بقلم اللغوي: محمد حجاج
الإبداع روحٌ أخرى تسري في أجسادنا، وفيضٌ من عطايا الرب يتجسد في عقائدنا، ومَلَكَةٌ نورانية تنبت في دواخلنا، لا يكشفه إلا كاشف، ولا يكتنفه أحدٌ من غير ءانف، فإذا استولده ذووه ولم يعتنوا به تلحَّد في مهده، وإن طيبوه وحفُّوه بكل ما أوتوا، وصقلوه بحدِّ ما لا حد له، تخلَّد من مولده، وما أقلَّ من يفعلون !!
إنه غيرُ محصور ولا محدود، بل هو في شِرْعَتِنا محمود وممدود، فكل ما يغاير المعتاد، وما يجعل من طين الخوالج كنائز الرماد، وما يحيل التراب إلى تبر بالمداد، وما ينظر إلى الأنجام في الحقول، ويرى الأزاهر في أعالي السيول، وما يجعل من النظرة قصة وحكاية، ومن يشرع بعد عوابر المواقف إلى مكتوب له بداية دون نهاية، أو ليس من بداية تعقب النهاية، ومن يسرد شاعرا، ويشعر ساردا، ويصيِّر الزمان مكانا، ويسيِّر المكان زمانا، ويشخِّص المجردات، ويجسِّد المعنويات، ويشرق نحو الأذهان بجميع الحسِّيات، في ألفة غير مألوفة، وسبكة ليست معروفة، وحبكة لا مصروفة ولا ملهوفة، ومقامات لا تهاب، لا في الذهاب ولا في الإياب.. فها هنا يكون الإبداع !!
يا صاح !! لن تعجبَ كثيرًا، إذا عَرَفْتَ أنَّ الفِكْرَ لا يُرَوِّضُه إلا مفكرٌ أديبٌ، ولا يُعْضِدُه إلا مُذَكِّرٌ أريبٌ، وإن الكتابةَ حديثُ الوجدان إلى بني الإنس والجان، ولا يستقيم هذا الحديثُ ما لم يستقم السماعُ، ولن يستقيمَ السماعُ إلا إذا تحققت له عوائلُ الإبداعِ، ونواضرُ الإسراعِ إلى كل ما تسمو به النفسُ، وتصفو له كل مكاديرِ الهوى والقلب والحس. هذا شَذَى أَيِّ كاتبٍ، سواء أكان قد احترفَ الكتابةَ احترافًا، أم ابترأها بفطرته ابتراءً، فالشذى ليسَ برائحةِ المسكِ الحسنةِ، أو بطيبِ العطرِ والنسيمِ الراقِي فحسب، بل هو ما تشهدُه العيونُ فتبصرُه، وتنتصتُ الآذانُ له فتميزه وتُقْدِرُه، وتستنشقُه الآنافُ فتُعْطِرُه، وتستذيقُه الشفاهُ فتستسيغُه، وإلى البطونِ تُمْطِرُه، وترتشفُه الألسنُ فتستلذُّه وتشكرُه، ويحدُسُه الفؤادُ فيهواه، حتى يصطفيه ويرضاه.
وأما المدادُ فقسمةُ الله متحديًا به خلقه حيثُ النوافد، وأداةُ تدوين الفرائد والشوارد، ومنبعه تحييد كل مارد، ولولاه ما عرف الناس أول المكائد والموائد، ولَغَابَتْ عن كل حيٍّ قصص وموارد، ولشاعت بينهم كل سوءات ومفاسد، ثم هم لا يدرون آنيتَها ومصيرها، وما إذا كان لذواتها شيءٌ مُسَانِد وسواعد، وإذن فليس المداد لدى الكتبة وأربابه بسائل ذي ألوان، أو نائل به لا يستهان، أو لوازج تمتطي الآسر الولهان، بل هو نفس وروح ودم وشريان.
ثم إن البَيْنِيَّةَ الوسطى مقصودةٌ في ذاتها ولذاتها، ألا ترى أن الزمردةَ توسَّطت عقدَها، وأن الفؤادَ انتصافُ القلبِ، وأن الكعبةَ قد شطرت الأرضَ وتمركزت في وسطها .. فكذا يأتي أيُّ مُؤلَّفٍ في حينه، ليقتدرَ لنفسِه العلائيةَ الناضجَ قرينه، ويضحى كمن نظر إلى السماءِ ولم يرَ سوى الثَّاقِبِ في سَـحَرٍ حالك، وإذا بكل تائهٍ يستدلُّ به اتقاءَ المهالك، وإن كانَ في عمومِه غير سابق، فقد انمازَ من كلِّ لاحق
ولهذا اتصف نظراؤه أشياعًا وَزُمَرًا وفُرَادَى بالرمادِ المُدْقِع؛ إذ لم يعد لهم قدرُ ذرٍّ من نفع، وبات كلامهم معادا مكرورا، وسَيْطَرَ التقليدُ والتغريبُ والتمريكُ على دواخلهم، ومن قبلُ كانت خوارجهُم سوءا مدحورا، فإذا نظرت في مكتوباتِهم أُصِبْتَ بالغثيان والقيئات، ولم تحتمل أن تعودَ بصيرا، فلسانهم اجتهل، وبيانهم اغتهل، وصارت معانيهم رمادا تذروه الرياح، وكان الله على ذلك ساخطا، ونبيه غضبان أسفا، فبئسما خلفتموه ولم تتبعوه، وهو أفصح الناطقين الضاد قاطبة بيد أنه من قريش .يا صاح !! نحن نعيشُ في زمنٍ تحارَبُ فيه العربيةُ الفصحى من العُرْبِ قبلَ الغَرْبِ، وباتت تصارعُ أمواج العامية، وتكافحُ أعاصيرَ الفرانكية، وتجابه سيولَ الإفرنجية، واتهمت بالبهتان.
مُدَاعَبَاتٌ في طَرِيقِ الإِبْدَاعِ
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة