كسوف الشمس.. وعبادة التفكر

منوعات
طبوغرافي

كسوف للشمس لمدة ساعتين.. الجمعة 20 مارس 2015م في تمام الساعة الحادية عشرة صباحًا وحتى الثانية عشرة والنصف ظهرًا.. يعنى وقت صلاة الجمعة.. ومن الجدير بالذكر أن هذه الظاهرة تحدث لأول مرة منذ 16 عاما.. 

كنتُ جالسة أنظر إلى شمعة مشتعلة، وأدقق النظر في لهبها الذي يخرج متساويًا مرة ومتفرقًا على شكل ألسنة مرة أخرى، وبعد فترة من التفكير وشرود الذهن مع هذا اللهب، وجدت الشمعة تتآكل شيئًا فشيئًا.. ثم نمتُ على هذا المشهد.

 

وفي الصباح وجدتُ الشمعة قد فنيت وانتهت وذهب ضوءها، ولكن ما زال مشهدها يتراءى في خاطري، وارتفاع لهبها الذي لا يتجاوز عدة سنتيمترات، حتى رأيتُ قرص الشمس يطلع من جهة المشرق، مرسلاً أشعته الذهبية التي تتراقص لها أوراق الشجر والزروع، وتميد معها الغصون والورود.

 

فجلستُ أحدث نفسي: لقد فنيت الشمعة، ولن يمكن إشعالها، أما هذه الشمس ففي كل يوم تشرق، وتضيء العالم كله، وليس حجرة صغيرة مثل حجرتي، وبدأتُ أطرح على نفسي الأسئلة: هل يمكن أن نصبح يومًا بلا شمس؟ وماذا نفعل لو حُجبت عنا أشعة بما تحمله من دفء وضوء وطاقة؟!

 

وهذا سؤال أطرحه على العلماء وعامة الناس، ماذا يحدث لو أن الله أراد أن يقف القمر أمام الشمس ولا يتحرك، فهل من أحد يستطيع أن يحرِّكه من مكانه؟! {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71]. فهل ستنفعنا وقتها كل الاختراعات الحديثة؟! سبحانك يا الله! يا من نقف أمام قدرتك عاجزين موقنين بعظمتك جل شأنك!!

 

وفي هذا الوقت تذكرتُ أني قرأتُ في كتاب "الله والعلم الحديث" أن ألسنة النار التي تتصاعد من السطح الخارجي للشمس تقدر بـ (500 ألف) كيلومتر!! فهل يمكن أن نتخيل حينئذٍ مقدار الوقود الذي تستهلكه الشمس؟ وهل تدرك مخيلتنا شدة اللهب المنبعث منها؟!

 

عبادة التفكر

 

وهل يمكن أن نتوقع ماذا سيحدث لو اقتربت قليلاً من الأرض؟! بالطبع لا يسعنا إلا أن نقف أمام خلق الله الجليل {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} مرددين: سبحان الله العظيم! ونقول: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}!!

 

تلك الشمس الهائلة، مَن يستطيع أن يطفئ نارها أو يحجب عنا ضوءها إلا صاحب القُوَى والقُدَر، والإرادة التي لا يشوبها عجز أو ضعف، المتصرِّف في شئون الكون، والمالك ما فيه من الآيات البينات.

 

ومن الجدير بالذكر كسوف الشمس السابق قد حدث يوم الثلاثاء 4/ 1/ 2011م، وشاهد العالم حدثًا كونيًّا مهيبًا، وإحدى آيات الله في الكون، التي تحدثُ في وضح النهار، وظهرتبارزة جلية لكل ذي عينين، وفيها الكثيرُ من العبر والأسرار، فهل مرت علينا مرور الكرام؟

 

وها هي فرصة الموسم قد حانت، فاغتنموها؛ لأنها لا تتكرر كثيرًا، ونحن لا ندري هل سنعيش لنشاهدها مرة أخرى أم لا، فهيا لا تفوّتوا الفرصة، وهلمُّوا إلى طاعة الله واتباع سنة نبيه في صلاة الكسوف.

 

ألا ترى معي أنك إذا ذهبتَ إلى صلاة الكسوف في جماعة، فسيكون لك أجر الاجتماع لذكر الله، وستحفك الملائكة أنت ومن معك، بل هناك الأكثر من ذلك، سيذكرك الله فيمن عنده، الله العزيز الجبار المتعالي، ذو الجلال والإكرام، يذكرك أنت فيمن عنده.

 

والمسلم الفطن لا يقف عند مجرد رصد الظاهرة، وإنما يستثمر كلَّ لحظة في التفكر والشكر والعبادة، وقد سُئل أحد علماء العلوم الطبيعية، وهو الدكتور "تشارلسن ستاينمتز": ما نوع البحث الذي سيحظى بأعظم تقدم في النهاية؟

 

فأجاب: "ستحدث أعظم الاكتشافات في النواحي الروحية، فسوف يأتي اليوم الذي يتعلّم فيه الناس أن الأشياء المادية لا تجلب سعادة، وأنها قليلة النفع في جعل الرجال والنساء أقوياء قادرين على الإبداع، وعندئذٍ سوف يحوِّل علماء الدنيا معاملَهم إلى دراسة الله والصلاة، وعندما يأتي هذا اليوم، سيشاهد العالم في جيل واحد من التقدم أكثر مما شاهده في الأجيال الأربعة السابقة".

 

وما أحلى أن نحرص على سنة صلاة الكسوف، فوقت الكسوف وإن كان يسيرًا، لكننا سنجني من ورائه خيرًا كثيرًا، فعطاء الله لا ينفد، وسيبارك لنا في كل أوقاتنا.

 

فهيا إلى هذه العروض الخاصة، هيا نغتنم هذا الموسم، هيا لنحيي تلك السنة التي غفل عنها الكثير من الناس، هيا لننشر فكرة صلاة الكسوف بين كل معارفنا وأصدقائنا وذوينا، فيكون لنا ثواب إحياء سنة، والدالّ على الخير كفاعله.

 

فهل تتخيل أنه يمكنك الحصول على ثواب مائة شخص مثلاً يمكن أن تشجعهم أو تصطحبهم إلى صلاة الكسوف؟! أليست هذه هي التجارة الرابحة؟! إذا هيا نتاجر مع الله في يوم الكسوف.

 

صلاة الكسوف

 

الكسوف في اللغة:

 

التغير إلى سواد، ومنه كسف في وجهه، وكسفت الشمس: اسودت وذهب شعاعها. قال في الفتح: والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر، واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح. ويأتي في الأحاديث النبوية استعمال كلمتي الخسوف والكسوف مع الشمس، وهما بمعنى الكسوف.

 

ما يستحب عمله في يوم الكسوف:

 

* الدعاء وذكر الله والاستغفار: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا الله وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ" [متفق عليه]. وفي رواية: "عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ" [متفق عليه].

 

* التعوذ بالله من عذاب القبر: "... ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" [متفق عليه].

 

* الصدقة: قال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "... وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا" [متفق عليه].

 

* العِتق: وإذا لم يكن في هذا الزمان رقابٌ تُعتق، فيُعمل بالأولى وهو عتق النَّفس مِن الإثم، ومِن النار، والإنسان عبدٌ لربِّه فليسارع ليحرِّر نفسَه مِن عبوديَّة الهوى والشيطان، ولعل هذه المناسبة تعيد العقول إلى أصحابها فيتخلون عن الآثام والمعاصي؛ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: "لَقَدْ أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ" [البخاري].

 

أحكام صلاة الكسوف:

 

* صلاة الكسوف سنة مؤكدة؛ لأمر النَّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها في قوله: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا" [متفق عليه].

 

* هي ركعتان، تُصلَّى جهريًّا، سواء كانت بالليل أو بالنهار، وفي كل ركعة قراءتان وركوعان وسجدتان.

 

* تكون الركعة الأولى أطول مِن الثانية.

 

* ينادَى لها "الصلاة جامعة" بلا أذان ولا إقامة.

 

* تصلى جماعة في المسجد: فالأولى أن تكون في المسجد وجماعة، وهذا لا يتعارض مع الندب لأداء النوافل في البيت، فإن هذه الصلاة مما تشرع فيه الجماعة، فصار أداؤها في المسجد خيرا من أدائها في البيت. وإن كان لا يمنَع مِن أن يصلِّيها الناس في بيوتهم أو في مقار عملهم فرادى أو جماعات.

 

* صلاة النساء في المسجد: يسنُّ حضور النساء إلى المساجد لأداء الصلاة، ويجب التخلي عن الطيب والزينة في كل خروجٍ لَهُنَّ.

 

* رفع اليدين في الدعاء.

 

* الخطبة بعد الصلاة: من السنة بعد الصلاة أن يخطب الإمام بالنَّاس– والأصح أنَّها خطبة واحدة، وهو مذهب الشافعي-، يذكِّرهم باليوم الآخر، ويرهِّبهم مِن الحشر والقيامة، ويُعلِّمهم بحالهم في القبور وسؤال الملكين.

 

* بداية الصلاة ونهايتها: من السنة أن يبدأ الناس بالصلاة أول وقت الكسوف، ويستمر الوقت إلى نهاية الكسوف، فإذا انتهى الوقت لم يشرع أداء الصلاة لانتهاء السبب وخروج الوقت؛ قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: والمقصود أنْ تكون الصلاة وقت الكسوف إلى أنْ يتجلى فإن فرغ مِن الصلاة قبل التجلي ذَكر الله ودعاه إلى أنْ يتجلى، والكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى بحسب ما يكسف منها فقد تكسف كلها وقد يكسف نصفها أو ثلثها فإذا عظم الكسوف طوَّل الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلك. [مجموع الفتاوى (24/260)].

 

* تُدْرَك صلاة الكسوف بالركوع الأول مِن الركعة الأولى، وعليه: فمن فاته الركوع الأول فعليه قضاء الركعة.

 

في الشمس.. عبر وعظات

 

إن التدبّر في ملكوت الله يزيدنا قربًا منه سبحانه، ومعرفة به تبارك وتعالى، ونرجو أن نكون ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}. ولقد نظر إبراهيم –عليه السلام- في الكون، وظل يبحث عن إله هذا الكون، ويتأمل ويدعو حتى هداه الله إلى الحقيقة.

 

وعرف أنَّ خالق هذا الكون هو الله، الذي يرانا ولا نراه، والذي بيده ملكوت كل شيء، فكان التأمل هو سبيل الإيمان والنجاة؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.

 

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 75-79].

 

ولو تأمل الذين يعبدون الشمس في ظاهرة الكسوف قليلاً لتبينوا حقيقة جهلهم، ألا يقولون مثلما قال سيدنا إبراهيم: لا أحب الآفلين. وكما يقول أدنجتون: "إن من وراء هذا الكون عقلاً مدبرًا حكيمًا، هو الله سبحانه وتعالى".

 

تذكر -وأنت ترى ظاهرة الكسوف- يوم القيامة حيث تكور الشمس، وتنتهي الحياة على سطح الأرض، وينادي الملك الجبار: {لمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ فلا يجيب أحد، فيقول جل شأنه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، وتقف أمامه ترجو عفوه، وتطمع في مغفرته ومرضاته.

 

ألا تستعد لذلك اليوم، ألا تغتنم يوم كسوف الشمس، وتعتبره موسمًا للطاعة والتوبة والإنابة إلى الله؟ لا تدع الفرصة تفوتك، وعلى الأقل صلّ صلاة الكسوف فتكون قد أحييت سنة هجرها كثير من الناس.

 

فالفرصة متاحة أمامك يوم الأربعاء 29-3-2006، واعلم أن اليوم عملٌ بلا حساب، وغدًا حساب بلا عمل {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.