بقلم أ.د.أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامي الكبير
قال الرازي اختلف المفسرون في المراد بالذين كفروا، فقيل : هم بنو قريظة والنضير من اليهود ، وروي هذا القول عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو الملائم للسياق من حيث كانت الآيات قبله في مؤمني أهل الكتاب ، ومن حيث حرص اليهود على المال والحياة وأعزها وآثرها حياة الأولاد، وقيل : هم مشركو قريش عامة ، وقيل : بل هم أبو سفيان ورهطه خاصة، ووجهوه بما نقل من إنفاقه المال الكثير على المشركين يوم بدر ويوم أحد ، وقيل : إن الكلام في الكفار عامة لعموم اللفظ فهو على إطلاقه ويدخل فيه اليهود الذين كانوا مجاورين للمسلمين يومئذ وكذا مشركو مكة دخولا أوليا.
دلالة ذكر الأموال والأولاد:
ذكر الأموال والأولاد لأن المغرور إنما يصده عن اتباع الحق أو النظر في دليله الاستغناء بما هو فيه من النعم وأعظمها الأموال والأولاد ، فالذي يرى نفسه مستغنيًا بمثل ذلك قلما يوجه نظره إلى طلب الحق أو يصغي إلى الداعي إليه : أي ومن لم يوجه نظره إلى الحق لا يبصره ، ومن لم يبصره تخبط في دياجير الضلال عمره حتى يتردى فيهلك الهلاك الأبدي، ولا ينفعه في الآخرة ماله فيفتدي به أو ينتفع بما كان أنفقه منه.
إنفاق الأموال في اللذات كريح مهلكة :
قال الراغب : مثل الشيء - بالتحريك : مثله وشبهه، ويطلق على صفة الشيء، والمثل في الكلام: عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر ليبين أحدهما الآخر ويصوره : أي ولو من بعض الوجوه ; لأن بيان الحقائق يكون على حسب، المقاصد، والصر - بالكسر - والصرة : شدة البرد ، وقيل : هو البرد عامة، وقال الليث: الصر البرد الذي يضرب النبات ويحسه.
إن الريح المهلكة مثال للمال الذي ينفقونه في لذاتهم وجاههم ونشر سمعتهم وتأييد كلمتهم فيصدهم عن سبيل الله ، وإن العقول والأخلاق الحسنة التي هي أصل جميع المنافع هي مثال الحرث ، أي إن المال الذي ينفقونه فيما ذكر هو الذي أفسد أخلاقهم وأهلك عقولهم بما صرفها عن النظر الصحيح ولفتها عن التفكر في عواقب الأمور ، ثم أشار إلى ما قالوه في جعل التشبيه في المثل مركبا وهو أن حالهم فيما ينفقونه وإن كان في الخير كحال الريح ذات الصر المهلكة للزرع ، فهم لا يستفيدون من نفقتهم شيئا .
ومن المفسرين من جعل هذا فيما ينفقونه في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقاومة دعوته سواء كان المنفقون هم اليهود أو أهل مكة ، ومنهم من جعل ذلك فيما ينفق المنافقون رياء أو تقية، وقد خاب الفريقان وخسروا بنصر الله نبيه والمؤمنين، وبفضيحة المنافقين في سورة ((براءة)).
وبعض المفسرين يخص هذا الإنفاق بما يفعله الكافر على سبيل البر وهو لا يفيده في الآخرة شيئا، إذ الإيمان شرط لقبول الأعمال ونفعها في تلك الدار .
أما وصف القوم الذين أهلكت الريح حرثهم بكونهم ظلموا أنفسهم فقد قال الزمخشري في الكشاف مبينا نكتته ما نصه : فأهلك عقوبة لهم لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ، وفي هامشه كتب بإملائه في ذلك: أن النكتة في ذلك هي إفادة أن أولئك المنفقين لا يستفيدون شيئا منه; لأن حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب على الكلية إذ لا منفعة لهم فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب على الكلية، لأنه وإن كان يذهب صورة إلا أنه لا يذهب معنى لما فيه من حصول أغراض لهم في الآخرة والثواب بالصبر على الذهاب.
إن الوصف يشعر بأن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة على ذنوب اقترفوها ولكنه ليس نصًّا في ذلك لما علمت من تعليل الكشاف آنفا ، ولا يعارض ذلك ما ثبت من الأسباب الطبيعية لها لأنه لا يستنكر على البارئ الحكيم الذي وضع سنن ارتباط الأسباب بالمسببات في عالم الحس أن يوفق بينها وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط في البشر لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي يستفيدونها من النظر والتجربة ، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحي الإلهي، ويسمى ما ترتب عليه حدوث الشيء سببا له وما قارن المسبب من نفع العباد وضر بعضهم به حكمة له ، وكل من سبب الشيء وحكمته أو حكمه مقصود للخالق الحكيم.
أهل المعاصي هم الظالمون لأنفسهم:
قال – تعالى: {وما ظلمهم الله} يعني أولئك الذين أهلكت الريح ذات الصر حرثهم وذلك أنهم هم الذين كانوا ظلموا أنفسهم كما تقدم، فكان هلاك زرعهم عقوبة لهم لا إيذاء آنفا، وعلى هذا يكون قوله: ولكن أنفسهم يظلمون تأكيدا ذاهبا بكل شبهة، والظاهر المختار أن الضمير في قوله: وما ظلمهم الله للمنفقين الذين ضرب المثل لبيان حالهم، فهم المقصودون بالذات والمعنى ما ظلمهم الله بأن لم ينفعهم بنفقاتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم وحدها دون غيرها بإنفاق تلك الأموال في الطرق التي تؤدي إلى الخيبة والخسران بحسب سنة الله في أعمال الإنسان .
أما كونهم يظلمون أنفسهم دون غيرها أو دون أن يظلمهم أحد - كما تقدم أخذا من تقديم أنفسهم على عامله - فهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة كلهم أو بعضهم أو اليهود في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقاومته، إذ كانوا هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم ولم يضروه - صلى الله عليه وسلم - ومن معه به، بل كانوا سبب سيادته عليهم وتمكنه منهم، وظاهر أيضًا على القول بأن المراد بتلك النفقات ما كان يضعه المنافقون في بعض طرق البر رياء وسمعة أو تقية، من حيث إنها لا ينتفع بها في الآخرة، ويقولون مثل هذا في الكافر الذي ينفق في طرق البر حبا في البر ورغبة في الخير، فإنه - وإن كان أحسن حالا من المرائي - لا تفيده نفقته في الآخرة؛ لأن شرطها الإيمان، وقد ظلم نفسه بترك النظر في الآيات والبينات عليه بعدما ظهرت له، أو بالجحود بعد النظر ونهوض الحجة، وإنما يعنون بقولهم: إن نفقته لا تفيده في الآخرة أنها لا تجعله من أهل الجنة، ولا يوجد عاقل قط يقول: إن الكافرين في الآخرة كلهم سواء، لا فرق بين المحسن عملًا والمسيء، وبين فاعل الخير ومقترف الإثم.
النهي عن اتخاذ غير المؤمنين بطانة:
اختلف المفسرون في المعنيين بالنهي عن اتخاذهم أولياء على أقوال هي:
الأول: أنهم هم اليهود، لأن من نزلت بشأنهم الآيات من المسلمين كانوا يشاورونهم ويؤانسونهم، ورجح أصحاب هذا القول قولهم بأن السياق في الآيات يتحدث عن اليهود.
الثاني: أن المعنيين هم المنافقون، واستدل أصحاب هذا القول بأن أحوال المنافقين هي التي تخدع المؤمنين وتدعوهم إلى اتخاذ بطانة لخفاء عداوتهم، بخلاف اليهود والنصارى فإن عداوتهم ظاهرة، واحتجوا على ترجيح ذلك بأن الآيات ذكرت عنهم أنهم: ((إذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ))، وهذا الإعلان للإيمان لا يكون من النصارى و اليهود، إنما يظهر الإيمان ويبطن الكفر المنافقون. ورجح هذا ابن كثير في تفسيره وقال: يقول تبارك وتعالى ناهياً عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي يطلعونهم على سرائرهم.
الثالث: أن المقصودين بالنهي في الآية جميع أصناف الكفار، بدلالة قوله - تعالى -: ((لا تتخذوا بطانة من دونكم))، ومن دون المؤمنين هم غير المسلمين من أصناف الكفار.
ورجح ذلك الخازن في تفسيره وقال: المراد بهذه جميع أصناف الكفار، ويدل على صحة هذا القول معنى الآية لأن الله - تعالى - قال: ((لا تتخذوا بطانة من دونكم))، فيكون ذلك نهياً عن جميع الكفار.
والراجح أن المعنيين بالنهي عن اتخاذهم بطانة، هم كل من لا يؤتمنون على الدين، سواء من اليهود أو النصارى أو الكفار الملحدين أو المنافقين أو أهل الأهواء من المبتدعة الغلاة. وقد ذكر القرطبي عن أبي أمامة مرفوعاً في تفسير ((لا تتخذوا بطانة من دونكم)) قال: هم الخوارج. ولا شك أن الروافض أولى باللحاق بهم لخبث طويتهم وسوء بطانتهم.
أسباب النهي عن اتخاذ أولئك بطانة:
تعددت في الآية الكريمة العلل والأسباب الدافعة إلى عدم صلاح غير أهل الدين والأمانة لأن تتخذ بطانة، فمن ذلك:
1 - عدم تقصيرهم في إلحاق الفساد والضرر بأهل الإيمان ((لا يألونكم خبالاً)).
2 - حرصهم على بذل ما فيه عنت المؤمنين وتعبهم وضل الهم ((ودوا ما عنتم)).
3 - زيادة الكراهية فهم إلى حد عدم القدرة على كتمانها ((قد بدت البغضاء من أفواههم)).
4 - أن ما يظهرونه من البغضاء أقل بكثير مما يضمرون ((وما تخفي صدورهم أكبر)).
5 - أنهم غير أوفياء ((تحبونهم ولا يحبونكم)).
6 - أنهم مخادعون ((وإذا لقوكم قالوا آمنا)).
7 - أنهم أهل حقد وضغينة ((وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ)).
8 - أنهم أهل حسد وبغي ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم)).
9 - أنهم أهل شماتة وتشفٍ ((وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)).
10 - أنهم أهل كيد ومكر ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً)).
إن هذه كلها علامات تدل المؤمنين على عداوة من دونهم في الدين. ولهذا قال - تعالى - في خاتمة الآية: ((قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون))، أي: قد أظهرنا لكم الآيات الدالة على النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله.
(حسد المنافقين) إن تمسسكم حسنة تسؤهم:
المنافقون يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر والعداوة، وتكاد قلوبهم تشقق حسدًا وغيظًا وحقدًا، قال تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120] .
قال ابن كثير: ((وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد، وكثروا وعز أنصارهم؛ ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب، أو أديل عليهم الأعداء لما لله تعالى في ذلك من الحكمة كما جرى يوم أحد، فرح المنافقون بذلك.
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29]
قال ابن كثير: ((أيعتقد المنافقون أنَّ الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين، بل سيوضح أمرهم، ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر، وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة براءة، فبيَّن فيها فضائحهم، وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم، ولهذا كانت تسمى الفاضحة، والأضغان: جمع ضغن، وهو ما في النفوس من الحسد، والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره)).
وقد أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقي أذى العدو : بأن يتلقوه بالصبر والحذر ، وعبر عن الحذر بالاتقاء أي اتقاء كيدهم وخداعهم ، وقوله لا يضركم كيدهم شيئا أي بذلك ينتفي الضر كله لأنه أثبت في أول الآيات أنهم لا يضرون المؤمنين إلا أذى ، فالأذى ضر خفيف ، فلما انتفى الضر الأعظم الذي يحتاج في دفعه إلى شديد مقاومة من قتال وحراسة وإنفاق ، كان انتفاء ما بقي من الضر هينا ، وذلك بالصبر على الأذى وقلة الاكتراث به ، مع الحذر منهم أن يتوسلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرا عظيما . وفي الحديث لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يدعون له ندا وهو يرزقهم.
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا:
أي: تَجْبُنا وتضْعُفا وتتخلفّا والطائفتان بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد في ألف رجل، وقيل: في تسعمائة وخمسين رجلا فلما بلغوا الشَّوْط انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس ورجع في ثلاث مائة وقال: علام نقتل أنفسَنا وأولادَنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال: أنشدكم بالله في نبيكم وفي أنفسكم، فقال عبد الله بن أُبي: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وهمَّتْ بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكرهم الله عظيم نعمتهِ فقال عز وجل { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيُّهُمَا}.
( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) عن عمرو عن جابر قال: نـزلت هذه الآية فينا ( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيُّهُمَا ) بنو سلمة وبنو حارثة، وما أحب أنها لم تنـزل والله يقول: ( وَاللَّه وَلِيُّهُمَا ) .
وهذه الغزوة تعلمنا خطورة إيثار الدنيا على الآخرة، وأن ذلك مما يفقد الأمة عون الله ونصره وتأييده، قال ابن مسعود: (( ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد {مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ } ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء».
قال ابن عباس رضي الله عنه : لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: (أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم) وقال بعضهم: (لا نبرح حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم ) فنزلت: ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ).
وفي ذلك درس عظيم يبين أن حب الدنيا والتعلق بها قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان والصلاح، وربما خفي عليهم ذلك، فآثروها على ما عند الله، مما يوجب على المرء أن يتفقد نفسه وأن يفتش في خباياها، وأن يزيل كل ما من شأنه أن يحول بينها وبين الاستجابة لأوامر الله ونواهيه.
وقد وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها قال تعالى:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}
وقد حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة عامة وعلى من يحملون لواء الدعوة خاصة.
إن الذي حدث في أحد عبرة عظيمة للدعاة وتعليمًا لهم بأن حب الدنيا قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشرع الصريحة كما عصى الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم الصريحة بتأويل ساقط، يرفعه هوى النفس وحب الدنيا، فيخالفون الشرع وينسون المحكم من أوامره، كل هذا يحدث ويقع من المؤمن وهو غافل عن دوافعه الخفية، وعلى رأسها حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة ومتطلبات الإيمان، وهذا يستدعي من الدعاة التفتيش الدائم الدقيق في خبايا نفوسهم واقتلاع حب الدنيا منها، حتى لا تحول بينهم وبين أوامر الشرع، ولا توقعهم في مخالفته بتأويلات ملفوفة بهوى النفس وتلفتها إلى الدنيا ومتاعها.
منة الله على المؤمنين بالنصر يوم بدر:
قوله تعالى: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُم اللَّه بِبَدْرٍ ) وبدر موضع بين مكة والمدينة وهو اسم لموضع، وعليه الأكثرون وقيل: اسم لبئر هناك، وقيل: كانت بدر بئرًا لرجل يقال له بدر، قاله الشعبي وأنكر الآخرون عليه.
يذكر الله تعالى في هذه الآية منَّتَه عليهم بالنصرة يومَ بدر، ( وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) جمع: ذليل وأراد به قلة العدد فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فنصرهم الله مع قلة عددهم، ( فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
( إِذْ تَقُول لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ ) اختلفوا في هذه الآية فقال قتادة: كان هذا يوم بدر أمدهم الله تعالى بألفٍ من الملائكة كما قال: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} [الأنفال: 9] ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا {بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْـزَلِينَ}
{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} فصبروا يوم بدر فاتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد قال الحسن: وهؤلاء الخمسة آلاف رِدْءُ المؤمنين إلى يوم القيامة.
وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون، إنما يكونون عددًا ومددًا.
قال محمد بن إسحاق: لما كان يوم أُحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي سعد بن مالك يرمي وفتًى شابٌ يتنبَّل له كلما فني النبل أتاه به فنثره فقال ارم أبا إسحاق مرتين، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل يُعرف.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشَدِّ القتالِ ما رأيتهما قبل ولا بعد. ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال أخبرنا محمد بن بشر وأبو أسامة، عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سعد يعني ابن أبي وقاص قال: « رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد » يعني: جبريل وميكائيل .
وهذا خاص بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تكفل بعصمته من الناس، ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال، ذلك لأن الله تعالى وعدهم أن يمدهم؛ وجعل وعده معلقًا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد قال تعالى: ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ )وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر: أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين فشق ذلك عليهم، فأنـزل الله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ} إلى قوله {مُسَوِّمِينَ} فبلغ كرزًا الهزيمةُ فرجع فلم يأتهم ولم يمدّهم فلم يمدّهم الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد أمدوا بألف. وقال الآخرون: إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته واتقوا محارمه: أن يمدَّهم أيضًا في حروبهم كلهِّا فلم يصبروا إلا في يوم الأحزاب، فأمدّهم الله حتى حاصروا قُريظة والنضير، قال عبد الله بن أبي أوفى: كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله فلم يُفتح علينا فرجعنا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسْلٍ فهو يغسل رأسه إذْ جاءه جبريل عليه السلام، فقال: وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله، ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، ففتح لنا فتحا يسيرا.