قيمة الكلمة الطيبة

محاضرات
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

قيمة الكلمة الطيبة:
قوله سبحانه {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263] حينما تسدي إلى محتاج كلمة طيبة يسر بها وترضيه خير من أن تعطيه المال عابسًا تؤذيه بالقول وسوءالمقابلة.
الإسلام يقدر الكلمة الطيبة، ولقد شبَّه القرآن الكريم الكلمة الطيبة بشجرة عظيمة تعطي ثمارها كل سنة، أما الكلمة الخبيثة فهي كشجرة خبيثة ليس فيها ثمار ولا فائدة منها، بل إن أضرارها كثيرة يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 24-26].

ولقد أكد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر بقوله: ((الكلمة الطبية صدقة)) [رواه مسلم].
وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} فهو غني عن إنفاق المؤذي والمنان {حَلِيمٌ} لا يعجل عقوبة المسيء بالمن والأذى.

المن يبطل الصدقات:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264].

المراؤون والمنانون لا ينتفع بشيء من صدقاتهم، ولا نفقاتهم، ولا يجدون لها ثمرة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فالرياء في الإنفاق في سبيل الله، وفي كل عمل آخر يمنع انعقاد سبب الثواب الذي هو صحة العمل من أساسه، لأن عمل المرائي يكون فاسداً من الأساس.

أما المن والأذى فهو يبطل الثواب الذي للعمل، والمن قد يكون بالقلب فقط دون أن ينطق به اللسان، وقد يكون المن باللسان بأن يسمع المنفق عليه أنه اصطنع إليه معروفاً وأن له عليه حقًّا، وأنه راتع في نعمته قد طوقه المنة في عنقه، كقوله: أما أعطيتك كذا وكذا؟ ثم يعدد أياديه عليه، أو يقول: أعطيتك فلم تشكر، ونحو ذلك من طرق المنة.

ولهذا ضرب الله المثل في سوء مصيره حيث قال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} والصفوان: هو الحجر الأملس {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} يعني أعاده على ملوسته لا شيء عليه من نبات وغيره، وهذا أبلغ مثل وأحسنه، فإن الحجر الصفوان بمنزلة قلب هذا المرائي المنان والمؤذي فقلبه في قسوة عن الإخلاص والإيمان والإحسان بمنزلة الحجر.

قال ابن القيم رحمه الله: وفيه معنى آخر وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملاً يترتب عليه الأجر، ويزكو له، كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه، كما أن تحت التراب حجرًا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه لا ينبت ولا يخرج شيئًا.

ومن الممارسات الخطأ في بذل الصدقات ما يلي:
1-أن بعض الناس ينفق في مجال معين ليتوصل بذلك إلى منصب أو مركز أو رئاسة، ولا يمكن أن يساهم في عمل أو مجال آخر لا يحقق له مصالح.

2-أن بعض الناس قد يتصدق على شخص أو أسرة لينال من وراء ذلك منفعة معينة، فالناس غالبا عبيد لمن أحسن إليهم، ويكون هذا المتصدق قاصدًا لذلك.

3-أن يحابي في زكاته فلا يتحرى المستحق فيها، فيبذلها لقريبه غير المستحق لها لينال ثنائهم ورضاهم.
4-أن يمن المتصدق على من أعطاه بإظهار المنة عليه، كأن يعدد له مواقفه أعطيتك وأعطيتك وهكذا.
5-أنه إذا تصدق الغني على إنسان أو أحسن إليه بوجه من الوجوه قصد منه الثناء والمدح والمكافئة.
6-أن يكون للإنسان عادة حسنة في الإنفاق على أسرة أو شخص منذ مدة طويلة، ثم يكون بينه وبينهم خصومة، أو موقف شخصي فيوسوس له الشيطان وينتصر لنفسه، ويقطع هذا الخير عنهم ويحرم نفسه من الثواب الذي قد يكون سببًا لمغفرة ذنبه ودخوله الجنة.

عاقبة الإخلاص في الإنفاق:
قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265].

هذا نوع من المنفقين في سبيل الله الذي ينفقون أموالهم بإخلاص، وهو ابتغاء مرضاة الله وتثبيت من أنفسهم، والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل، وذلك أن المنفق يتجاذبه عند الإنفاق آفتان إن سلم منهما فقد التحق بأهل التثبيت والإخلاص.

فأحدها: أن يطلب بنفقته ثناء الناس.
وثانيها: ضعف نفسه وتقاعسها وترددها في الفعل وكان مثل المنفق في سبيل الله على ما وصفه الله سبحانه: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} والجنة: هي البستان الكثير الأشجار وأما الربوة فهي المكان المرتفع {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ} وهو المطر الشديد العظيم، فتضاعف نتاجها {فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} لتفوقها على غيرها {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} والطل: مطر دون الوابل الضخم الكثير.

وقد ختم الله هذه الآية الكريمة بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تذكيراً لعباده أنه سبحانه لا يخفى عليه المخلص من المرائي فإنه عليم بصير يعلم كل شيء.

وقال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266].

قوله {أَيَوَدُّ} يعني أيحب ويتمنى، والأعناب: جمع عنب بكسر العين وهو ثمر الكرم الطري، والنخيل: جمع نخل وهي شجرة مباركة قد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بها، لأنه لا يسقط منها شيء لا من ثمرتها ولا من أصولها، بل جميع ما فيها ينتفع به حتى الخوص والليف والجريد وكل شيء،.

والإعصار: هو ريح عاصفة شديدة تستدير في الأرض ثم تنعكس عنها إلى السماء حاملة للغبار كهيئة العمود، وهي تحمل في الصيف سموماً محرقاً وفي الشتاء بردًا شديدًا، وقد يجعل الله فيها نارًا تتكون من تفاعل يريده الله، وينشؤه إذا أراد بأحد شرًّا حسب تقديره وحكمته والله غالب على أمره.

وروى البخاري في صحيحه عن عبيد بن عمير قال: قال عمر يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم هم يرون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ} الآية قالوا: الله أعلم فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم.

فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل عمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله.

ولابن جرير عن ابن أبي ملكية: عنى بها العمل، ابن آدم أفقر ما يكون إلى جنته إذا كبر سنه، وكثر عياله، وابن آدم أفقر ما يكون إلى عمله يوم يبعث.

ومن طريق عطاء عن ابن عباس: معناه: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير حتى إذا كان حين فنى عمره ختم ذلك بعمل أهل الشقاء فأفسد ذلك.

وفي قوله تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ}، فهذا تمثيل دقيق لشدة حاجته إلى تلك الجنة وتعلق قلبه بها من عدة وجوه:
أحدها: أنه قد كبر سنه فعجز عن التجارة والتكسب بحيث أصبح ليس له دخل غير ما تغل عليه أو يأكل منها.
ثانيها: أن الآدمي عند كبر سنه يشتد حرصه لما يرى من ضعفه.
ثالثها: أن له ذرية فهو في غاية الحرص على بقاء جنته لحاجته وحاجتهم.
رابعها: أنهم ضعفاء صبية صغار فهم كَلٌّ عليه لا ينفعونه بقوتهم ولا بتصرفهم، لأنهم يعدمون ذلك.
خامسها: أن جميع نفقتهم وما ينوبهم كله عليه لضعفهم وعجزهم، ولأنهم لا كاسب لهم سواه.

الإنفاق من المتاع الطيب:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[البقرة: 267].

هذا يشمل جميع أنواع الطيبات بذاتها أو لوصفها، فيقصد المنفق ما طاب من كسبه ومما أخرجه الله له من نبات الأرض بذاته أو لوصفه.

وقد جاء في الحديث النبوي عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)).
فالمعنى: لا تقصدوا الخبيث تتخيرون الإنفاق منه، والخبيث هو الرديء.

وفي هذا التعبير الإلهي معنيان:
أحدهما: كيف تبذلون لله وتهدون له مالا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له، والله سبحانه أحق أن يبذل له ويختار له خيار الأشياء ونفائسها.

ثانيهما: كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم، وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً؟
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في صحيحه والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه، فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي أحدهم بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.

وعد الله ووعد الشيطان:
قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].

الشيطان عدو الإنسان ومن عداوته لنا, أو من عداوته لبني آدم أنه يعدهم الفقر, كلما أراد أن يجود بماله قال: لا تخرج فتبقى فقيرًا , فيبخل الإنسان, لأن الشيطان وسوس له ووعده إذا أنفق بالفقر .

{ويأمركم بالفحشاء} قال بعض العلماء: يأمركم بالبخل, والصواب أنه أعم من ذلك أنه يأمر بني آدم بالفحشاء بكل فاحشة من البخل والزنا واللواط وغير ذلك فهو حريص على بني آدم أن يمنع عنه الخير, وأن يملأه بالشر .
ثم بين الله -عز وجل - الوعد الحقيقي النافع لبني آدم , فقال: {والله يعدكم مغفرة منه} بالإنفاق, لأن النفقة تطفئ الخطيئة كما يطفىء النار .

نعم إنه يعدنا بمغفرة ذنوبنا ورفعة درجاتنا في الآخرة، ويعدنا أن يخلف علينا ما ننفقه، كما قال سبحانه {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

وفي الحديث الصحيح: ((ما من يوم إلا وملكان يناديان بصوت يسمعه كل الخلائق إلا الثقلين الجن والإنس اللهم ارزق كل منفق خلفاً وارزق كل ممسك تلفاً))
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسل الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل)).

وروى الترمذي عن عمر بن سعد الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزّاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)).

وتأمل كيف ختم الله هذه الآية بقوله سبحانه: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فإنه سبحانه ينجز ما وعده لسعة فضله، مع كونه يعلم أين يضع مغفرته وفضله، فاسمه (العليم) يفيد هنا أنه يعلم غيب العبد ومستقبله، والشيطان لا يعلم ذلك، وعلى هذا فوعده إفك وتغرير يجب على العاقل أن يرفضه.

الحكمة الكنز الحقيقي:
قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[البقرة: 269].

إن الحكمة هي نور بصيرة من الله يقذفها في قلب المؤمن يكون بها فقيهًا في دينه مميزًا بين الغث والسمين بصيرًا فيما يقذف به عليه، موفقًا للصواب في القول والعمل.

واستنبط بعض المحققين من قول الله: {خَيْرًا كَثِيرًا}أن إيتاء الحكمة خير من الدنيا وما فيها كلها، لأن الله وصف الدنيا بالقلة في قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77].

فدل على أن ما يؤتيه الله من حكمته خير من الدنيا وما عليها، ولكن لا يعقل هذا كل أحد، بل لا يعقله إلا من له لب وعقل، ولهذا ختم الله الآية بقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ذوو العقول الراجحة.

يكفي علم الله بصدقتك وصلاحك:
قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270].
قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} يشمل كثيرها وقليلها وطيبها وخبيثها وسرها وعلانيتها، وما كان منها في حق وخير، وما كان منها في إضرار وشر، وما كان عن رياء، وما كان عن إخلاص، وما أتبعه المنفق بالمن والأذى، وما لم يتبعه إلا بالسماحة والقول الحسن والمقابلة الطيبة.

أحكام النذر:
وقوله: {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ}،يشمل أنواع النذر جميع ما في النفقة، سواء قصد بالنذر التزام طاعة قربة لله بلا قيد ولا شرط لئلا يتهاون فيها، كأن ينذر نفقة معينة أو صلاة نافلة ونحوها، أو كان النذر بشرط، كأن يقيده بحصول نعمة أو رفع نقمة، كقوله: إن شفاني الله أو شفا ولدي فعلي لله التصدق بكذا وكذا ونحو ذلك من نذر القربات المقيدة بشرط، أو النذر المقصود به حث النفس على شيء أو منعها عنه.

واتفق العلماء على أنه يجب الوفاء بالنوع الأول، واختلفوا في الثاني، هل يجب الوفاء به، أو تجب عنه كفارة يمين، أو مخير بينهما.

والنذر مكروه لا يأتي بخير ولا برد قضاء، وإنما يستخرج الله به من البخيل، كما ورد الحديث بذلك.
وينبغي أن يكون النذر في طاعة الله، لأنه لا يتقرب إليه إلا بها، فإن نذر فعل معصية حرم عليه الوفاء بنذره لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يعصي الله فلا يعصيه)) وإن نذر مباحاً فعله، لأن فسخ العزائم من النقص.

الأصل في النَّذر: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع:
أمَّا الكتاب: فقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7]، وقال: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].

وأما السُّنَّة: فرَوَتْ عائشةُ قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ))
وعن عمران بن حصين عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يَنذِرون ولا يفُون، ويخونون ولا يُؤتَمنون، ويشْهَدون ولا يُستَشْهدون، ويظهر فيهم السِّمَن)).

وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ولزوم الوفاء به.
صيغة النذر
صيغة النذر أن يقول: لله عَلَيَّ أن أفعل كذا، وإن قال: عليَّ نذر كذا، لَزمَه أيضًا؛ لأنَّه صرح بلفظ النذر، وإن قال: إن شفاني الله، فعلي صوم شهر، كان نذرًا، وإن قال: لله عليَّ المشي إلى بيت الله، قال ابن عمر في الرجل يقول: علىَّ المشي إلى الكعبة لله، قال: هذا نذر فليمشِ.

شروط النذر
شروط النذر تنقسم قسمين يتحَقَّق بمقتضاهما، وهما: شروط تتعلق بالناذر، وشروط تتعلق بالمنذور.

شروط الناذر:
1- الإسلام، فلا يصح من كافر، ويندب له فعله بعد إسلامه.
2- الاختيار، فلا يصح من مُكرَه.
3- نافذ التصرف فيما ينذر، فلا يصح من الصبي والمجنون.
4- مكلفًا، فلا يصح من غير المكلف كالصبي.
5- النطق، فلا يصح بالإشارة إلاَّ من الأخرس إذا كانت إشارته مفهومة.
شروط المنذور:
1- أن يكون قُربة غير واجبة بغير النذر.
2- أن يكون المنذور عبادة مقصودة، فلا يصح النذر بما هو وسيلة؛ كالوضوء، والاغتسال، ومس المصحف، والأذان، وتشييع الجنازة، وعيادة المريض، وبناء المساجد وغير ذلك، فهذه الأمور وإن كانت قربة إلا أنَّها غير مقصودة لذاتِها، بل المقصود هو ما يترتب عليها.
3- أن يكون المنذور به متصورَ الوجود في نفسه شرعًا، فلا يصح النذر بما لا يتصور وجودُه شرعًا كمن قال: ((لله عليَّ أن أصوم ليلاً))، أو قالت المرأة: ((لله عَلَيَّ أن أصوم أيام حيضي))؛ لأنَّ الليل ليس محل الصوم، والحيض منافٍ له شرعًا؛ إذ الطهارة عن الحيض والنفاس شرطُ وجود الصوم الشرعي.
الضابط الكلي في صحة النذر:
1- أن يكون المنذورُ عبادةً مقصودة من جنسها فرض.
2- ألا يكون المنذور معصية لذاته.
3- ألا يكون فرضًا عليه قبل النذر، فلو نذر حجةَ الإسلام، لم يلزمه شيء غيره.
4- ألا يكون ما التزمه أكثر مما يملكه، فلو نذر ألفًا، وهو لا يملك إلا مائة، يُلزم بالمائة فقط.
5- أن يكون ممكن الوقوع، فلو نذر مستحيلاً، كأن يصومَ أمس، فإنه لا يصح نذره.
6- ألا يكون ملكًا للغير.

أقسام النذر
قال ابن دقيق العيد: والنذور ثلاثة أقسام:
أحدها: ما عُلِّق على وجود نعمة، أو دفع نقمة، فَوُجِد ذلك، فيلزم الوفاء به.
والثاني: ما عُلِّق على شيء لقصد المنْع أو الحث؛ كقوله: إن دخلت الدار، فلله عَلَيَّ كذا، وقد اختلفوا فيه.
وللشافعي قولان: إنَّه مخير بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين، وهذا الذي يسمى ((نذر اللجاج)) والغضب.
والثالث: ما يُنذر من الطاعة من غير تعليق بشيء، كقوله: لله عَلَيَّ كذا، فالمشهور: وجوب الوفاء بذلك، وهذا الذي أردناه بقولنا: ((النذر المطلق))، وأمَّا ما لم يُذكر مخرجه، كقوله: لله علي نذر، هذا هو الذي يقول مالك: إنه يلزم فيه كفارة يمين.

الصدقة في كل أحوالها خير:
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].

في قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ}مدح لإبدائها وإظهارها، يعني إن تبدوها أفضل شيء هي، وهذا مدح لها بكونها ظاهرة بادية، والسبب في هذا المدح لئلا يتوهم مظهرها بطلان أثرها وثوابه، فيمتنع من إخراجها، منتظرًا فرصة الإخفاء، فيفوت وقتها أو تفوت منفعتها، أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها فلا يؤخر صدقته العلانية بعد حضور وقتها إلى فرصة وقت إخفائها خشية المطر، وقد كان الصحابة على هذه الحال.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} يعني: إن إعطاءها الفقراء سراً وخفية أفضل من الإعلان لما في الإخفاء من مظنة الإخلاص وإكرام الفقراء بالستر عليهم.

وليتأمل في تقييد الله الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم لأن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه، كبناء مدرسة، أو بناء قنطرة أو خزان ماء ونحو ذلك مما ظهوره واضح، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها فوائد كثيرة، منها الستر على الفقير وعدم تخجيله وفضيحته بين الناس، وأن يرون أن يده هي السفلى فيحتقرونه ويزهدون في معاملته، وهذا قدر زائد على الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص والابتعاد عن الرياء وعن محمدة الناس، فيكون إخفاؤها للفقير خيراً من إظهارها بين الناس.