بقلم: د. شعبان عبد الجيِّد.. مدرس الأدب والنقد بكلية التربية جامعة مدينة السادات
في كتاب " الأرواح المتمردة " لجبران خليل جبران ( 1883 ـ 1931) حكايةٌ موجعةٌ عن مأساة امرأةٍ " جميلةِ الوجه ، نبيلة الروح ، صادقة القلب ، واسعة الأفق ، اختار لها أهلها وهي صبيةٌ زوجاً يكبرها بسنواتٍ كثيرة . ولكنها تركته إلى حبيبٍ في مثل سنها ، غيرَ مباليةٍ بأحد " ؛ فهي لم تعد تحتمل العذابَ الشديد الذي كانت تعيش فيه مع رجلٍ لا تحبه ، فقررت ، بعد صبر مرٍّ طويل ، أن ترجع إلى الرجل الذي لا تجد الراحة إلا في قربه ، ولا السعادة إلا في وصاله ، ولا السكينة إلا بين يديه !!
لم ينسَ الشاعر محمد محمود عماد ، وهو يستعير صوتها ليعبِّر عن مأساتها ، أنها تعيش في مجتمعٍ شرقي ؛ ينكر على المرأة أن تفكر في غير زوجها ، ويزدريها إذا خرجت عن طاعته ، ويلاحقها باللعنات إذا تركت بيته بدون أمره ، فبدأ قصيدته الطريفةَ ، وعنوانها ( راجعة ) ، بهذا البيت الذي تجيب به على من يسألها : " ألا تستحين ؟ " :
أأخجلُ ؟ لستُ أخجلُ من رجوعي رجوعي ها هنا شيءٌ طبيعي !
والقصيدة كلها تبريرٌ أنثويٌّ خالصٌ لهذا الرجوع المفاجئ ، وسردٌ شعريٌّ رائعٌ لتفاصيل ما جرى لهذه المسكينة البائسة ؛ حيث تخبر حبيبها بأنه لم يغب عن بالها أبداً ، ولم ترَ غيره في ليلة عُرسها . وكيف تكون زينتها وجمالها لذلك الرجل الذي سِيقت إليه وهي مرغمة ، وتشعر عندما يلمسها أو يقترب منها بلذع النار ؟ ، تقول :
لئـن أنا لـــم أُزفَّ إليـــكَ إنـــي إليكَ أضأتُ في عرسي شموعي
وما أنا كنتُ فــيه لمن بقُـــربي وكيــف ضِلعُه يكوي ضـلوعي ؟
إنها تجاريه بجسده ، وتخالفه بمشاعرها ، تمنحه هيكلاً مستسلماً وجسداً مستَضعفاً ، ولكنها تصون منه رُوحاً حالمةً قيدها المجتمع ، وقلباً عاشقاً صرعته التقاليد :
أُجــــاريه برغــم الحِـسِّ منِّي بحشرجـةٍ من القلب الصـــريعِ
وكم كان الشاعرُ بارعاً وهو يتقمَّص شخصية المرأة المقهورة في ليلة زفافها ؛ حيث نجدها في مواجهة رجلٍ لا يحس بها ولا يأبه لمشاعرها ؛ إنه يريدها ليمارسَ رجولته فحسب ، ولا يعنيه من أمرها أيُّ شيءٍ آخر ، وتُصِمُّه أَثَرَتُه فلا يسمع أعذارَها ، وتُعميه أنانيتُه فلا يبصر دموعها ، ولا يكون أمامها حينئذٍ سوى أن تنقذ جسدها المنهَكَ المتهالكَ بالخضوع والاستسلام ، كأنها دُميةٌ متجمدةٌ في مسرح عرائسَ عبثي ، بينما تتشبث يدُها بسرير مذبحِها ، تبحث في لهفةٍ حائرةٍ عن طوق نجاة ، وتُمسك في ذِلَّةٍ خائرةٍ بشعاع أملٍ واه :
وأعــــذاري وما عُـــذري لديه ؟ ودمعي ؛ كيف يفهمها دموعي ؟
وأُنــــقذُ مــن كياني بانخــــذالي وأنــقذ مـــن أديمي بالخــــضوعِ
كأنــي دُمـــــيةٌ تـــأتي بـــــدورٍ يَرينُ علــى مفاصــــلها صقيعي
وكــفِّي بالســرير كما استمات الغــريقُ على بقايا مــــن قُـــلوعِ
إنها أطلال امرأةٍ بِيعَ جسدها في سوق النِّخاسة ، وحطام أنثى اشتراها من أهلها من دفع أكثر :
ألم يـــدفعْ لـــــهم ثمني بعَـــقدٍ ؟ ألستُ لديه كالشيء المَبيعِ ؟
هنا يتجسد بؤس القلب وشقاء الروح ، أو كما قال جبران في قصته : " ما أتعسَ المرأةَ التي تستيقظ من غفلة الشبيبة فتجد ذاتها في منزل رجلٍ يغمرها بأمواله وعطاياه ... لكنه لا يَقدر أن يُلامسَ قلبها بشعلة الحبِّ المُحيِيَةِ ، ولا يستطيع أن يُشبعَ رُوحها من خمرة الحب السماوية التي يسكبها الله من عينَي الرجل في قلب المرأة " !
كيف يا تُرى يكون ليلُها ؟ وكيف يُمسي نومُها ؟ ومن ذا الذي يدري ما تقاسيه أو يشعر بما تعانيه ؟ إنها أشياء دقيقةٌ وخفيةٌ ؛ قد توجزها اللغة في كلمات، أو يُبرزها الشعر في تشبيهات ، أما لحظاتها الموجعة وتفاصيلها المفزعة ، فهيهات أن يصورها قلمٌ على براعته ، أو يفسرها كلِمٌ على بلاغته ؛ وليس إلا مثل ما قالته هذه الضائعة :
وأمـسَى اللـيلُ كالــوحش الـمُداني وأمسى النومُ كالحُــلمِ المُريعِ
أتدري ما أقاسي ؟ كيف تـدري ؟! فظـيعٌ ؛ بل وأكثر من فظـيعِ !
ثم ماذا ؟ ها هي الآن في حضرة حبيبها ؛ ذاب الحياءُ الكاذب ، وغاب التجمُّلُ المصطنَع ، وصار الاثنان واحداً ، وغدت بعد ذبولها غصناً ناضراً على كفيه ، وباتت بعد بؤسها فرْحةً نشوى عند قدميه . لقد امتزجت به روحاً ، وتلاشت فيه وجداناً . أصبحت تنام إذا هو نام ، وتستيقظ إذا هو طرق بابَ قلبها وخفق بأنحاء صدرها :
وأعجبُ كيف أغدو من ذبولي عـلى كفَّيكَ كالغـصـن الخــليعِ
وتجلس لي فيحلو لي ارتمائي على قدميكَ يحلو لي ركوعي
وأغـفو عندما تغـفو وأصـحو متى تصحو بقلبي كالرضيعِ !
ولعلها سمعته وهو يسأل ، أو سمعتنا ونحن نتعجب : من أجل ماذا كل هذا ؟! فقدمت إجابتها وبرَّرتْ موقفها :
فوحدَكَ أنت من أدركتَ كُنْهي ووحدكَ أنت من أشبعتَ جُوعي
وقد يَقنع المحب بهذه الإجابة ، وهي عنده تحصيل حاصل على أيِّ حال ، ولكن الناس لا يقتنعون بمثل هذا المبرر الأنثوي الواهي ، ولا يكفيهم هذا التصوير الفني الدامي لتلك المأساة الخالدة ؛ وقد يبكون ، أو يتباكون ، على القيم الضائعة والأخلاق الغائبة والقيم المستباحة ، ويحاكمون هذه المرأة المحطَّمةَ بقانون المجتمع ولا يعاملونها بشريعة الحب ، ويرجمونها بحجارة التقاليد والأعراف ، ولا يرحمونها بروح العطف والمحبة والتسامح . أما هي فقد أنهت قصيدتها بما بدأتها به ؛ هكذا في جرأةٍ تامةٍ وصراحةٍ واثقة :
أأخجلُ ؟ كيف أخجلُ يا صديقي ؟ وجودي ها هنا الوضعُ الطبيعي
ولعلها كانت تقول في نفسها ما قالته صاحبة جبران :
" أنا كنتُ زانيةً ، وخائنةً ، في منزل " زوجي " . لأنه جعلني رفيقةَ مضجعه بحكم العادات والتقاليد ، قبل أن تصيِّرَني السماء قرينةً له بشريعة الروح والعواطف . وكنت دَنِسةً ، ودنيئةً ، أمام نفسي وأمام الله ، عندما كنت أُشبِعُ جَوفي من خيراته ، ليُشبِعَ هو أميالَه من جسدي . أما الآن فقد صِرتُ طاهرةً ، نقيةً ، لأن ناموس الحب قد حرّرني . وصرتُ شريفةً ، وأمينةً ، لأنني أبطلتُ بيع جسدي بالخبز وأيامي بالملابس . نعم . كنت زانيةً ، ومجرمةً ، عندما كان الناس يحسبونني زوجةً فاضلةً . واليوم صرتُ طاهرةً وشريفةً . وهم يحسبونني عاهرةً ودَنِسة ؛ لأنهم يحكمون على النفوس من مآتي الأجساد ، ويقيسون الروح بمقاييس المادة " .
هذا هو رأيها في نفسها ؛ قد يرى البعض ، مُحقاً ، أنه قد علا فيه صوتُ القلب على نداء الواجب ، وتغلبت رغبةُ النفس على وحي الضمير ، وطغت أنانية الفرد على مصلحة المجتمع ؛ وتلك قضيةٌ أخلاقية ، ليس هنا موضعُ مناقشتها وتفصيل القول فيها !!
مأساةُ امرأة !! قراءةٌ في قصيدة( راجعة ) للشاعر محمد محمود عماد
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة