
تكون العبادة عبادة ، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله ، فبهذين الأمرين تكون عبادة .
-       وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى.
فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي. •      قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
-   وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق ؛ فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ، ودفع مضارّه ، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل .

-   فمن أعانه الله ، فهو المُعانُ ، ومن خذله فهو المخذولُ ، وهذا تحقيقُ معنى قول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله(، فإن المعنى : لا تحول للعبد من حال إلى حال ، ولا قوة له على ذلك إلا بالله ، وهذه كلمة عظيمة ، وهي كنز من كنوز الجنة .
-       فالعبدُ محتاج إلى الاستعانة بالله في : فعل المأمورات،  وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلِّها في الدنيا وعندَ الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله  عز وجل ، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه .
-       قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((احرصْ على ما ينفعُكَ واستعن بالله ولا تعجزْ)).رواه مسلم
-       ومن ترك الاستعانة بالله ، واستعان بغيرِه ، وكَلَهُ الله إلى من استعان به فصار مخذولاً .
-       كتب الحسن إلى عمر بن العزيز : لا تستعن بغير الله ، فيكِلَكَ الله إليه .

-       ومن كلام بعض السلف: يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك، عجبتُ لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك ـ
•      أقسام الناس في العبادة والاستعانة
•      قال ابن القيم رحمه الله ، أقسام الناس في العبادة والاستعانة أربعة أقسام :
1-)     أهل العبادة والاستعانة بالله .. فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ، ويوفقهم للقيام بها
2- من لا عبادة ولا استعانة .. وإن استعان به وسأله ، فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه .
3-من له نوع عبادة بلا استعانة .. فحظه ناقص من التوكل والاستعانة به . ولهم من الخذلان والضعف والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم .

4- من عنده استعانة بلا عبادة .. وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر ، ولم يسير و يوافق ما يحبه الله ويرضاه ، فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته ، وأغراضه وطلبها منه سواء كانت أموالا أو رئاسات .. ولكن لا عاقبة له . اهـ
فاللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك، لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا.

بعض إسرار تقديم العبادة على الاستعانة في قوله تعالى :
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ * وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
قال ابن القيم _رحمه الله تعالى_:” وَتَقْدِيمُ ( الْعِبَادَةِ ) عَلَى ( الِاسْتِعَانَةِ ) فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْغَايَاتِ عَلَى الْوَسَائِلِ، إِذِ الْعِبَادَةُ غَايَةُ الْعِبَادِ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا، وَ الِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا،وَلِأَنَّ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. مُتَعَلِّقٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَاسْمِهِ_اللَّهِ_.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاسْمِهِ_ الرَّبِّ _ فَقَدَّمَ : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. عَلَى : {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَمَا قَدَّمَ اسْمَ_ اللَّهِ_عَلَى_ الرَّبِّ _ فِي أَوَّلِ الْسُورَةِ، وَلِأَنَّ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) قَسْمُ _ الرَّبِّ _ فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهِ، وَ( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَسْمُ الْعَبْدِ، فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الَّذِي لَهُ، وَهُوَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

وَلِأَنَّ _الْعِبَادَةَ_ الْمُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ _الِاسْتِعَانَةُ_ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَكُلُّ عَابِدٍ لِلَّهِ عُبُودِيَّةً تَامَّةً مُسْتَعِينٌ بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَغْرَاضِ وَالشَّهَوَاتِ قَدْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى شَهَوَاتِهِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَتْ قَسْمَ الرَّبِّ.
وَلِأَنَّ _ الِاسْتِعَانَةَ _ جُزْءٌ مِنِ_الْعِبَادَةِ _ مِنْ غَيْرٍ عَكْسٍ، وَلِأَنَّ _ الِاسْتِعَانَةَ _ طَلَبٌ مِنْهُ، وَ الْعِبَادَةَ _طَلَبٌ لَهُ.

وَلِأَنَّ _ الْعِبَادَةَ _ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُخْلِصٍ، وَ _الِاسْتِعَانَةَ _ تَكُونُ مِنْ مُخْلِصٍ وَمِنْ غَيْرِ مُخْلِصٍ.
وَلِأَنَّ _الْعِبَادَةَ _حَقُّهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ، وَ _ الِاسْتِعَانَةُ _ طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى _الْعِبَادَةِ_، وَهُوَ بَيَانُ صَدَقَتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَدَاءُ حَقِّهِ أَهَمُّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِصَدَقَتِهِ.

وَلِأَنَّ _ الْعِبَادَةَ _ شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَشْكُرَ، وَالْإِعَانَةُ فِعْلُهُ بِكَ وَتَوْفِيقُهُ لَكَ، فَإِذَا الْتَزَمْتَ عُبُودِيَّتَهُ، وَدَخَلْتَ تَحْتَ رِقِّهَا أَعَانَكَ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْتِزَامُهَا وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّهَا سَبَبًا لِنَيْلِ الْإِعَانَةِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَتَمَّ عُبُودِيَّةً كَانَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَعْظَمَ.

وقد قال شيخ الإسلام كلاما هاما بين به - رحمه الله وطيب ثراه - العلاقة بين العبادة والاستعانة فقال:
وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره؛ خضع له وذل وانقاد وأحبه من هذه الجهة، وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه كما يصيب كثيرا ممن يحب المال، أو يحب من يحصل له به العز والسلطان.

وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا كان استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه ،كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله، فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه وإلا فلا.
فالأقسام ثلاثة :فقد يكون محبوبا غير مستعان ،وقد يكون مستعان غير محبوب ،وقد يجتمع فيه الأمران ،فإذا علم أن العبد لا بد له في كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه، وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته؛ وتبين أن قوله : (إياك نعبد وإياك نستعين) كلام جامع محيط لا يخرج عنه شيء.

فصارت الأقسام أربعة :
*إما أن يعبد غير الله و يستعينه وإن كان مسلما (العبادة و الاستعانة اللتين لا تصلان إلى حد الشرك الأكبر كالرياء.
*وإما أن يعبد الله ويستعين غيره كمن تخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم ورزقهم كالملوك وغيرهم مع أنهم يقصدون طاعة الله وعبادته.
* القسم الرابع :الذين لا يعبدون إلا الله ولا يستعينون إلا به.

واتفق المفسرون على أنّ تقديم لفظ (إيّاك) على (نعبد) و(نستعين) يراد منها التخصيص أي بمعنى أننا نعبدك لا نعبد غيرك ونستعينك لا نستعين بغيرك وهذا بخلاف ما لو قال: نعبدك ونستعينك فإن ذلك لا يمنع العبادة للغير والاستعانة بغيره، فمثلا لو كان هناك شخصين آمرين لك فقلت لأحدهما أطيعك فهذا لا يعني أن لا تطيع الآمر الآخر، ولكن عندما تقول له: إياك أطيع فمعناه أنك لا تطيعه إلا هو ولا تطيع الآمر الآخر.

 هذه الدلالة اللغوية للتخصيص تستفاد من تقديم ماله حق التأخير كما هنا إذ قدم المفعول به على الفعل.
 روح العبادة
لا يخفى أن العبادة روح ولب وعلاقة تواصل بين العبد وربه سبحانه، فإذا اقتصرت العبادة على الحركات، وتخلف عنها لبها وجوهرها من الخشوع والخضوع لله والذل والانكسار بين يديه، كان العبد مؤديا لصورة العبادة لا لحقيقتها، فشرود القلب وغفلته في أداءه للعبادة من أعظم الآفات التي تؤدي لعدم قبول العمل، ولتجاوز هذا ذكر العلماء أسبابا لبعث الروح في عباداتنا منها:
1- تحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله سبحانه، وأن سعادته في إحسان عبادته لربه والقيام لله بحقه.
2- التهيؤ للعبادة والاستعداد لها، ويكون التهيؤ لكل عبادة بحسبه، فالتهيؤ للصلاة بالوضوء والحضور إلى المسجد مبكراً.
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: “ ما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها “.

وقال ربيعة بن يزيد رحمه الله: “ ما أذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد، إلا أن أكون مريضا أو مسافرا “.
3- الابتعاد عما يشوش القلب أثناء العبادة كالأصوات والزخارف ونحوها، فقد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته خميصة – ثوبا – له أعلام قائلا: ( ألهتني آنفا عن صلاتي ) متفق عليه .

4- الإقبال على العبادة بقلب فارغ من مشاغل الدنيا وملهياتها، ففي البخاري تعليقا عن أبي الدرداء رضي الله عنه: “ من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ “ كل هذا من أجل أن ينخلع القلب من علائق الدنيا وينجذب إلى حقيقة العبادة، ويجتمع في قلب العبد وفكره ووجدانه الاتجاه إلى الله تعالى.
5- التنويع في أداء العبادة على جميع صفاتها الواردة حتى لا تتحول العبادة إلى حركات ديناميكية يفعلها العبد دون شعور بالفرق بين عبادة الأمس وعبادة اليوم، ولعل ذلك من حكم التنويع في صفات العبادات، فمن قرأ دعاء الاستفتاح في صلاة بصيغة فليقرأه في صلاة أخرى بصيغة أخرى من الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شروط صحة العبادة
لصحة العبادة شرطان:
أحدهما: أن لا يعبد إلا الله، وهو الإخلاص الذي أمر الله به، ومعناه أن يقصد العبد بعبادته وجه الله سبحانه، قال تعالى : {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة:5]. وقال صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) رواه مسلم .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “ اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا “.
والثاني: أن يعبد الله بما أمر وشرع لا بغير ذلك من الأهواء والبدع، قال تعالى: {أَم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21].

وقال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [الكهف:110] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) متفق عليه.
وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } [هود: 7] قال أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال: العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة .

أركان العبادة :
الركن الأول- المحبَّة:
والمراد بها أن يكون العبد مُحبًا لله تعالى، ومحبته له منتهى الحب، لذا يفعل العبادات بدافع محبته لله وخوفه ورجائه له، طلبًا في إرضاء محبوبه، فالذي دفعه لفعل العبادة هو محبته له - عزَّ وجلَّ – وهو أعظم ركن في العبوديــة، فمن لا يحب الله لم يكن عابدًا، وليس في الوجود من هو أجدر من الله – تعالى – بأن يُحَب، فهو صاحب الفضل والإحسان، الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئًا مذكورًا، وخلق له ما في الأرض جميعًا، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وخلقه في أحسن تقويم، وصوَّره فأحسن صورته وكرَّمه وفضَّله على كثيرٍ ممَّن خلقه، ورزقه من الطيبات وعلَّمه البيان واستخلفه في الأرض، ونفخ فيه من رُوحه، وأَسجَدَ له ملائكته، فمن أولى من الله بأن يُحب؟!
قال ابن القيم – رحمه الله – في شأن محبة الله: “وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبـُّون، وبرُوح نسيمها تروّح العابدون؛ فهي قُوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرَّة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرمها فهو من جملة الأموات.

والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات. والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذَّة التي من لم يظفر بها فعيشه كلُّه هموم وآلام. وهي رُوح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال. التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا رُوح فيه. تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلاَّ بشقِّ الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوِّؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب. وطريقهم الأقوم الذي يُبلِّغهم إلى منازلهم الأولى من قريب (مدارج السالكين لابن القيم (3/6، 7).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
“ لكن العبادة المأمور بها تتضمَّن معنى الذلِّ ومعنى الحب؛ فهي تتضمَّن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له، فإنَّ آخر مراتب الحب هو التتيُّم، وأوله العلاقة، لتعلُّق القلب بالمحبوب، ثمن الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب الملازم للقلب، ثم العشق، وآخرها التتيُّم .. يقال «تيَّم الله» أي «عَبَدَ الله»، فالمتيم: المعبِّد لمحبوبه، ومن خضع لإنســان مع بغضه له لا يكون عابدًا له، ولو أحبَّ شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له، كما يُحب الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحبَّ على العبد من كلِّ شيءٍ وأن يكون الله أعظم عنده من كلِّ شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله، وكلُّ ما أحبّ لغير الله فمحبته فاسدة “ (رسالة العبودية ص (44) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله).

عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ثلاث من كنَّ فيه وجد بهنَّ طعم الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار» (أخرجه البخاري (1/56) في الإيمان، ومسلم رقم (43) في الإيمان).

والشاهد قوله: « أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما» فكلَّما عظمت محبة العبد لربه كلَّما عظم تقرُّبه له وقويت صلته به وزادت عبادته، وبذلك تحصل محبة الله للعبد، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ الله قال: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبُّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (أخرجه البخاري (11/292) في الرقاق باب التواضع).

فمن أحب الله حبًّا صادقًا بحيث يدفعه للعمل المشروع والبعد عن المحذور فإنَّ هذا يورث محبَّة الله له، ومن أحبه الله فهو من أوليائه الذين قال فيهم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة يونس الآيات (62-64).

الركن الثاني- الرجاء:
والرجاء من الأمل نقيض اليأس.
قال ابن القيم رحمه الله: “ الرجاء: حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيِّب لها السير. وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الربِّ تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه. وقيل هو الثقة بجود الربِّ تعالى” (مدارج السالكين (2/35).
والرجاء ركنٌ في العبادة، والمراد به هو أن يفعل العبد العبادة بدافع – أيضًا – الرجاء في ثواب الله ورحمته ورجاء مرضاته، لأنه هو النافع فهو المرجو جلَّ وعلا وحده دون ما سواه.

والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه، ودليل كونه مقربًا إلى الله قوله تعالى في وصف بعض أنبيائه وذكر عبادتهم والدافــع لها، فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين} سورة الأنبياء الآية (90).
وأخبر تعالى عن خواص عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقرَّبون بهم إلى الله تعالى أنهم كانوا راجين له خاضعين، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} سورة الإسراء الآيتان (56-57).

كما وصف المؤمنين أنهم يرجون الله طمعًا في ثوابه والقرب منه فقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} سورة السجدة الآية (18).
وقال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} سورة الزمر الآية (9).
وأخبر عن الصحابة المهاجرين الذين فرُّوا بدِينهم وتركوا أموالهم وأولادهم وأوطانهم وما عملوه في الإسلام والدافع لذلك، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة البقرة الآية (218).
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي» الحديث أخرجه الترمذي رقم (3534) في الدعوات.
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتن أحدكم إلاَّ وهو يحسن الظن بربه»( أخرجه مسلم رقم (2877) في صفة الجنة، وأبو داود رقم (3113) في الجنائز).

الركن الثالث- الخوف:
فكما أنَّ المسلم يعبد ربَّه تبارك وتعالى حبًّا له ورجاءً لثوابه وطمعًا في جنته، فإنه كذلك يعبده خوفًا من عقابه وحذرًا من ناره..
والخوف:
قال أبو القاسم الجنيد: هو توقع العقوبة على مجاري الأنفاس.
وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكُّر المخوف.
وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره..
والوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة، والخشية أخصُّ من الخوف

حلاوة العبادة  :
وهذه تتفاوت من شخص لآخر حسب قوة الإيمان وضعفه: {مَنْ عَمِلَ صَالِـحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
وهذه الراحة والطمأنينة والسعادة تكون بعبادة الله وحدَه، وتعلُّق القلـب به، ودوام ذكره.
قال ابن القيم: «والإقبال على الله - تعالى - والإنابة إليه والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته واللَّهَج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة».

وأما من أعرض عن هدى الله، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيعيش عيشة القلق والضنك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124]. فهو «لا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيِّق حرج لضلاله وإن تنعَّم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشكٍّ؛ فلا يزال في رَيبه يتردَّد؛ فهذا من ضنك المعيشة».

وثمة أسباب للحصول على حلاوة العبادة، منها:
أولاً: مجاهدة النفس على العبادة وتعويدها، مع التدرج في ذلك:
قال ابن القيم: «السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف، ومشقة العمل لعدم أُنْس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت (أي الصلاة) قرة عين له، وقوة ولذة».
وقال ثابت البناني: «كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة».
وقال أبو يزيد: «سُقْتُ نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك».
قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. فإذا جاهد العبد نفسه هداه الله وسهل له الوصول إلى ما جاهد نفسه إليه.

ثانياً: الإكثار من النوافل والتنويع فيها على اختلاف صفاتها وأحوالها:
حتى لا تمل النفس، وحتى تُقبِل ولا تدبر؛ فتارة نوافل الصلاة، وتارة نوافل الصوم، وتارة نوافل الصدقة... إلخ؛ فإن ذلك مما يورث محبة الله؛ كما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه أن الله يقول: «وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه...». فـ «من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل قربه إليه، ورقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه؛ حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهَداً له بعين البصيرة».

ثالثاً: التأمل في سير الصالحين:
قال جعفر بن سليمان: «كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع كأنه وجه ثكلى»، وهي التي فقدت ولدها. وكان ابن المبارك يقول: «إذا نظرت إلى فضيل بن عياض جُدِّد لي الحزن، ومقتُّ نفسي»، ثم يبكي.
رابعاً: قراءة القرآن وتدبر معانيه، والوقوف عند عجائبه:
فإن في القرآن شفاءً للقلوب من أمراضها، وجلاءً لها من صدئها، وترقيقاً لما أصابها من قسوة، وتذكيراً لما اعتراها من غفلة، مع ما فيه من وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، وبيان أحوال الخلق بطريقَيْهِم (أهل الجنة، وأهل السعير)، ولو تخيل العبد أن الكلام بينه وبين ربه كأنه منه إليه لانخلع قلبه من عَظَمة الموقف، ثم يورثه أُنْسَ قلبه بمناجاة ربه، وَلَوَجَد من النعيم ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان، وخصوصاً تدبُّر ما يتلا في الصلوات.

خامساً: الخلوة بالله - تعالى - والأنس به:
بحيث يتخير العبد أوقاتاً تناسبه في ليله أو نهاره يخلو فيها بربه، ويبتعد فيها عن ضجيج الحياة وصخبها، يناجي فيها ربه يبثه شكواه، وينقل إليه نجواه، ويتوسل فيها إلى سيده ومولاه. فكم لهذه الخلوات من آثار على النفوس، وتجليـات على القلـوب؟ قيـل لمالك بن مغفـل - وهو جالس في بيته وحده -: ألا تستوحش؟ قال: أَوَ يستوحش مع الله أحد؟ وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: «من لم تقرَّ عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنـس بك فلا أَنِـس». وقـال ذو النـون - رحمه الله -: «من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه».

سادساً: البعد عن الذنوب والمعاصي:
فكم من شهوة ساعة أورثت ذلاً طويلاً، وكم من ذنب حرم قيام الليل سنين، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، ويكفي هنا قول وهيب بن الورد حين سئل: «أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: لا، ولا من همَّ».
قال ابن الجوزي: «فرب شخص أطلق بصره فحرمه الله اعتبار بصيرته، أو لسانه فحُرِم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه، فأظلم سره وحُرِم قيام الليل، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك».
فالذنوب داء القلوب. قال يحيى بن معاذ: «سَقَمُ الجسد بالأوجاع، وسَقَمُ القلوب بالذنوب؛ فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، فكذلك القلب لا يجد حلاوة العبادة مع الذنوب».

سابعاً: التقلل من المباحات:
قال أحمد بن حرب: «عبدتُ الله خمسين سنة فما وجدت حلاوة العبادة حتى تركت ثلاثة أشياء: تركت رضا الناس حتى قدرت أتكلم بالحق، وتركت صحبة الفاسقين حتى وجدت صحبة الصالحين، وتركت حلاوة الدنيا حتى وجدت حلاوة الأخرى... ».
قال العلاَّمة ابن القيم: «غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر: إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله - تعالى - فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله - عز وجل - خيراً منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب، فيبعث رائده لنظر ما هناك فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله تحرك اشتياقاً إليه، وكثيراً ما يتعب ويُتعِب رسوله ورائده. فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة فمن أطلق لحظاته دامت حسراته...».

ولا بد ألا نغفل عن جانب مهم من العبادة وهو الدعاء :
ومما يبين مكانة الدعاء العظيمة ومنزلته الرفيعة افتتاح القرآن واختتامه بالدعاء وسورة الفاتحة تشتمل على نوعي الدعاء : دعاء العبادة ودعاء المسألة وختم بالمعوذتين وهي كلها مبنية على الدعاء .
الدعاء يشتمل على خصائص جليلة ومزايا كثيرة لا توجد في غيره من أنواع العبادات :
-نفع الدعاء يقع في الحياة والممات حيث ثبت انتفاع الميت بدعاء الأحياء من ولد أو والد أو قريب قال صلى الله عليه وسلم ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : منها ولد صالح يدعو له).
- سهولة الدعاء وعدم تقيده بزمان ولا مكان ولا حال .
-اشتماله على حضور قلبي لا يوجد في غيره ، فإن من تعبد بالصلاة والزكاة والصيام يغلب عليه فيها الغفلة فإذا دعا استدعى ذلك له حضور في قلبه .

-اشتماله على التذلل وإظهار الفاقة وذل العبودية وعز الربوبية.
-الدعاء يجتمع فيه أنواع العبادات ما لا يجتمع في غيره :
-توجه القلب إلى المدعو وقصده بكليته .
-رجاء إجابته للدعاء والرغبة إليه رغبة صادقة مع قطع الرجاء والأمل عن غيره.
-الخوف من عدم إجابته والرهبة والخشية منه .
-التوكل والاعتماد عليه في قضاء الحاجات .
-تعظيم المدعو بأنواع التعظيم من التضرع والتذلل والخضوع والتملق والانطراح بين يديه .
-ذكر المدعو باللسان واللهج باسمه في السر والعلن وندائه والاستغاثة به والهتاف باسمه .

-محبة المدعو فإن النفس مولعة بمحبة من يحسن إليها .
-التواضع وإظهار الفقر والحاجة والانكسار بين يدي الله تعالى و التذلل له و التبري من الحول و القوة إلا به.
-البكاء ورفع اليدين إلى السماء .
-الإخلاص يقوى في الدعاء بالذات .
نسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا الإخلاص في العبادة والدعاء وأن يقبل لنا الأعمال إنه نعم المولى ونعم النصير.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
لا إله إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، المحيط بكل شىء، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار, وهو اللطيف الخبير.

إن الإيمان هو اليقين الذي تنشرح له صدور العلماء، وتقر به أعينهم, ويستريح إليه تفكيرهم، والإيمان الذي دعا إليه القرآن الكريم هو ثمرة الدراسة الواعية للكون الكبير, وما أنبت في جوانبه من أحياء، فإنك تستطيع أن ترى الله في كل شيء، في قدرته وإبداعه، في أرضه وسمائه، في كل ظواهر الحياة، في كل ذلك دلائل الوحدانية والعظمة والقدرة شرائع صامدة، تعبر عنها عادة بالمعادلات والقوانين، وهذا ينبئنا بالخبر اليقين، خبر أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الحق، (قَالَ رَبُّنَا الَّذي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه:50].

وهذا الكتاب الذي بين يديك أخي القارئ دعوة إلى التأمل والتذكر والاعتبار (فهل من مدكر؟)، ما بين تطلع آيات يستشعرها المسلم في الكون والحياة، وما بين إشارات قرآنية إلى جوانب إعجازية، وما بين ربط الآيات الكونية بما يعضدها من الآيات القرآنية التي يزداد بها المسلم إيمانًا وثباتًا وقوة ويقينًا، أو استقرار جوانب إعجازية في القرآن الكريم حول موضوعات جديدة تحدث عنها القرآن باعتبارها ظواهر دالة على عظمة مالك الملك ذي الجلال والإكرام، وفي كل جانب إعجازي نقدم من الصور الإيضاحية ما يجعل الإعجاز راسخًا في قلب القارئ وبصيرته.

وهذا الكتاب ذكرى وتذكرة، وانطلاق في الآيات البينات التي تجدد إيماننا, وتقوى علاقتنا بربنا سبحانه وتعالى، وهى أشد أهمية لمن يبحثون عن دلائل الإيمان، هذه الدلائل يمكن أن تجد بعضًا منها في صفحات هذا الكتاب.
ويقع هذا الكتاب في خمسة مباحث أساسية، تسعى جميعها إلى تبسيط معنى قوله تعالى:(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ)[القمر: 17].

ولذا بدأنا المبحث الأول في التعايش مع القرآن العظيم، وهو استعراض لنماذج قرآنيةفي المعايشة مع القرآن الكريم والتفاعل معه، مستشهدين بما كان يفعله الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
وعندما نتعايش مع القرآن الكريم، نجد أن حواسنا مقبلة إليه منسجمة معه، وهذا ماعرض له المبحث الثاني من خلال الجلود الذاكرة.
وأما المبحث الثالث فقد ربط بين التذكر والخشية.

وأما المبحث الرابع فقد تناول معية الأخوة في الله تعالى، وهي المعية الصادقة التي يجمعنا عليها وبها القرآن العظيم.
وأما المبحث الخامس فقد استعرض نماذج للذكَّارين في الكون، وآيات ناطقات على تفاعل الجمادات والكائنات مع ذكر الله عز وجل.
وختامًا، فالرجاء من الله تعالى أن ينفع بجهدنا المتواضع، وأن يكون التوفيق حظه ونصيبه، وأن يجعلنا تعالى من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم التوبة النصوح, وصلاح الجسد والقلب والروح، ونعوذ به تعالى من الغرور والزور, والكذب والفجور, وفتنة القبور, وانطماث النور يا عزيز يا غفور.

المبحث الأول
فن الذكر والتعايش مع كتاب الله عز وجل
اللهم إنك تقلب القلوب، وتجمع القلوب، وتؤلف بين القلوب، اللهم إنك تحيي القلوب بعد الموت كما تحيي الأرض بعد الموت، الأرض تشتاق إلى الغيث والمطر، والقلوب تشتاق إلى إشراقات الإيمان، وإلى نور القرآن.
(وَمنْ آيَاته أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشعَةً فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إنَّ الَّذي أَحْيَاهَا لَمُحْيي الْمَوْتَى إنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ)[فصلت:39].

فكل قلب له استيعاب إيماني، وكل قلب له مساحة إيمانية، وكل قلب له نصيب من الإيمان، وله نصيب من القرآن، الأودية منها ما هو واسع، ومنها ما هو ضيق، ومنها ما هو بين هذا وذاك، ومنها أودية مسدودة -أي محاصرة-، ومنها أودية منبسطة انبساطًا كبيرًا عجيبًا... وهكذا القلوب، فسالت أودية بقدرها، كل قلب منا له استيعاب معين حتى وصلنا إلى أعظم قلب للاستيعاب؛ وهو قلب النبي العظيم صلى الله عليه وسلم.

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرأ عليَّ القرآن”، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟! قال: “إني أشتهي أن أسمعه من غيري”، فقرأت النساء، حتى إذا بلغت: (فَكَيْفَ إذَا جئْنَا من كُلّ أمَّةٍ بشَهيدٍ وَجئْنَا بكَ عَلَى هَؤُلاء شَهيدًا)[النساء:41]. فقال: حسبك، فرفعت رأسي -أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي- فرأيت دموعه تسيل (أخرجه مسلم).

إن قلب النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى حالة من الاستيعاب العالي، وحالة من الامتلاء بالنور، فقال له: “حسبك”، أي: توقَّفْ عن القراءة؛ لأن القلب امتلأ نورًا، ولأن العين امتلأت بكاءً؛ لأجل هذا فجاء في قوله تعالى: (وَإذَا سَمعُوا مَا أُنزلَ إلَى الرَّسُول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفيضُ منَ الدَّمْع ممَّا عَرَفُوا منَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهدينَ)[المائدة:83].

فنحن الآن كأننا في روضة من رياض الجنة، ومعسكر إيماني كبير اجتمعت فيه قلوبنا وأرواحنا وأبداننا على تلاوة القرآن، وعلى حب القرآن، وعلى نور القرآن، سنعيش أجواء جميلة، هذه الأجواء سنعيشها مع قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذّكْر فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17].أي: ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ، ومعانيه للفهم والتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟

نحن يا رب نحاول أن نتذكر، نحاول أن نتدبر، نحاول أن نأخذ معاني القرآن؛ كي نطبقها في حياتنا، وهذا الذي نحرص عليه، وهذا الذي نركز عليه في حياتنا، ولا تكون نظريات، ولا أن تكون معارف، وإنما نريد لهذه الدروس أن تكون حية في قلوبنا، حية في بيوتنا، حية في شوارعنا، حية بين أبنائنا، حية بين شبابنا وشاباتنا؛ لعل الله تعالى أن يذيقنا وإياكم حلاوة الإيمان.

فالإنسان يعيش مع القرآن، مع التلاوة، مع الحفظ، مع الترتيب، مع التجويد... وكل هذه المعاني جميلة، لكن الأجمل أن تعيش حالة القرآن، إن الله تعالى يريد منك أن تكون شغوفًا بالقرآن إلى حد الوله، أي: التعلق الشديد بالقرآن الكريم، وهذه تسمى حالة الوَلَه، أو حالة الحب، أو حالة الشغف بالقرآن الكريم.

إن الله تعالى لم يقل: ولقد يسرنا القرآن للتلاوة، ولم يقل: ولقد يسرنا القرآن للحفظ، ولم يقل: ولقد يسرنا القرآن للتدبر، ولم يقل العظيم الكريم: ولقد يسرنا القرآن للتجويد، وإنما قال الملك العظيم الحنان المنام:(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذّكْر فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17].
إن هذه الآية تحولك من حالة أنك ذاكر -أي تاليًا- إلى كونك ذكارًا، فإنني إذا قلت مرة واحدة: (رَبَّنَا آتنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخرَة حَسَنَةً وَقنَا عَذَابَ النَّار)[البقرة:201]، فأنا ذاكر ولست ذكارًا –أي: كثير الذكر-.

والجميل في القرآن الكريم أن الذكر لله سبحانه وتعالى يعالج مشاكل في الحياة لا نهاية لها، تخيل واحدًا دخل بيته غاضبًا حزينًا مرهقًا من العمل طوال اليوم، فدخل البيت ولم يلق السلام، وما استغفر، فدخل البيت فوجد شيئًا لا يعجبه، فهاج وعلا صوته، فإذا بالزوجة بدلاً من أن تلاطفه فترد عليه هي الأخرى بطريقة فيها شد وجذب، فأصبح البيت فيه عراك يفرح به الشيطان ويرقص؛ لأن واحدًا منهما لم يذكر الله تعالى، لو أن أحدهما استغفر لطرد الشيطان، لو أن أحدهم ذكر لخمد نار الشيطان، ولكن البيوت التي لا يذكر فيها الله تعالى، ولا يذكر فيها اسم الله تعالى، ولا يقرأ فيها القرآن العظيم إنما هي بيوت للشياطين يرقصون فيها، ويقيمون فيها أفراحهم ومعازفهم ومراقصهم.

وقال تعالى: (لَلَبثَ في بَطْنه إلَى يَوْم يُبْعَثُونَ)[الصافات:144]. أي: لمكث في بطن الحوت وصار له قبرًا إلى يوم القيامة.
فاستشعار الإنسان أنه إذا سبح فإن التسبيح سيأتي له بالفرج هذا أمر جميل جدًّا، واستشعار الإنسان أنه إذا ذكر، ولم يكن من الغافلين فإن ذكره لله سبحانه وتعالى سيجعل له ذكرًا في الملأ الأعلى، وهل هناك فرج أفضل من هذا؟

المبحث الثاني
الجلود الذاكرة
أعلم –حفظني الله وإياك- أن الله عز وجل يزكي من يشاء، ويصطفى من يشاء، ويطهر من يشاء، ويتوب على من يشاء، ويهدى من يشاء، قال تعالى : (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأَرْض كُلُّهُمْ جَميعًا أَفَأَنتَ تُكْرهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمنينَ)[يونس:99]. فهذه مشيئته، وهذا حكمه، وهذا علمه، وهذا تدبيره، وما تشاءون إلا أن يشاء الله، فلَكَ أن تختار ما تشاء، ولك أن تتمنى ما تشاء، ولك أن تحب ما تشاء، ولك أن تشتهى ما تشاء، ولكن كل شيء في هذه الحياة لا يتقدم ولا يتأخر ولا يرتفع ولا ينخفض إلا بعلمه، ولا تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه.

لذلك فإن الله تعالى يسر القرآن للذكر، قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذِّكْرِ فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17]. أي: ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ، ومعانيه للفهم والتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟
لا زلنا نحيا مع هذه الروضة الجميلة؛ روضة الذكر، وروضة التذكر، وروضة الخشية، ونحن نعود إلى التذكر والخشية ولسان حالنا كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذّكْر فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17].

إنني أتمنى بكل قلبي وبكل ذرات فؤادي أن كل شخص منا يبدأ في قرارة نفسه ونيته أن يعتزم أنه في لحظات الجهاد يجدد النية مع الله سبحانه وتعالى، وأنه في جهاد، وأنه الآن في رباط في سبيل الله، وأنه في مجاهدة مع نفسه؛ حتى يحظى بهذا الوقت في روضة من رياض الجنة نتباهى بها يوم القيامة.

إن الله تعالى جعل القرآن الكريم كتاب ذكر يذكرنا به، فكل ما في القرآن يذكرك بالله؛ لأجل هذا فإن الله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذّكْر فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17].فالقرآن ذكر؛ لأجل هذا فإن الله تعالى يحفظ به.

فكل شيء مر بنا في الصفحات الماضية هو تذكرة للخشية، وعندما يتذكر الإنسان فإنه يخشع، وعندما يتذكر فإنه يخشى، كما جاء في قوله تعالى: (مَنْ خَشيَ الرَّحْمَن بالْغَيْب وَجَاء بقَلْبٍ مُّنيبٍ* ادْخُلُوهَا بسَلَامٍ ذَلكَ يَوْمُ الْخُلُود* لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فيهَا وَلَدَيْنَا مَزيدٌ)[ق: 33 - 35].أي: مَن خاف الله في الدنيا، ولقيه يوم القيامة بقلب تائب من ذنوبه، ويقال لهؤلاء المؤمنين: ادخلوا الجنة دخولاَ مقرونًا بالسلامة من الآفات والشرور, مأمونًا فيه جميع المكاره، ذلك هو يوم الخلود بلا انقطاع، ولهؤلاء المؤمنين في الجنة ما يريدون، ولدينا على ما أعطيناهم زيادة نعيم، أعظَمُه النظر إلى وجه الله الكريم.

المبحث الثالث
التذكر والخشية
بَيَّن الله تعالى في كثير من مواضع القرآن الكريم أن الكائنات المخلوقة تذكر الله وتسبحه وتسجد له وتعظمه، قال تعالى: (وَمنْ آيَاته اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا للشَّمْس وَلَا للْقَمَر وَاسْجُدُوا للَّه الَّذي خَلَقَهُنَّ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت:37]. فمِن حجج الله على خلقه، ودلائله على وحدانيته، وكمال قدرته اختلاف الليل والنهار, وتعاقبهما، واختلاف الشمس والقمر وتعاقبهما, كل ذلك تحت تسخيره وقهره، قال تعالى: (وَمنْ آيَاته اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا للشَّمْس وَلَا للْقَمَر وَاسْجُدُوا لها الَّذي خَلَقَهُنَّ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت:37]. أي: إن كنتم حقًّا منقادين لأمره، سامعين مطيعين له، تعبدونه وحده لا شريك له.

فالذين شهدوا عظمتك وأنوارك وأبواب هدايتك في الدنيا هم الذين يشهدون أنوارك وفيضك وفضلك في الآخرة، فقال تعالى: (قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالَّذي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْن وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلكَ رَبُّ الْعَالَمينَ)[فصلت:9]. أي: قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين موبخًا لهم، ومتعجبًا من فعلهم: أإنكم لتكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين اثنين، وتجعلون له نظراء وشركاء تعبدونهم معه؟! ذلك الخالق هو رب العالمين كلهم.

والسؤال المهم الآن هو: كيف أعيش معنى التذكر؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول:
يوجد ذكر ظاهر، ويوجد ذكر خفي، والله تعالى حَبَّبَ إليك الذكر الخفي؛ لأنه ذكر القلب، وطالما القلب كان ذاكرًا، وكان القلب ذكارًا، فمعنى هذا أن الإنسان يستطيع أن يحرك لسانه وشفتيه بذكر الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ في نَفْسكَ تَضَرُّعًا وَخيفَةً وَدُونَ الْجَهْر منَ الْقَوْل بالْغُدُوّ وَالآصَال وَلاَ تَكُن مّنَ الْغَافلينَ)[الأعراف: 205].

فكل الناس يصلون، لكن مَن هم أفضلهم عند الله؟ وكل الناس يصومون، لكن مَن هم أفضلهم عند الله؟ وكثير منا يرغبون في الجهاد في سبيل الله، لكن مَن أفضلهم عند الله؟ أكثرهم ذكرًا لله، أي: أكثرهم تذكرًا؛ لأن الإنسان قبل أن يذكر بلسانه فإنه يذكر بقلبه؛ ولذا فإن الله تعالى قال: (وَاصْبرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بالْغَدَاة وَالْعَشيّ يُريدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُريدُ زينَةَ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا تُطعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذكْرنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف:28].

فالشيطان لا يريد لك أن تقول: الله، ولا باسم الله، ولا سبحان الله، ولا الحمد لله، ولا أن تستغفر، ولا أن تحمد، بل يحاول أن يخرجك من هذه الحالة الإيمانية؛ ولذا قال الله تعالى: (وَإذَا رَأَيْتَ الَّذينَ يَخُوضُونَ في آيَاتنَا فَأَعْرضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْره وَإمَّا يُنسيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ الْقَوْم الظَّالمينَ)[الأنعام:68].

والقرآن الكريم دائمًا يدعو إلى تذكر نعم الله وآياته على الإنسان؛ لأن تذكر هذه النعم باب من أبواب الشكر، وباب من أبواب الهداية؛ ولذا فإن الله سبحانه وتعالى عندما أرسل سيدنا موسى عليه السلام وأخاه هارون إلى فرعون؛ فإن الله تعالى أوصاهم بالتلطف معه في الكلام؛ لكى يصل إلى الغاية الأساسية من غايات الهداية والإيمان والاهتداء، فقال تعالى: (قَالَا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 45-46].

فلو أن الإنسان رأى وشاهد هذه النعم ولم يتعظ بها فإنه بحاجة إلى مراجعة إيمانه بالله العظيم، فعلى سبيل المثال: شاهد كل ما عرضناه في الكتاب وسنعرضه بعد قليل، ولكنه قلل من هذه النعم، وقال: إن الطبيعة هي التي فعلت هذا، وإن الكون هو الذي فعل هذا، ونظرية دارون وغيرها هو الذي فعل هذا... كيف رد القرآن على هؤلاء الناس مرتين: مرة في سورة الكهف، وأخرى في سورة السجدة.
فالله تعالى وصف مَن يعرض عن هذه الآيات بأنه ظالم، ووصفه بأنه مجرم، فقال: إنا من المجرمين منتقمون... لماذا هو مجرم؟ لأنه يرى آيات أقوى من أن تنقل، ورغم هذا فإنه ينكر هذه الآيات، وربنا سبحانه وتعالى جعل هذه الآيات محركة لقلب الإنسان، فقال تعالى:(كتَابٌ أُنزلَ إلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْركَ حَرَجٌ مّنْهُ لتُنذرَ به وَذكْرَى للْمُؤْمنينَ)[الأعراف:2].

فجميل جدًّا أن نحيا كل هذه المعاني، وكل ما في القرآن يذكرك بالله، لكن هناك عارض قوي ومؤثر يمنعك على أن تعيش كل هذه الآيات التي نعيشها الآن، هذا العارض المؤثر من ناحيتين: من ناحية القلب، ومن ناحية الذاكرة؛ فالقلب يأتيه قسوة، والذاكرة يأتيها نسيان؛ النسيان من أين يأتي للذاكرة؟ من أهم عوامل النسيان الذي يأتي للذاكرة هو النسيان الذي يأتي مِن الشيطان، الذي هو أكبر عوائق الصد عن ذكر الله تعالى؛ ولذا قال الله سبحانه وتعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذكْرَ اللَّه أُوْلَئكَ حزْبُ الشَّيْطَان أَلَا إنَّ حزْبَ الشَّيْطَان هُمُ الْخَاسرُونَ)[المجادلة:19].

فعلى المسلم أن يتذكر بقلبه ولسانه وجوارحه، وعليه أن يتقي الله تعالى في السر والعلن، حتى لا يصيبه قول الله تعالى:(وَتَرَى الْمُجْرمينَ يَوْمَئذٍ مُّقَرَّنينَ في الأَصْفَاد * سَرَابيلُهُم مّن قَطرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ* ليَجْزي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إنَّ اللهَ سَريعُ الْحسَاب * هَذَا بَلاَغٌ لّلنَّاس وَليُنذَرُوا به وَليَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحدٌ وَليَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[إبراهيم: 49-52].

المبحث الرابع
معية الأخوة في الله
ما أجمل أن نستحضر المشاهد الإيمانية التي مرت بك في حياتك، ونحن نحاول أن نتذكر، ونحاول أن نخشع، ونحاول أن نعيش الإيمان كله، قال تعالى:(قُلْ آمنُوا به أَوْ لاَ تُؤْمنُوا إنَّ الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ من قَبْله إذَا يُتْلَى عَلَيْهمْ يَخرُّونَ للأَذْقَان سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً)[الإسراء: 107-108].

فسورة الإسراء تبدأ بالذكر، وتسير مع الذكر، وسيدنا موسى عليه السلام يطلب من الله أن يرسل معه أخاه هارون، لماذا؟ جاءت الإجابة في قوله تعالى: (هَارُونَ أَخي* اشْدُدْ به أَزْري * وَأَشْركْهُ في أَمْري* كَيْ نُسَبّحَكَ كَثيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثيرًا)[طه: 30-34]. أي: هارون أخي، قَوِّني به، وشدَّ به ظهري، وأشركه معي في النبوة وتبليغ الرسالة؛ كي ننزهك بالتسبيح كثيرًا، ونذكرك كثيرا فنحمدك.
فمعية الأخوة في الله، ومعية المحبة في الله، أن يساعدك واحد على ذكر الله، وعلى تسبيح الله عز وجل؛ لذلك قال تعالى:(إنَّكَ كُنتَ بنَا بَصيرًا)[طه:35]. أي: إنك كنت بنا بصيرًا, لا يخفى عليك شيء من أفعالنا.

ثم ينطلق سيدنا موسى عليه السلام ومعه رسالته التي يريد أن يؤديها، فقال تعالى: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بآيَاتي وَلَا تَنيَا في ذكْري)[طه:42].

فالذكر عبارة عن ثورة حقيقية، وعبارة عن تغير في فكر الإنسان، فالمسلم عندما يداوم على أذكار الصباح وأذكار المساء فإنه يفرغ شحنة من الطاقة الموجودة في داخله، وعندما يفرغها فإنه يستريح استراحة إيمانية طيبة جدًّا.

والإنسان إذا لم يحافظ على هذا الذكر، ولا على هذه الأذكار، وكان في حالة غفلة، فقال الملك أيضًا في سورة طه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذكْري فَإنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقيَامَة أَعْمَى)[طه:124]. أي: ومَن تولَّى عن ذكري الذي أذكِّره به فإن له في الحياة الأولى معيشة ضيّقة شاقة -وإن ظهر أنه من أهل الفضل واليسار-، ويُضيَّق قبره عليه ويعذَّب فيه، ونحشره يوم القيامة أعمى عن الرؤية وعن الحجة.
فاللهم حَبِّب إلينا الذكر، وحَبِّب الذكر إلينا، وحبِّبْ إلينا الإيمان وزيِّنْه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

المبحث الخامس
مدرسة الذاكرين وآيات ناطقات
نستعرض في عجالة سريعة مدرسة جميلة، وهى مدرسة الذكَّارين التي نعيشها مع سورة طه، فعندما تقرأ سورة طه تستحضر معنى قوله تعالى: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بآيَاتي وَلَا تَنيَا في ذكْري)[طه:42]. أي: اذهب يا موسى أنت وأخوك هارون بآياتي الدالة على ألوهيتي وكمال قدرتي وصدق رسالتك، ولا تَضْعُفا عن مداومة ذكري.

وتستحضر معنى قوله تعالى: (إنَّني أَنَا اللهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْني وَأَقم الصَّلَاةَ لذكْري)[طه: 14].فتعلم أهمية الذكر في حياة الأنبياء والرسل، فضلا عن حياة غيرهم من البشر، الذين هم أقل منهم في المرتبة والإيمان والعمل.

والله تعالى يظهر لنا في الكون آيات ومعجزات وبراهين تدل على أهمية الذكر والتذكر والتذكرة،النار كذلك تذكرك بالله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشؤُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكرَةً وَمَتَاعًا لّلْمُقْوينَ* فَسَبّحْ باسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة: 71-74]. أي: أفرأيتم النار التي توقدون، أأنتم أوجدتم شجرتها التي تقدح منها النار, أم نحن الموجدون لها؟ نحن جعلنا ناركم التي توقدون تذكيرًا لكم بنار جهنم ومنفعة للمسافرين، فنزِّهْ -أيها النبي- ربك العظيم كامل الأسماء والصفات، كثير الإحسانوالخيرات.

فالنار تذكرة، والنار تذكرك بربنا، والله تعالى خلق هذه النار لكى يذكرك بها. وسترى الأرض تفصح عن نفسها، وسترى الأرض بانفجارات نارية عجيبة، قال الله تعالى عنها: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكرَةً وَمَتَاعًا لّلْمُقْوينَ)، هذه النار ماذا تفعل عندما تراها؟ (فَسَبّحْ باسْم رَبّكَ الْعَظيم)، كلما ترى شيئًا مما خلق الله فإن الله تعالى جعله تذكرة لك.

ما هذه التذكرة؟ قال جل جلاله عن النار: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا)، ولم يقل: نحن خلقناها؛ لأن هناك فرقًا بين الجعل والخلق، بل قال تعالى: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكرَةً وَمَتَاعًا لّلْمُقْوينَ * فَسَبّحْ باسْم رَبكَ الْعَظيم).

فالإنسان عندما يألف ذكر الله، وعندما يحب ذكر الله، وعندما يعيش معية ذكر الله تعالى، وعندما يصلى الفجر حاضرًا جماعة لا تصيبه عين، إلا إذا أذن الله تعالى بشيء من هذا، لكن صلاتك حفظ لك، لكن المعوذتين حفظ لك، لكن آية الكرسي حفظ لك، لكن القرآن العظيم أمان لك، إنه أمان لك في الدنيا، وأمان لك في القبر، وأمان لك يوم القيامة؛ ولذا فإن الله تعالى يقول في كتابه الكريم: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْه إلاَّ كَمَا أَمنتُكُمْ عَلَى أَخيه من قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحمينَ)[يوسف:64].

وأنت واقف لا تغفل عن ذكر الله، وأنت جالس لا تغفل عن ذكر الله، وأنت راكب الطائرة وجاء موعد الصلاة فاترك أمتعتك، وانزل وصلّ على أرض الطائرة، قال تعالى:(الَّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبهمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْق السَّمَاوَات وَالأَرْض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطلاً سُبْحَانَكَ فَقنَا عَذَابَ النَّار)[آل عمران:191].

فالمؤمنون حقًّا قد استشعروا أنهم في معية صادقة، وفي جوار الله تعالى، كما قال تعالى: (وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [المائدة: 12].
وكلما رأيت المآذن شامخة ذكرتك بالله، وتذكرك بذكر الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: (في بُيُوتٍ أَذنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فيهَا بالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)[النور:36].

هذا النور المضيء في مساجد أَمَرَ الله أن يُرْفع شأنها وبناؤها، ويُذْكر فيها اسمه بتلاوة كتابه والتسبيح والتهليل، وغير ذلك من أنواع الذكر، يُصلّي فيها لله في الصباح والمساء.

ثم قال تعالى: (رجَالٌ لَّا تُلْهيهمْ تجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإقَام الصَّلَاة وَإيتَاء الزَّكَاة يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فيه الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور:37]. أي: رجال لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكْر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة لمستحقيها، يخافون يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب بين الرجاء في النجاة والخوف من الهلاك، وتتقلب فيه الأبصار تنظر إلى أي مصير تكون؟
فكلما مرت بك آية من آيات الله، ومشهد من مشاهد الكون لا بد أن تربطه بآية من القرن، ولا بد أن نسأل أنفسنا: أين نحن من هذه الآية؟

إن المؤمنين ليسوا وحدهم من يوحدون الله، بل كل الكائنات توحد الله تعالى، لقد رأيت صورة السحاب وهو يكتب كلمة الله، ورأينا الصبار الذي هو صبار وأفرعه الشوكية تكتب كلمة الله، ويسبح الرعد بحمده، كما في قوله تعالى: (وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بحَمْده وَالْمَلاَئكَةُ منْ خيفَته وَيُرْسلُ الصَّوَاعقَ فَيُصيبُ بهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادلُونَ في اللهِ وَهُوَ شَديدُ الْمحَال) [الرعد:13].

ومن علامات وحدانية الله وقدرته: أنك ترى الأرض يابسة لا نبات فيها، فإذا أنزلنا عليها المطر دبَّت فيها الحياة, وتحركت بالنبات, وانتفخت وعلت, إن الذي أحيا هذه الأرض بعد همودها, قادر على إحياء الخلق بعد موتهم, إنه على كل شيء قدير, فكما لا تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها, فكذلك لا تعجز عن إحياء الموتى.

فإعصار سُونامي فيأندونسيا وقد اجتاح الناس أمامه، والناس يجرون أمامه في شواطئ لا تعرف ذكر الله، وفي شواطئ لا تعرف كلمة الله أكبر، إلا أن هناك مسجدًا بعيدًا ظل الناس يجرون إليه، ويلهثون إليه، وحماهم رب البيت، فكل ما في المنطقة انهار تمامًا إلا المسجد، فقد حماه رب المسجد، قال تعالى: (إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجدَ الله مَنْ آمَنَ بالله وَالْيَوْم الآخر وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئكَ أَن يَكُونُوا منَ الْمُهْتَدينَ) [التوبة:18]. فلا يعتني ببيوت الله ويعمرها إلا الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر, ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ولا يخافون في الله لومة لائم، هؤلاء العُمَّار، وهم المهتدون إلى الحق.

ويأتي زلزال على مدينة كاملة في تركيا، وإذ بهذه المدينة جميعها تسقط وتتهاوى، ولا يبقى إلا المسجد ومئذنته، وبيت ملتصق بالمسجد؛ لأنه إذا هُدم البيت هدم المسجد، فحفظ الله تعالى هذا البيت العالي كرامةً للمسجد! فكل هذه المشاهد ترفعك كمسلم عند الله.

لقد رأيت صورة السحاب وهو يكتب كلمة الله، ورأينا الصبار الذي هو صبار وأفرعه الشوكية تكتب كلمة الله، ويسبح الرعد بحمده، كما في قوله تعالى: (وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بحَمْده وَالْمَلاَئكَةُ منْ خيفَته وَيُرْسلُ الصَّوَاعقَ فَيُصيبُ بهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادلُونَ في اللّه وَهُوَ شَديدُ الْمحَال) [الرعد:13]. أي: ويسبِّح الرعد بحمد الله تسبيحًا يدل على خضوعه لربه، وتنزّه الملائكة ربها من خوفها من الله، ويرسل الله الصواعق المهلكة فيهلك بها مَن يشاء من خلقه، والكفار يجادلون في وحدانية الله وقدرته على البعث، وهو شديد الحول والقوة والبطش بمن عصاه.

إنك ترى كلمة الله وهى واضحة المعالم، ويسبح السحاب بحمد الله، بل إن النحل هو الآخر يسبح بحمده، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن في السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بمَا يَفْعَلُونَ)[النور:41].

ألم تعلم -أيها النبي- أن الله يُسَبّح له مَن في السماوات والأرض من المخلوقات، والطير صافات أجنحتها في السماء تسبح ربها؟ كل مخلوق قد أرشده الله كيف يصلي له ويسبحه، وهو سبحانه عليم، مُطَّلع على ما يفعله كل عابد ومسبّح، لا يخفى عليه منها شيء، وسيجازيهم بذلك.

فيجب على المسلم أن يفعل كما فعلت هذه الكائنات، وأن يعيش الإيمان بقلبه كما تعيش هذه الكائنات.
وقد تصدى الدكتور فاروق الباز أحد علماء مصر الذين يعملون في الولايات المتحدة الأمريكية في مركز من علوم الفضاء لعمل دراسة حول الربع الخالي، فوجد الدكتور فاروق الباز ما يلي: أن النبيَّ العظيم صلى الله عليه وسلم قال: “لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا كما كانت” (أخرجه مسلم)، فكيف كانت يا رسول الله؟
كانت الجزيرة العربية قبل عشرات آلاف من السنين عبارة عن مروج وأنهار...صدقت وبالحق نطقت يا رسول الله، فاللهم صلِّ وبارِكْ عليه، فمَن الذي علمك يا رسول الله أن أرض العرب كانت ينابيع؟!

لقد قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ منَ السَّمَاء مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابيعَ في الْأَرْض ثُمَّ يُخْرجُ به زَرْعًا مُّخْتَلفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إنَّ في ذَلكَ لَذكْرَى لأُوْلي الْأَلْبَاب)[الزمر:21]. أي: ألم تر -أيها الرسول- أن الله أنزل من السحاب مطرًا، فأدخله في الأرض، وجعله عيونًا نابعة ومياهًا جارية، ثم يُخْرج بهذا الماء زرعًا مختلفًا ألوانه وأنواعه، ثم ييبس بعد خضرته ونضارته، فتراه مصفرًا لونه، ثم يجعله حطامًا متكسّرًا متفتتًا؟ إن في فعْل الله ذلك لَذكرى وموعظة لأصحاب العقول السليمة.

لأن هذا المكان في شبه الجزيرة العربيةفيه بترول الآن، ويعتبر من أغنى أماكن العالم، هذا المكان المليء الآن بالبترول، ويغذى الدنيا كلها بالبترول، كان عبارة عن غابات وطمرَتْ هذه الغابات، فلما طمرَتْ كان البترول، فمَن الذي علمك هذا الكلام يا رسول الله؟
فربنا تعالى يذكرك، ويعلمك، ويطهرك، ويسأل في أول الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ منَ السَّمَاء مَاءً)؟ عندما ينزل هذا الماء تستشعر أنه مسبح بحمد الملك، فسلكه ينابيع في الأرض، فالمسألة إن مرتبة ترتيبًا قدريًّا عجيبًا.

وكثير من الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته منتشرة في السماوات والأرض؛ كالشمس والقمر والجبال والأشجار, يشاهدونها وهم عنها معرضون، لا يفكرون فيها ولا يعتبرون.

إذن تعلمنا من خلال الآيات القرآنية، والآيات الكونية ومن خلال مباحث هذا الكتاب كيف نتدبر، والتدبر يأخذك إلى التذكر، والتذكر يأخذك إلى الخشية، فقد دخلنا الآن مدرسة تسمى مدرسة الخشية، هذه سنحتاج إليها في حياتك كلها، وخصوصًا في شهر رمضان؛ لأن الصيام يربى عندك الخشية، ويربى عندك الخوف من الله، ويربى عندك توقير الله، وتعظيم الله؛ ولذا قال لك الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].أي: لعلكم تخشون الله تعالى حق الخشية، وهذا هو المقصود من الصيام؛ لأنه العبادة التي يمارسها المسلم فيما بينه وبين الله تعالى، وألا أحد من الخلق يستطيع أن يعرف هل أنت مؤدٍ لهذه العبادة أم لا؛ لذلك فشهر رمضان والصيام يربي عندك الخشية من الله تعالى، وأن تحقق التقوى حق التحقيق كما أمر الله تعالى.
اللَّهُمَّ عَلِّمْنِي الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ, وَفَقِّهْنِي فِي الدِّينِ.

اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا عِلْمًا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا اللَّهُمَّ بِمَا عَلَّمْتَنَا، اللَّهُمَّ زِدْ فِي أَرْزَاقِنَا، وَزِدْ فِي أَنْوَارِنَا، وَزِدْ فِي عَافِيَتِنَا، وَاجْعَلْ عَافِيَتَنَا إِلَى طَاعَتِكَ، وَلَا تَجْعَلْ عَافِيَتَنَا إلَى مَعْصِيَتِكَ، تَوَفَّنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا.

يَا عَالِمَ الخَفِيَّاتِ، يَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ، يَا ذَا العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، غَافِرَ الذَّنْبِ، قَابِلَ التَّوْبِ، شَدِيدَ العِقَابِ، ذَا الطَّوْلِ, لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ إِلَيْكَ المَصِيرُ, لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ, سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ, أَسْتَغْفِرُ اللهَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ, الأَوَّلِ وَالآخِرِ وَالظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ, وَهُو بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ.

اللَّهُمَّ عَجِّلْ لأَوْلِيَائِكَ الفَرَجَ وَالعَافِيَةَ, وَزِدْ لِي فِي حَيَاتِي, فَإِنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي يَهَبُ عَيْشَ الأَبَدِ لأَهْلِ الآخِرَةِ، فَهَبْ لِي عُمْرًا طَوِيلًا مَدِيدًا, وَعَيْشًا مَزِيدًا فِي عَافِيَتِكَ وَرِضَاكَ، فَإِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ, وَالقَادِرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ.
اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي, اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.
اللَّهُمَّ عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي, وَانْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَزِدْنِي عِلْمًا.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، )إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].