الاستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
التوبة إلى الله أسمى مظاهر الاعتذار.. حين يرفع العبد كف ضراعته إلى ربه نادمًا باكيًا
الاعتذار يزيد المكانة والقدر والمحبة، ولا ينقص من صاحبه شيئًا، وأولى الناس بالاعتذار هو الزوج إذا بدر من زوجته ما يغضبه، فربما كلمة اعتذار ومحاولة استرضاء ملأت قلب الزوج حبًّا ومودة لزوجته العمر كله، وأولى الناس بالاعتذار الزوجة إذا بدر من زوجها في غمرة أعباء الحياة ما يكسر خاطرها فيسعى الزوج الصالح إليها مطيبًا لنفسها ساكبًا من حنانه ما يملأ البيت مودة لا تنقطع، وسعادة دائمة يحوطها التواضع والرحمة والمشاعر الودودة المتبادلة بين الزوج وزوجته في أسرة تتحلى وتكتسي بأدب الإسلام.
يعجبني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة : الودود، الولود ، الغيور على زوجها ، التي إذا آذت أو أوذيت جاءت حتى تأخذ بيد زوجها ثم تقول: والله لا أذوق غمضا حتى ترضى عني، هي في الجنة، هي في الجنة، هي في الجنة)) ومعنى الجملة الأخيرة غمضًا: أي لا أنام ولا يستريح لي بال.
وسئل أعرابي عن أحسن النساء؟ فقال: أفضل النساء: أصدقهن إذا قالت، التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت تبسمت، وإذا صنعت شيئا أجادته، التي تلتزم بيتها، ولا تعصي زوجها، العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الودود الولود، وكل أمرها محمود.
كم من بيوت خربت، وكم من قضايا رفعت، وأضاعت الوقت والجهد والمال وكان يكفي لوأدها في مهدها كلمة واحدة فقط وهي كلمة الأسف أو الاعتذار، والتي لو قيلت بعد مرور وقت لن تجدى نفعًا، ولن يكون لها أية قيمة ولا أثر، فلِم تتكبر عنها النفوس التى تعلم أن العودة للحق خير من التمادى فى الباطل؟.
إن لنا فى خير الناس صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، إذ نراه يرق لرجل ويكرمه لمجرد أنه عبس فى وجهه مرة واحدة - وهو أعمى لم ير ذلك العبوس- بعد أن أنزل الله فى شأنه قرآنًا معاتبًا نبيه صلى الله عليه وسلم، ففى مسند أبى يعلى عن أنس رضى الله عنه قال: ((جاء ابن أم مكتوم إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وهو يكلِّم أُبى بن خلف، فأعرض عنه، فأنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} قال: فكان النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه))، ونجده صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يطيب خاطره وهو الأعمى الذى لا يستطيع القتال، فنجده فى غير مرة يوليه الإمارة على المدينة عند خروجه صلى الله عليه وسلم للقتال.
ولنا فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة فى قبول اعتذار المعتذر، فكان لا يرد معتذرًا لما كان فيه من كرم نفس وحسن خلق.
ليس من يعتد بنفسه حقيقة من يأبى الاعتذار إن أخطأ، ولكن المعتد بنفسه المكرم لها هو من يصون نفسه ولا يوردها مورد الخطأ كى لا يُضطر إلى الاعتذار، ففى السلسلة الصحيحة للألبانى عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((...وإياك وما يُعتذر منه))، ويوصى بها سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه ولده عند موته فيقول: ((وإياك وما يُعتذر إليه من العمل والقول واعمل ما بدا لك)).
