الإستاذ الدكتور /أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
في تاريخنا الإسلامي نماذج للأمهات التي وهبن حياتهن، ليقدموا للأمة الإسلامية أعظم أئمتها الذين حملوا علم دينها، وقدموه للأجيال ناصعًا نقيًّا .
من نماذج هذه الأمهات أم ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك، حيث خرج زوجها فرُّوخ في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وترك ربيعة حملاً في بطنها، لتقوم هي على تنشئته وتربيته وتعليمه، وقد ترك عندها ثلاثين ألف دينار، ولما رجع بعد سبعٍ وعشرين سنة، دخل مسجد المدينة، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها؛ فوقف عليها، وإذا فيها مالك والحسن وأشراف أهل المدينة، ولما سأل عن صاحب هذه الحلقة أجابوه بأنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن (ابنه).فرجع إلى منزله وقال لزوجته وأم ولده: ((لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها))، فقالت له: فأيهما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار، أم هذا الذي هو فيه؟! فقال: لا -والله- بل هذا، فقالت: أنفقت المال كله عليه، قال: فوالله ما ضيَّعتيه.
إنها المرأة التي حفظت زوجها في غيابه في ولده، فعاد ليجده عالما يقصده العلماء فضلًا عن طلاب العلم
ومن نماذجهن أيضًا أم زيد بن ثابت رضي الله عنها، فقد كان زيد بن ثابت رضي الله عنه طفلاً صغيرًا، واشتاقت نفسه للجهاد وهو ابن ثلاثة عشر عامًا، وحين حاول أن يخرج للحرب في بدر، ردَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسبب صغر سنه، وعندها رجع إلى البيت يبكي بسبب عدم مشاركته المسلمين في الجهاد، ولما رأته أمه على هذه الحالة لم تطيب خاطره بكلمات وكفى، فإنها كانت تدرك بعمق مواهبه وإمكاناته؛ فلفتت نظره إليها وقالت له: إن لم يكن باستطاعتك أن تجاهد بالسيف والدرع كما يفعل المجاهدون في المعركة، فباستطاعتك أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام بالعلم الذي عندك.وذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضت عليه إمكانات ولدها، وما يمتلكه في غير مجال الجهاد والحرب، اختبره صلى الله عليه وسلم وسمع منه، ولما علم قدراته وطاقاته قال له: ((اذهب فتعلَّم لغة اليهود؛ فإني -والله- ما آمنهم على كتابي)).
فذهب زيد، وتعلم لغة اليهود في أقل من سبع عشرة ليلة، وبعد ذلك جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من كَتَبَة الوحي، وكفاه شرفًا بذلك، حتى إنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أوكل إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه مهمة جمع القرآن، وكان عمره وقتئِذٍ ثلاثًا وعشرين سنة.ومنهم أم سفيان الثوري رحمه الله حيث يقول عنها: ((لما أردت أن أطلب العلم؛ قُلتُ: يا ربِّ، لابد لي من معيشة. ورأيت العلم يَدْرُس (أي: يذهب ويندثر)؛ فقلت: أُفرِّغ نفسي في طلبه، قال: وسألتُ الله الكفاية))، يعني أن يكفيه أمر الرزق، فكان من كفاية الله له في ذلك الشأن أن قيَّض له أمه التي قالت له: ((يا بُنَيَّ، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي)).
فكانت رحمها الله تعمل بالغزل، وتقدم لولدها نفقة الكتب والتعلُّم؛ ليتفرغ هو للعلم، بل والأكثر من ذلك أنها كانت كثيرًا ما تتخوَّله بالموعظة والنصيحة لتحضَّه على تحصيل العلم، فكان مما قالته له ذات مرة: ((يا بني، إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تَرَ ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك)).
أما أم الإمام البخاري فقد نشأ يتيمًا ضريرًا في حِجْر أمه، لتقوم هي على تربيته أفضل تربية، فتتعهده بالرعاية والدعاء، وتدفعه إلى التعلم والصلاح، وتزين له أبواب الخير، بل وترحل به وهو في سن السادسة عشرة إلى مكة للحج، ثم تتركه هناك وترجع، ليطلب العلم بلسان قومه، ليرجع ويكون هو البخاري.
وكان السر أيضًا في نجابة وظهور الإمام مالك يكمن في أمه العاقلة، تلك التي أحسنت توجيه أبنائها، واختارت لهم الطريق السوي، وهيئت لهم أسباب النجاح، وفي قصتها يأخذنا العجب حين نعلم أن مالكًا الطفل لم يكن يريد أن يتجه إلى العلم، وإنما رغب في أن يتعلم الغناء ويجيده.
لكن أم الإمام مالك العاقلة لم ترضَ لولدها ذلك، ففي لطفٍ شديد ولباقة جمة، استطاعت أن تصرف ولدها عن فكرته، وأن تختار بديلاً سريعًا لها، وهو العلم؛ ذلك الذي يرفع من قدر البيوت، وإن كانت خاملة، ويُعلِي من قيمة الرِّجال وإن جاءوا من حضيض الفقر وقسوة العوز.
يقول الإمام: ((نشأتُ وأنا غلام، فأعجبني الأخذ عن المغنين، فقالت أمي: يا بني، إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يُلتَفَت إلى غنائه؛ فدع الغناء واطلب الفقه، فتركت المغنين وتبعت الفقهاء، فبلغ الله بي ما ترى.
فهذه الأم الفاضلة العاقلة لم تكذب على ولدها، وتقول له: إنه قبيح الوجه؛ إذ لم يكن مالك كذلك، بل كان وسيمًا ذا شقرة، وإنما هي أرادت أن توحي إليه بما يصرفه عن عزمه، فقالت قولتها تلك اللبقة المهذبة.
ولم يتوقف دور أم مالك عند ذلك، ولم تكتف بتوجيهه إلى طلب العلم وحسب، بل إنها ألبسته ثياب العلم ووجَّهته إلى من يتعلَّم منه، يقول مالك في ذلك: فألبستني ثيابًا مشمرة، ووضعت الطويلة على رأسي -يعني القلنسوة الطويلة- وعمَّمتني فوقها، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن، ثم تختار له المعلِّم والأستاذ- وكان أشهرهم آنذاك ربيعة بن أبي عبد الرحمن - فتقول له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه، ومقصدها بالطبع هو تعلُّم العلم والأدب جميعًا.
وبذلك يبتدئ الصبي الصغير مالك بن أنس مسيرته الطويلة في طريق العلم حتى يصير إمامًا فذًّا من أئمة المسلمين، فيكون أثمن عطية، وأغلى هدية، من أم فاضلة تجيد التربية وتحسن التوجيه.
وإذا جئنا إلى صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك بن شيبان، فإنا نراها وقد أهدت إلى دنيا المؤمنين وعالم الموحدين إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله.
فقد وهبت صفية حياتها كلها لطفلها اليتيم، واختارت من أجله الترمُّل في سن الشباب نهجًا لحياتها، وقد كان الكثيرات من نساء العرب يفضِّلن الزواج إذا مات الزوج؛ صونًا للعفة وحفاظًا على السمعة، بل إنه كان من الأمور المتعارف عليها أن تتزوج المرأة إذا ترمَّلت أو طلقت، أما صفية فقد منحت شبابها لوليدها.
ذلك أن زوجها محمد بن حنبل مات شابًّا في الثلاثين، وكانت هي دون الثلاثين حين وفاة زوجها، ورغم ذلك فإنها لم ترض بالزواج، وإنما ارتضت أن تملأ على ولدها حياته حنانًا وأنسًا.
يروى أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه قال: كانت أمي توقظني قبل صلاة الفجر، وتسخن لي الماء، وأنا ابن عشر سنوات، ثم كانت تذهب بي إلى المسجد ؛ لأن المسجد بعيد، ولأن الطريق مظلمة.
إنها البيوت المسلمة التي أنجبت الأئمة وإنها الإمهات اللاتي قدمن للإسلام أعظم الرجال وأجل العلماء.
أمهات.. قدمن للإسلام أئمة وعلماء
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة