د. شعبان عبد الجيد مدرس الأدب والنقد،
بكلية التربية جامعة مدينة السادات
في كتب الأدب العربي القديم ، نجد هذه القصةَ الطريفةَ التي ذاعت بين الناس منذ زمنٍ بعيد ، وبخاصةٍ فيما يَرْوونه من أخبار جحا : حُكي أن أحمقيْنِ اصطحبا في طريق ، فقال أحدهما للآخر: تعالَ نتمنَّ على الله ، فإنَّ الطريقَ تُقطعُ بالحديث . فقال أحدُهما: أنا أتمنّى قطعانَ غنمٍ أنتفعُ بلبنِها ولحمها وصوفِها . وقال الآخر : أنا أتمنّى قطعان ذئابٍ أرسلُها على غَنمِكَ حتى لا تتركَ منها شيئاً . قال: ويحكَ ! أهذا من حقِّ الصحبةِ وحُرمة العشرةِ ؟!.
فتصايَحا، وتَخَاصَما، واشتدّت الخصومةُ بينهما حتى تماسكا بالأطواق ، ثمَّ تراضَيَا أنَّ أولَ منْ يطلعُ عليهما يكونُ حكَماً بيْنهما ، فطلع عليهما شيخٌ بحمارٍعليهِ زقَّانِ منْ عسل ، فحدّثاه بحديثِهما ، فنزل بالزّقّين وفتحهما حتى سال العسل على التراب ، وقال: أراقَ اللهُ دمي مثلَ هذا العسلِ إنْ لمْ تكونا أحمقين !
وهي من قصص الحمقى والمغفلين الذين شاعت نوادرُهم وحكاياتُهم في الآداب العالمية جميعِها ؛ لكنَّ هنالك تشابهاً واضحاً بينها وبين قصةٍ قرأتها في كتاب وقع بين يدي منذ سنين ، اسمه ( fifty famous stories retold ) وقد طُبِع في نيويورك منذ مائةٍ وعشرين سنة ، وهي تحت عنوان " ثلاثة رجالٍ من جوثام " ( three men of Gotham ) يدعو إلى الظن بأنها انتقلت من الأدب العربي إلى الأدب الإنجليزي ؛ وهو ما قد يوافقني عليه القارئ الكريم بعد أن يفرغَ من هذه القصة كما ترجمتُها :
" هنالك مدينة في إنجلترا تسمى " جوثام " ، تُحكَى فيها قصصٌ كثيرة مضحكة عن الناس الغريبي الأطوار الذين كانوا يعيشون هناك . ذات يومٍ التقى رجلان من " جوثام " فوق كوبري . " هودج " كان قادماً من السوق ، و" بطرس " كان ذاهباً إلى السوق .
ـ إلي أين تذهب ؟ قال هودج . أنا ذاهبٌ إلى السوق لأشترىَ أغناماً . قال بطرس .
ـ تشتري أغناماً ؟ ومن أي طريقٍ سوف تعود بها إلى البيت ؟ ـ سوف أعود بها من فوق هذا الكوبري . ـ لا . لن تفعل . ـ بل سأفعل . ـ لن تفعل . ـ بل سأفعل . ثم تشاجرا بعصواهما كما لو أن بينهما مئاتِ الخِراف .
ـ احترِسْ ، صاح بطرس ، لاحِظ أن خِرافي لا تصول فوق الكوبري . ـ لا يهمني أين تصول ، ولكنها لن تمرَّ فوقه . ـ بل ستمر . ـ احذر ! لو تكلمت أكثر من هذا فسوف أضع أصابعي في فمك .
وبيناهما كذلك ، كان رجلٌ آخرُ من " جوثام " آتياً من السوق ، ومعه جوالٌ من الدقيق على حصانه . سمع تشاجُرَ جيرانه حول الأغنام ، ولكنه لم يكن يرى أيَّ خِرافٍ بينهما ؛ ولذلك توقف وتحدَّث إليهما :
ـ أوه . يا لكما من صاحبين أحمقين ! ، صاحَ ؛ إنه لمن الغريب ألا تتعلما الحكمة ، تعال هنا يا بطرس وساعدني لأضع جوالي على كتفي . ففعل بطرس ، وحمل الرجل دقيقه إلى حافة الكوبري .
ـ والآن انظرا إليَّ ، وتعلما درساً . ثم فتح فوهة جواله وسكب الدقيق كلَّه في النهر .
ـ والآن يا جيران ، هل يمكنكما أن تخبراني كم من الدقيق في جوالي ؟
ـ لاشيءَ على الإطلاق . صاح " هودج " و" بطرس " .
ـ أنتما محقان ، قال الرجل ، كذلك وأنتما تقفان هنا وتتشاجران على لا شيءَ ، لا تملكان عقلاً في رأسيكما أكثر مما أمتلكه أنا من دقيقٍ في جوالي ! "