التفسير الموضوعي للقرآن الكريم سورة آل عمران: الآيات من [116- 125]

محاضرات
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

قال تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)} [آل عمران: 125 - 129].

مدد الله لعباده المؤمنين:
قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [ 124]
اختلف أهل التّأويل في حضور الملائكة يوم بدرٍ حربهم، في أيّ يومٍ وعدوا ذلك؟ فقال بعضهم: إنّ اللّه عزّ وجلّ كان وعد المؤمنين يوم بدرٍ أن يمدّهم بملائكته إن أتاهم العدوّ من فورهم، فلم يأتوهم، ولم يمدّوا.
فعن عامرٍ، قال: حدّث المسلمون، يوم بدر أنّ كرز بن جابرٍ المحاربيّ، يمدّ المشركين، قال: فشقّ ذلك على المسلمين، فقيل لهم: {ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتّقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربّكم بخمسة آلافٍ من الملائكة مسوّمين} قال: فبلغت كرزًا الهزيمة فرجع، ولم يمدّهم بالخمسة.
وعن عامرٍ، قال: لمّا كان يوم بدرٍ بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ ذكر نحوه، إلاّ أنّه قال: {ويأتوكم من فورهم هذا}: يعني كرزًا وأصحابه، {يمددكم ربّكم بخمسة آلافٍ من الملائكة مسوّمين} قال: فبلغ كرزًا وأصحابه الهزيمة، فلم يمدّهم، ولم تنزل الخمسة، وأمدّوا بعد ذلك بألفٍ، فهم أربعة آلافٍ من الملائكة مع المسلمين.
وقال آخرون: كان هذا الوعد من اللّه لهم يوم بدرٍ، فصبر المؤمنون واتّقوا اللّه، فأمدّهم بملائكته على ما وعدهم.
فعن بعض بني ساعدة، قال: سمعت أبا أسيدٍ مالك بن ربيعة بعد ما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدرٍ الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشّعب الّذي خرجت منه الملائكة لا أشكّ ولا أتمارى.
عن ابن عبّاسٍ، قال: حدّثني رجلٌ من بني غفارٍ، قال: أقبلت أنا وابن عمٍّ لي حتّى أصعدنا في جبلٍ يشرف بنا على بدرٍ، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدّبرة، فننتهب مع من ينتهب.
قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منّا سحابةٌ، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم، قال: فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأمّا أنا فكدت أهلك، ثمّ تماسكت.
وعن أبي داود المازنيّ، وكان، شهد بدرًا، قال: إنّي لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدرٍ لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن قد قتله غيري.
وعن عكرمة، مولى ابن عبّاسٍ، قال: قال أبو رافعٍ مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: كنت غلامًا للعبّاس بن عبد المطّلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العبّاس، وأسلمت أمّ الفضل وأسلمت، وكان العبّاس يهاب قومه، ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مالٍ كثيرٍ متفرّقٍ في قومه.
وكان أبو لهبٍ عدوّ اللّه قد تخلّف عن بدرٍ، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلّف رجلٌ إلاّ بعث مكانه رجلاً، فلمّا جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدرٍ من قريشٍ، كبته اللّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوّةً وعزا، قال: وكنت رجلاً ضعيفًا، وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم، فواللّه إنّي لجالسٌ فيها أنحت القداح، وعندي أمّ الفضل جالسةٌ، وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهبٍ يجرّ رجليه بشرٍّ، حتّى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالسٌ، إذ قال النّاس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، قد قدم، قال: قال أبو لهبٍ: هلمّ إليّ يا ابن أخي، فعندك الخبر، قال: فجلس إليه، والنّاس قيامٌ عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر النّاس؟.
قال: لا شيء واللّه إن كان إلاّ أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا، وايم اللّه مع ذلك ما لمت النّاس، لقينا رجالاً بيضًا على خيلٍ بلقٍ ما بين السّماء والأرض ما يليق لها شيئا، ولا يقوم لها شيءٌ، قال أبو رافعٍ: فرفعت طنب الحجرة بيدي ثمّ قلت: تلك الملائكة.
وعن ابن عبّاسٍ، قال: كان الّذي أسر العبّاس أبا اليسر كعب بن عمرٍو أخا بني سلمة، وكان أبو اليسر رجلا مجموعًا، وكان العبّاس رجلاً جسيمًا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأبي اليسر: كيف أسرت العبّاس أبا اليسر؟ قال: يا رسول اللّه، لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لقد أعانك عليه ملكٌ كريمٌ.
