"من راقب الله تعالى في خواطره عصمه الله تعالى في جوارحه"

محاضرات
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

قال ابن المبارك لرجل: راقب الله تعالى، فسأله عن تفسيرها فقال: كن أبدا كأنك ترى الله عزّ وجلّ.
وسُئل الحارث المحاسِبي عن المراقبة فقال: علم القلب بقرب الله تعالى.
يجب على المسلم مراقبة الله عزّ وجلّ في جميع أعماله وأحواله، كأنه يراه. وحدُّ المراقبة: علم القلب بقرب الرب جل وعلا.


قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } وقال تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.


وقال جبريل عليه السلام لنبينا صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الإحسان: ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).


ومعنى هذا أنك تعبد الله تعالى كأنه أمامك رأى العين وتتخيل أنك تراه، وأنت تعلم أنك لا تراه ولكنه هو المطلع عليك في كل صغيرة وكبيرة.


ولكن قد يشق ذلك على الكثير منا، فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله يراه، ويطلع على سره وعلانيته، وباطنه وظاهره، لا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى من أمره، فيسهل عليه بعد ذلك الانتقال للمقام الأول، وهو استشعار قرب الله من العبد ومعيته له. فمن شق عليه أن يعبد الله كأنه يراه، فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه فيستحيى من نظر الله إليه، فلا يجعل الله أهون الناظرين إليه.


خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة في بعض أصحابه، فاستراحوا في الطريق فانحدر عليهم راعٍ من جبل. فقال له عمر: يا راعي الغنم بعنا شاة.


فقال الراعي: إنه مملوك – أي أنا عبد مملوك - قال له عمر: قل لسيدك أكلها الذئبُ.


فقال الراعي: أين الله؟ فبكى عمر واشترى الغلام من سيده وأعتقه. إنها مراقبة الله تعالى.


فالسعيد من أصلح ما بينه و بين الله، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الخلق. فهذا معنى قول الإمام القشيرى رحمه الله تعالى: من راقب الله تعالى في خواطره، عصمه الله تعالى في جوارحه.


قال النبى صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " . فإن في ذلك معنى المراقبة التامة لله تعالى، فعلى المسلم أن يعود نفسه على مراقبة الله وتعالى.


وعلى المسلم أن يستغفر الله تعالى في كل وقت وحين، وإذا أساء سيئة في علانية فليحسن حسنة في علانية. قال تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} والحسنات التي تمحو السيئات كثيرة، منها الوضوء، والصلاة، والصيام، والحج، والصدقات، وذكر الله تعالى، والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، وكثرة الاستغفار.


كيف تراقب الله تعالى؟
بالتعرُّف على أسماء الله وصفاته:
فالإيمان بأسماء الله تعالى: الرقيب، والحفيظ، والعليم، والسميع، والبصير، والتعبد لله تعالى بمقتضاها يورث مراقبة الله تعالى.

فالرقيب الذي يرصد أعمال عباده، والحفيظ الذي يحفظ عباده المؤمنين، ويحصي أعمال العباد، والعليم الذي لا تخفى عليه خافيةٌ من أمور عباده، والسميع المدرك للأصوات، والبصير الذي يرى كل شيء.


باستشعار أن الله تعالى مطلع على كل كبيرة وصغيرة من أفعالنا:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء/1]، وقال: {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌا} [هود/57]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة/7]، وقال: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء/1].


اليقين التام بأن الجوارح شاهدة علينا في الآخرة:
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الله لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت/20-24].


وقال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس/65].


الإكثار من الطاعات:
كلما أكثر الإنسان من الطاعات عسُر عليه أن يأتيَ المحرمات.


لابد أخى الكريم أن تعلم أن الخواطر التي تأتي على قلبك أنك محاسب عليها، ولابد أن تغربل هذه الخواطر، لا تطلق لنفسك ولقلبك العنان بأن تفكّر في ما ليس فيه رضا الله تعالى، فلا ينبغى لك أن تسرح في عالم الخيال وتتخيل نفسك تفعل معصية هنا أو هناك، لأن الله تعالى مطلع على قلبك، ويعلم كل ما يدور بخاطرك، وكل ما يأتى على مخيلتك، قال عزّ وجلّ: {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}


*معصية القلب:
معاصي القلوب أشد خطرًا من معاصي الجوارح، كما أن طاعات القلوب أهمّ وأعظم من طاعات الجوارح، حتى إن أعمال الجوارح كلها لا تقبل إلا بعمل قلبي، وهو النيِّة والإخلاص.


ونقصد بمعاصي القلوب ما كانت آلته القلب، مثل: الكبر، والعجب، والرياء، والشحّ، وحب الدنيا، والحسد، والبغضاء، والغضب، ونحوها، قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه))


والقلب هو حقيقة الإنسان، فليس الإنسان هو الغلاف الجسدي الطيني الذي يأكل ويشرب وينمو فقط، بل هو الجوهرة التي تسكنه، والتي نسميها: القلب أو الفؤاد، أو الجنان، وفي هذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))