بيــــــــوت الأُنس والسّـــــــــكينة

روائع الفتح
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور  أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

maxresdefault

كلما قوى الإيمان وانتشر فى القلب نور اليقين .. ثبت وسكن عند ورود المقلقات والفتن

جعل الله الزوجة سكنا لزوجها فقال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، فهى موطن راحته وهدوئه وأنسه، ونستطيع أن نقول: إن الزوج أيضًا سكن لزوجته تبثه آلامها وأفراحها، وتعتبره أقرب الناس إليها، وأرحم الناس بها وهذا القرب بين الزوجين والرحمة والمودة هو هدى نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الذى يثمر الأنس والسكن والسكينة والطمأنينة فى البيوت المسلمة السعيدة

الهداية
ونستطيع أن نتأمل فى هذه الآية فنرى فيها بعض العبر: في قوله تعالى {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} جعل الله زوجتك من نفسك، جزءا منك، فكيف تعامل نفسك؟، كيف تتعامل مع جزءٌ من جسدك؟.
وفى قوله {لِّتَسْكُنُوا} اللام هنا لام تعليل، فالسكن عِلّة لهذا الزواج، كأن هذه السكينة والطمأنينة فى البيوت المسلمة هى الغاية والعلة فإذا افتقدت البيوت المسلمة هذه الثمرة فإن هناك خلل تزيله طاعة الله والقرب منه سبحانه، فتتم السكينة والأنس والسعادة بطاعة الله وقربه فالبيوت المسلمة تقوم سعادتها على رضا الله وطاعته وحبه فتعم فيها السكينة حتى تصير كأنها روضة من رياض الجنة.
يقول ابن القيم رحمه الله فى مدارج السالكين: ((السكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها،  وسكنت إليها الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش، واللغو والهجر، وكل باطل).
وأول مقام من مقام الأنس فى البيوت السعيده هو الحرص على ذكر الله على كل حال وفى كل وقت إنها بيوت تلجأ إلى الله، ولا تنساه فى سراء ولا ضراء.
 قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكِّرُهُ به، ويذاكره بهذا الأمر)) [إغاثة اللهفان :  ص 72].
فالأنس بالله تعالى حالة وجدانية تحمل على التنعم بعبادة الرحمن، والشوق إلى لقاء ذى الجلال والإكرام .
قال أحد السلف: ((مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته)) والعبد إذا ارتقى بالعلم النافع والعمل الصالح إلى مقام الإحسان واستقرت قدمه فيه أنس بالله تعالى والتذ بطاعته وذكره .
وهذه المنزلة من أعظم المنازل وأجلها، ولكنها تحتاج إلى تدريج للنفوس شيئا فشيئا، ولا يزال العبد يعودها نفسه حتى تنجذب إليها وتعتادها، فيعيش العبد قرير العين بربه، فرحا مسرورا بقربه.
إن الأنس بالله تعالى ثمرة الطاعات والتقرب إلى رب الأرض والسماوات، كما قال ابن القيم رحمه الله: ((فكل طائع مستأنس ، وكل عاص مستوحش)) [مدارج السالكين: 2/406].
وقال ابن الجوزى رحمه الله تعالى: ((إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة؛ لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين، فيا لذة عيش المستأنسين، ويا خسارة المستوحشين)) [صيد الخاطر: 213].
قيل للعابد الربانى وهيب بن الورد رحمه الله: ((هل يجد طعم العبادة من يعصيه؟ قال: لا ، ولا من يهم بالمعصية)).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: ((من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية)). ولأجل ذلك كان السلف الصالح الكرام، والأئمة الأعلام يتشوقون إلى فعل الطاعات، ويحرصون على تقديم القربات لرب الأرض والسماوات، ولا يسأمون من العبادات لأنسهم برب البريات .
قال الوليد بن مسلم ((رأيت الأوزاعى يثبت فى مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس)).ولننظر إلى صورة من صور البيوت المسلمة السعيدة عند سلفنا الصالح رضى الله عنهم وأرضاهم فهذا أبو عائشة الإمام التابعى مسروق بن الأجدع كان يصلى حتى تتورم قدماه، قالت زوجته : ((فربما جلست أبكى مما أراه يصنع بنفسه، ولما حضرته الوفاة قال : ما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى)).
إن للسكينة والطمأنينة فى البيوت المسلمة أسبابًا منها :
1-الإيمان بالله واليوم الآخر، فالشك اضطراب واليقين سكون، فكلما قوى الإيمان وانتشر فى القلب نور اليقين كلما ثبت وسكن عند ورود المقلقات والفتن.

التربية 4
والتوحيد الذى يجعل الإنسان يلجأ إلى الله فى الشدة والرخاء، ينفى كل خوف أو قلق، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام:82].
وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه جل وعلا: ((وعزتى لا أجمع على عبدى خوفين وأمنين؛ إذا خافنى فى الدنيا أمّنته يوم القيامة، وإذا أمننى فى الدنيا أخفته يوم القيامة)) [السلسلة الصحيحة].
2-تذكر حقيقة الدنيا، وطلب رضا الله: ولا يعنى هذا العزلة عن الحياة، أو ضعف الطموح، بل إن من يعمل للآخرة يجب أن يكون الأعلى همة والأكبر أثرا ونشاطا، ولكن جهوده ليست مبددة فى كل واد، وإنما يعرف طريقه وغايته.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِى رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)) [السلسة الصحيحة].
3-كثرة ذكر الله: فالذكر قرين الطمأنينة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].فالعبد إذا ذكر الله ذكره الله، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
وفى ذكر الله لعبده كل الخير العاجل والآجل، فإن من يذكره الله فى علاه ناج من كل هم، آمن من كل خوف، منصور فى كل حين.
4-الصلاة والدعاء: وهما من الذكر، وكانت الصلاة قرة عين نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولكن البعض يحاول إذهاب خوفه، والتغلب على قلقه واضطرابه، بالتواصل مع الناس، أو الانشغال بتوافه الأمور، وينسى الصلة بالله الذى يملك قلبه يقلبه ويصرفه كيف يشاء.
5-الرضا: فإن من أعظم المنغصات، ومن أشد أبواب الاضطراب التحسر على ما فات، والسخط على الواقع، والتفكير فى المستقبل، والرضا هو باب واسع يدخل منه الإنسان إلى واحة الأمن والسكينة، فيجد راحة لا مثيل لها، ومنها ينطلق إلى العمل والإنجاز بقلب لا تموج به الأفكار وتتقاذفه الأحلام والحسرات.
إن السكينة هى عطاء الله للمؤمنين، تقترن بذكره والإقبال عليه، إنها منحة لمن كان قلبه متعلقا بالله، لمن لم يغرق فى هموم الدنيا الصغيرة، لمن بسط فى قلبه واحة اليقين والمعرفة.
وإن للطاعة راحة فى القلب، وسكينة فى النفس، وسعة فى الرزق لا يشعر بها إلا من هجر المعاصى والذنوب، ذاقها من أقبل على الله قال الله تعالى {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].
 اللهم أنزل على قلوبنا السكينة فلا تقلبها المخاوف والفتن، واجعل نفوسنا مطمئنة، وارزقنا طاعتك وقربك والأنس بك وحدك يا الله ولا تجعلنا من الغافلين وأصلح لنا بيوتنا واجعلها روضة من جنة طاعتك ومحبتك يا أرحم الراحمين.