وعن الضّحّاك، قوله: {ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلافٍ} إلى: {خمسة آلافٍ من الملائكة مسوّمين} كان هذا موعدًا من اللّه يوم أحدٍ، عرضه على نبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ المؤمنين إن اتّقوا وصبروا أمدّدتهم بخمسة آلافٍ من الملائكة مسوّمين، ففرّ المسلمون يوم أحدٍ، وولّوا مدبرين، فلم يمدّهم اللّه.
وعن الضّحّاك، في قوله: {ويأتوكم من فورهم هذا} يقول: من وجههم وغضبهم
وأصل الفور: ابتداء الأمر يؤخذ فيه، ثمّ يوصل بآخر، يقال منه: فارت القدر فهي تفور فورًا وفورانًا: إذا ما ابتدأ ما فيها بالغليان ثمّ اتّصل؛ ومضيت إلى فلانٍ من فوري ذلك، يراد به: من وجهي الّذي ابتدأت فيه، فالّذي قال في هذه الآية: معنى قوله: {من فورهم هذا} من وجههم هذا، قصد إلى أنّ تأويله: ويأتيكم كرز بن جابرٍ وأصحابه يوم بدرٍ، من ابتداء مخرجهم الّذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من المشركين.
وأمّا الّذين قالوا: معنى ذلك: من غضبهم هذا، فإنّما عنوا أنّ تأويل ذلك: ويأتيكم كفّار قريشٍ، وتبّاعهم يوم أحدٍ من ابتداء غضبهم الّذي غضبوه لقتلاهم الّذين قتلوا يوم بدرٍ بها.
{يمددكم ربّكم بخمسة آلافٍ} كذلك من اختلاف تأويلهم في معنى قوله {ويأتوكم من فورهم هذا} اختلف أهل التّأويل في إمداد اللّه المؤمنين بأحدٍ بملائكته، فقال بعضهم: لم يمدّوا بهم؛ لأنّ المؤمنين لم يصبروا لأعدائهم، ولم يتّقوا اللّه عزّ وجلّ بترك من ترك من الرّماة طاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ثبوته في الموضع الّذي أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالثّبوت فيه، ولكنّهم أخلّوا به طلبًا للغنائم، فقتل من المسلمين، ونال المشركون منهم ما نالوا، وإنّما كان اللّه عزّ وجلّ وعد نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم إمدادهم بهم إن صبروا واتّقوا اللّه
وأمّا الّذين قالوا: كان ذلك يوم بدرٍ بسبب كرز بن جابرٍ، فإنّ بعضهم قالوا: لم يأت كرزٌ وأصحابه إخوانهم من المشركين مددًا لهم ببدرٍ، ولم يمدّ اللّه المؤمنين بملائكته؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما وعدهم أن يمدّهم بملائكته إن أتاهم كرزٌ ومدد المشركين من فورهم، ولم يأتهم المدد.
وأمّا الّذين قالوا: إنّ اللّه تعالى ذكره قد كان أمدّ المسلمين بالملائكة يوم بدرٍ، فإنّهم اعتلّوا بقول اللّه عزّ وجلّ: {إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين}.
قالو: فالألف منهم قد أتاهم مددًا، وإنّما الوعد الّذي كانت فيه الشّروط فيما زاد على الألف، فأمّا الألف فقد كانوا أمدّوا به؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ كان قد وعدهم ذلك، ولن يخلف اللّه وعده.
عن ابن عباس قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر وكانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى {مسومين} قال: الملائكة عليهم عمائم بيض مسومة فتلك سيما الملائكة قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول: ولقد حميت الخيل تحمل شكة * جرداء صافية الأديم مسومة.
وأخرج ابن جرير عن أبي أسيد وكان بدريا أنه كان يقول: لو أن بصري معي ثم ذهبتم معي إلى أحد لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم.
وأخرج أبو نعيم، وابن عساكر عن عباد بن عبد الله بن الزبير أنه بلغه أن الملائكة نزلت يوم بدر وهم طير بيض عليهم عمائم صفر وكان على رأس الزبير يومئذ عمامة صفراء من بين الناس فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: نزلت الملائكة على سيما أبي عبد الله، وجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة صفراء.
بشرى من الله للمؤمنين:
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
وما جعل اللّه وعده إيّاكم ما وعدكم من إمداده إيّاكم بالملائكة الّذين ذكر عددهم إلاّ بشرى لكم، يعني بشرى يبشّركم بها، {ولتطمئنّ قلوبكم به} يقول: وكي تطمئنّ بوعده الّذي وعدكم من ذلك قلوبكم، فتسكن إليه، ولا تجزع من كثرة عدد عدوّكم، وقلّة عددكم.
{وما النّصر إلاّ من عند اللّه} يعني وما ظفركم إن ظفرتم بعدوّكم إلاّ بعون اللّه، لا من قبل المدد الّذي يأتيكم من الملائكة، يقول: فعلى اللّه فتوكّلوا، وبه فاستعينوا، لا بالجموع وكثرة العدد، فإنّ نصركم إن كان إنّما يكون باللّه وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلافٍ، فإنّه إلى أن يكون ذلك بعون اللّه وبتقويته إيّاكم على عدوّكم، وإن كان معكم من البشر جموعٌ كثيرةٌ أخرى فاتّقوا اللّه واصبروا على جهاده عدوّكم، فإنّ اللّه ناصركم عليهم.
وعن ابن إسحاق: {وما جعله اللّه إلاّ بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم به} لما أعرف من ضعفكم، وما النّصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي، وذلك أنّي ألعز والحكم الّي لا إلى أحدٍ من خلقي.
قال ابن زيدٍ: {وما النّصر إلاّ من عند اللّه} لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعل العزيز الحكيم وأمّا معنى قوله: {العزيز الحكيم}
فإنّه جلّ ثناؤه يعني: العزيز في انتقامه من أهل الكفر بأيدي أوليائه من أهل طاعته، الحكيم في تدبيره لكم أيّها المؤمنون على أعدائكم من أهل الكفر، وغير ذلك من أموره، يقول: فأبشروا أيّها المؤمنون بتدبيري لكم على أعدائكم، ونصري إيّاكم عليهم إن أنتم أطعتموني فيما أمرتكم به وصبرتم لجهاد عدوّي وعدوّكم
قطع الله يوم بدر طرفًا من الكفار:
{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}
ولقد نصركم اللّه ببدرٍ {ليقطع طرفًا من الّذين كفروا} ويعني بالطّرف: الطّائفة والنّفر، يقول تعالى ذكره: ولقد نصركم اللّه ببدرٍ كما يهلك طائفةً من الّذين كفروا باللّه ورسوله فجحدوا وحدانيّة ربّهم ونبوّة نبيّهم محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
عن السّدّيّ، قال: ذكر اللّه قتلى المشركين، يعني بأحدٍ، وكانوا ثمانية عشر رجلاً فقال: {ليقطع طرفًا من الّذين كفروا} ثمّ ذكر الشّهداء فقال: {ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتًا} الآية
وأمّا قوله: {أو يكبتهم} فإنّه يعني بذلك أو يخزيهم بالخيبة مما رجوا من الظّفر بكم. وقد قيل: إنّ معنى قوله: {أو يكبتهم} أو يصرعهم لوجوههم، ذكر بعضهم أنّه سمع العرب تقول: كبته اللّه لوجهه، بمعنى صرعه اللّه.
فتأويل الكلام: ولقد نصركم اللّه ببدرٍ، ليهلك فريقًا من الكفّار بالسّيف، أو يخزيهم بخيبتهم ممّا طمعوا فيه من الظّفر، {فينقلبوا خائبين} يقول: فيرجعوا عنكم خائبين لم يصيبوا منكم شيئًا ممّا رجوا أن ينالوه منكم.
وعن ابن إسحاق: {أو يكبتهم فينقلبوا خائبين} أو يردّهم خائبين، أى يرجع من بقي منهم فلا خائبين، لم ينالوا شيئًا ممّا كانوا يأملون.
الأمر كله لله:
{ليس لك من الأمر شيءٌ}
أي: هذا باب في قوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} ولم يذكر لفظ: باب هنا إلاّ في رواية أبي ذر. وقال ابن إسحاق. أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلاّ ما أمرتك به فيهم، ويقال: ليس لك من الأمر شيء بل الأمر كله إليّ كما قال: فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الرّكوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده اللّهمّ ربنا لك الحمد اللّهمّ أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعيّاش بن أبي ربيعة اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف يجهر بذلك وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر اللّهمّ العن فلانا وفلانًا لأحياء من العرب حتّى أنزل الله ليس لك من الأمر شيء واستشكل بأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد ونزول {ليس لك من الأمر شيء} في قصة أحد فكيف يتأخر السبب عن النزول؟
وأجاب في الفتح: بأن قوله حتى أنزل الله منقطع من رواية الزهري عمن بلغه كما بين ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة فقال هنا قال يعني الزهري، ثم قال بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت قال وهذا البلاغ لا يصح وقصة رعل وذكوان أجنبية عن قصة أحد فيحتمل أن قصتهم كانت عقب ذلك وتأخر نزول الآية عن سببها قليلًا، ثم نزلت في جميع ذلك.
وقد ورد في سبب نزول الآية شيء آخر غير مناف لما سبق في قصة أحد فعند مسلم من حديث أن أنس النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: ((كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم)) وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128] .
وأورده في المغازي معلمًا بنحوه وطريق الجمع بينه وبين حديث ابن عمر المسوق أول هذا الباب أنه صلّى اللّه عليه وسلّم دعا على المذكورين بعد ذلك في صلاته فأنزل الله الآية في الأمرين جميعًا فيما وقع له من كسر الرباعية وشج الوجه وفيما نشأ عن ذلك من الدعاء عليهم وذلك كله في أحد فعاتبه الله تعالى على تعجيله في القول برفع الفلاح عنهم حيث قال: كيف يفلح قوم أي لن يفلحوا أبدًا فقال الله له: {ليس لك من الأمر شيء} أي كيف تستبعد الفلاح وبيد الله أزمة الأمور التي في السماوات والأرض {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} [المائدة: 18] وليس لك من الأمر إلا التفويض والرضا بما قضى.
وعن الحسن في قوله: {ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم} الآية كلّها، فقال: جاء أبو سفيان من الحول غضبان لما صنع بأصحابه يوم بدرٍ، فقاتل أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم أحدٍ قتالاً شديدًا، حتّى قتل منهم بعدد الأسارى يوم بدرٍ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلمةً علم اللّه أنّها قد خالطت غضبًا: كيف يفلح قومٌ خضّبوا وجه نبيّهم بالدّم وهو يدعوهم إلى الإسلام؟ فقال اللّه عزّ وجلّ: {ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذّبهم فإنّهم ظالمون}.
وعن قتادة: أنّ رباعية النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أصيبت يوم أحدٍ، أصابها عتبة بن أبي وقّاصٍ، وشجّه في وجهه، وكان سالمٌ مولى أبي حذيفة يغسل عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الدّم، والنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: كيف يفلح قومٌ صنعوا بنبيّهم هذا؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذّبهم فإنّهم ظالمون}.
قال الطبري وغيره من المفسرين: قوله: {أو يتوب عليهم عطف على يكبتهم}.
قال القاضي: فقوله: {ليس لك من الأمر شيءٌ} اعتراض أثناء الكلام، وقوله: {أو يتوب} معناه: فيسلمون، وقوله: {أو يعذّبهم} معناه: في الآخرة بأن يوافوا على الكفر، قال الطبري وغيره: ويحتمل أن يكون قوله: {أو يتوب} بمعنى حتى يتوب أو إلى أن يتوب فيجيء بمنزلة قولك: لا أفارقك أو تقضيني حقي، وكما تقول: لا يتم هذا الأمر أو يجيء فلان، وقوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيءٌ} ليس باعتراض على هذا التأويل، وإنما المعنى الإخبار لمحمد عليه السلام أنه ليس يتحصل له من أمر هؤلاء الكفار شيء يؤمله إلا أن يتوب الله عليهم فيسلموا، فيرى محمد عليه السلام أحد أمليه فيهم، أو يعذبهم الله بقتل في الدنيا، أو بنار في الآخرة أو بهما، فيرى محمد صلى الله عليه وسلم الأمل الآخر، وعلى هذا التأويل فليس في قوله: {ليس لك من الأمر شيءٌ} ردع كما هو في التأويل الأول، وذلك التأويل الأول أقوى، وقرأ أبي بن كعب، «أو يتوب أو يعذب» برفع الباء فيهما، المعنى: أو هو يتوب، ثم قرر تعالى ظلم هؤلاء الكفار.
ثم أكد معنى قوله ليس لك من الأمر شيءٌ بالقول العام وذكر الحجة الساطعة في ذلك وهي ملكه الأشياء، إذ ذلك مقتض أن يفعل بحق ملكه ما شاء، لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه، وذكر أن الغفران أو التعذيب إنما هو بمشيئته وحسب السابق في علمه.