أ.د / عبد الله أحمد جاد عبد الكريم
أستاذ اللغة العربية بجامعة جازان
تعتمد العربية على أعمدة كثيرة للبقاء وتحدي الفناء، أهمها ما يأتي:
• العماد الأول: العربية لغة القرآن: تعرض كثيرٌ من اللغات للزوال والاندثار والفناء، كاللغة الفينيقية أو الآشورية أو الهيروغليفية، وانحسر وجود بعضها وصارت داخل جدران المعابد، واختفت فلم تعد في الحياة على ألسنة الناس، إمَّا بموت أهلها أو إهمالهم لها، على الرغم من ارتباط بعضها بكتب مقدّسة، وبقيت العربية لغة القرآن الكريم أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان شامخة قوية؛ وسجّل الله تعالى قصة الخلود في قوله تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:9)، فبقاء العربية بفضل الله تعالى الذي قيض لها رجالات ينافحون عنها ويدافعون وينشرونها، وهيئ لهم السبل لنصرتها، وبارك جهودهم الرامية إلى صيانتها.
• العماد الثاني: خصائص بناء العربية. تمتاز العربية بعدد من الخصائص مكنتها من مقاومة الفناء؛ منها:
(1) المرونة والسّعة: قال الإمامُ الشافعي: لسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهباً وأكثرُها ألفاظاً، ولا نعلمُ أن يحيط بجميع علْمه إنسانٌ غيرُ نبيٍّ". ويقول بروكلمان:"معجم العربية اللغوي لا يجاريه معجم في ثرائه، إنَّهُ نَـهرٌ".ويقول الإسباني فيلا سبازا:"اللغة العربية من أغنى لغات العالم بل هي أرقى من لغات أوروبا". وقال حافظ إبراهيم على لسان العربية:
أنا البحرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرّ كَامِنٌ فَهَلْ سَاءَلُـوا الْغَـوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِـي
(2) الاختصـار والإيجـاز: ومنه الإيجاز في الحرف، حيث تكتب الحركات في العربية عند اللبس فوق الحرف أو تحته بينما في اللغات الأجنبية تأخذ حجمًا يساوي حجم الحرف أو يزيد عليه. فنحتاج في الإنجليزية مثلاً إلى حرفين لأداء حرف كالخاء (KH)، وفي العربية (الشدة) نضعها فوق الحرف لندلَّ على أنَّ الحرف مُكرَّر؛ أمَّا في الإنجليزية فنكرر الحرف؛ مثل (recommendation) (التوصية) ، ومن الاختصار كتابة (عَمَّ) عوضاً عن (عن ما).
وبمقارنة بعض الكلمات بين العربية والإنكليزية نجد الفرق واضحًا: مثلاً كلمة (أم) تتكون من حرفين، وفي الإنجليزية ستة أحرف (mother). ومن الإيجاز في العربية التثنية والجمع : فمثلاً البابان في الإنجليزية (the two doors)، وفي النفي في العربية تقول (لن أقابله)، والإنكليزية (I will never meet him)
والاختصارُ في اللغـة المكتوبـة: فمثلاً (الفاتحة) المُؤَلَّفَةُ في القرآن من (31) كلمة ترجمتها في الإنكليزية (70) كلمة. يقول يعقوب بكر:" إذا ترجمنا إلى العربية كلامًا مكتوباً بإحـدى اللغـات الأوروبية كانت الترجمة العربية أقَـلُ من الأصل بنحو الخُمْسِ أو أكثر".
(4) الاشتقاق (التوليد): العربية لغة اشتقاقية, وبالاشتقاق عملت على زيادة خزائنها وموروثها اللَّفظي والمعنوي كُلَّما تقـدَّم الزَّمن، فالكلمات المشتقة من أصل ثلاثي معها المعنى الأصلي بخلاف غيرها من اللغات، والكلمات في العربية لا تعيش فُرادى مُنعزلات بل مُجتمعات مُشتركات فمثلاً (كتب - كاتب - مكتوب - كتابة – كتاب ـ مكتبة ..) تجد بينها علاقة في المعنى، بينما لا علاقة بين (book) (كتاب) في الإنجليزية وبين (library) (مكتبة).
• العماد الثالث: تطور العربية ونموها.
إنَّ قواعد العربية لا تزال إلى اليوم تخضع للتَّطوير؛ بناء على الاستقراء وإعادة قراءة مذاهب النُّحاة واللغويين، وإعمال التَّرجيح بينها. وتطـور العربية أمرٌ أصيلٌ، وهو جزءٌ من عظمتها، وقدرتها على التَّواصل الحضاري، عبر امتدادات الأجيال، ويرى رمضان عبد التَّواب أنَّ :"اللغة كائنٌ؛ لأنَّها تحيا على ألسنة المتكلمين بها , وهم من الأحياء, وهي لذلك تتطور وتتغير بفعل الزمن, كما يتطور الكائن الحي ويتغير"،وعلى الرغم من ذلك تمتازُ العربية بالثبات والاستقرار والنمو والتطور، بينما الإنجليزية، لغة العصر، لغة العلم، تعاني من تغيرات كثيرة سريعة، فنطقها وقواعدها في بريطانيا تختلف عن أميركا، مختلفة في آسيا عن إفريقيا، وعلماء الإنجليزية يُقرِّرُون ذلك، لدرجة أنَّ الإنجليزية من ثلاثمائة سنة لا يستطيع الإنجليزي المعاصر أن يفهم ما كُتب بالإنجليزية من ثلاثة قرونٍ، لدرجة أنَّـهم أعادوا صياغة روايات شكسبير إلى لغة إنجليزية معاصرة !