وما كانت التوبة إلى الله سبحانه إلا المظهر الأسمى للاعتذار، حين يرفع العبد كف ضراعته إلى ربه نادمًا باكيًا يقول كما قال أبواه بعد أول ذنب ارتُكب بين البشر: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وما كان مَن الله وكرمه ومغفرته إلا أنموذجًا علويًا لقبول المعذرة من المخطئين التائبين المعتذرين.كم من بيوت خربت، وكم من قضايا رفعت، وأضاعت الوقت والجهد والمال كان يكفى لوأدها كلمة "آسف"
هناك منزلة عظمى لا يدركها إلا كل من صفا قلبه وسمت روحه، وهى التماس الأعذار للمخطئين حتى قبل أن يعتذروا هم بأنفسهم، فالمدرك لحقائق النفس البشرية الذى يعرف دروبها ومسالكها جيدًا قد يجد الأعذار للمخطئ بمجرد وقوع الخطأ، فيسلم قلبه من أى عرض يؤثر عليه وتسلم جوارحه من أى فعل قد يرتكبه ساعة غضبه، ففى البخارى قال أنس رضى الله عنه: ((كان النبى صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التى كان النبى صلى الله عليه وسلم فى بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبى صلى الله عليه وسلم فلق الصفحة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذى كان فى الصحفة، ويقول: ((غارت أمكم)) ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التى هو فى بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التى كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة فى بيت التى كسرت)).
خلق الاعتذار وقبول العذر وقاية للأسرة من تفشى سوء الظن وتقاذف التهم والتى إن استقرت فى القلوب والبيوت فلن يفيد معها اعتذار .
لقد عبر النبى صلى الله عليه وسلم عن الإنسان (ابن آدم) بالخطَاء وليس المخطئ، وهى صيغة مبالغة تدل على تكرار الخطأ، فقال: ((كل ابن آدم خطاء وإن خير الخطائين التوابون)) وليس على وجه الأرض بشر معصوم من الخطأ، ولكننا جميعا نخطئ ونصيب، وإن خير البشر من يعترف بخطئه ويقر به ويعتذر عنه ويعمل على إصلاحه ما أمكنه ذلك.
الاعتذار أدب وخلق اجتماعى وهو من أقوى الصفات التى تدل على تواضعك وتسامحك وهو أسلوب يحسن صورتك ويبعد عنك سوء الظن حين يصدر منك الخطأ لذا علينا بالاعتذار عند الخطأ كما علينا قبول العذر والعفو وتلمس الأسباب لمن قد أخطاء فى حقنا.
خذ من أخيك العفو واغفر ذنبه ولا تك فى كل الأمور تعاتبه
فإنك لن تلقى أخاك مهذباً وأى امرئ ينجو من العيب صاحبه
يقول ابن القيم الجوزية فى كتاب تهذيب مدارج السالكين: من أساء إليك ثم جاء يعتذر عن إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، وعلامة الكرم والتواضع أنك اذا رأيت الخلل فى عذره لا توقفه عليه ولا تحاجه.
أقلل عتابك فالبقاء قليل والدهر يعدل مرة ويميل
ولعل أيام البقاء قليلة فعلام يكثر عتبنا ويطول
ولأن بعض الناس قد يزهد فى العفو وقبول العذر؛ لظنه أنه يورثه الذلة والمهانة فقد أتى النص القاطع يبين أن العفو يرفع صاحبه، ويكون سبب عزته، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (رواه مسلم).
الاعتذار ينفى عن صاحبه صفة التعالى والكبر، ويمنحه المصداقية والثقة فى قلوب الآخرين ، كما أن الاعتذار يُزيل الأحقاد ، ويقضى على الحسد ، ويدفع عن صاحبه سوء الظن به ، والارتياب فى تصرفاته.
إنك باعتذارك لأقرب الناس إليك تحول بيتك إلى جنة للتسامح والرضا والمحبة، وتنفى عنك صفة الكبر التى لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة منها.
نسأل الله العلى العظيم أن يجعلنا نسعى إلى طاعته ومحبته ورضاه، بقلوب كسيرة ونفوس متواضعة لعظمة الخالق الكريم إنه نعم المولى ونعم النصير.
بُيوت الاعتذار والتواضع
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة