بقلم المخرج / عبد الرحمن سامى
كنت جالسًا أنا وصديقي الحبيب وزميلي في العمل الأستاذ -أحمد رشدي- المشهور بيننا بخفة ظله وروح المداعبة، كنا نتجاذب سويًّا أطراف الحديث، ولكن في هذه المرة كان ليس على عادته فقد كان يبدو عليه الحزن والأسى... فقلت له: ((مالك خير يا أستاذ أحمد أنت مش على طبيعتك النهاردة؟!! ))... فرد علىّ بصوت خافت مليء بالحزن وكادت الدموع تتساقط من عينه، وأخذ يقص عليِ ما جعله على هذه الحالة: تخيل !!!
تسكنُ فى الغرفة الموجودة على السطح.. الحاجة - فضيلة - سيدة مسنة بلغت من الكبر عتيًّا، فهي أقدم ساكن فى العمارة ... كانت تسكن في الدور الأول في الشقة المقابلة لنا، وبعد وفاة زوجها وزواج ابنها الطبيب من سيدة ثرية، حيث انتقل معها إلى فيلتها الفخمة الضخمة في أحد أحياء مصر الجديدة، وإصابتها بأمراض الشيخوخة، انتقلت إلى غرفه على السطح. كنتُ أعتبر الحاجة فضيلة في مقام أمي وكنت أسعد بطلتها، وعلى مدار ما يقرب من عشر سنوات لم أرَ منها إلا كل خير.
كنا ننتهز الفرصة أنا وزوجتي لزيارتها لنقوم على خدمتها وراحتها، وتلبية رغباتها من مشتريات، وتنظيف غرفتها، وترتيبها.
كان لا يأتيها ابنها إلا فى كل يوم جمعة، في زيارة خاطفة، فكانت تشتكي إلى الله من هجره لها، ونسيانه لمن سهرت علي راحته، واهتمت بأمره.
لكنه سرعان ما رد لها هذا الواجب ولكن بالضد تمامًا، حيث هجرها وأطاع أوامر الزوجة الثرية.
اعتدتُ كل شهرين أن أسلم الحاجة "فضيلة" صورة من فاتورة المياه، فكانت تشكرني بابتسامتها الرقيقة المغلفة بالحزن الدفين فى عينيها، وفي إحدى المرات فضفضت لي وأنا أقف على باب غرفتها، وشكت لي وجعها الكبير ، وفتحت لى قلبها العليل، وتساءلت وكأنها تتحدث مع نفسها: كيف يتركني ابني وحيدة وأنا في هذه السن أعيش وحدي؟ هل كل هذا من أجل زوجته؟...
كيف يتركني قلبي الذي أحيا به ومن أجله؟ ... كيف يتركني شمسي وقمري الذي رفضت أن اتزوج بعد وفاة والده منذ ثلاثين عام؟ ... لماذا لا يعتبرني حتى (الشغالة)؟
رجوت منه كثيرًا أن أعيش معه، ولا أريد سوى السرير الذى سأنام عليه .. ولن أتدخل أبدًا في حياته الزوجية، ولا حتى أقوم بتربية أحفادى الذين حرمت منهم ... ولكنه لا يسمع ولا يشعر بما ألاقيه من عذاب، كانت تتكلم والدموع تنهمر من عينيها، حاولت أنا أن أخفي دموعي حتى لا تراني وأزيد من حزنها، واستأذنتها فى أن أكلمه ولكنها رفضت بشدة، قالت لي: ابني فظ غليظ القلب ومن الممكن أن يهينك، ابنى أصبح أسيرًا لزوجته، اتركه يابنى لعله يرق قلبه، فيعود في يوم من الأيام!! فأنا أنتظره بفارغ الصبر، ليته يعود قبل أن أموت، ووصيتي إليك يا بني إن أنا مت أن تسلمه هذه الأمانة ، وأعطتني صندوقًا خشبيًا.
ومن قرابة الأسبوع ذهبت إلى بلدتي في الصعيد لأزور أهلي، ورجعت بعد خمسة أيام، وذهبت لصلاة الجمعة وعند عودتي شممتُ رائحة كريهة، فظننتُ أن أحد السكان كالعادة ألقى بزبالته، خرجتُ مسرعًا من باب شقتي أنا وزوجتي لأن الرائحة كانت شديدة للغاية آتية من أعلى.. اجتمع الجيران وتيقنّا أن الرائحة قادمة من غرفة الحاجة فضيلة، صعدنا إليها على الفور وطرقت الباب فلم تُجب، فقررنا كسر الباب، حيث كانت الصدمة القاتلة ... الحاجة فضيلة ملقاة على سجادة الصلاة جثة متحللة - يا الله ... يا الله ... يا الله ... ماتت الحاجة فضيلة على سجادة الصلاة ... ماتت ولن أسمع صوتها مرة ثانية ... ماتت ولن أسعد بطلتها أبدًا ... عاشت وحيده وماتت وحيدة، وابنها بعيد عنها على قيد الحياة. اتصل أحد الجيران بالشرطة والإسعاف، وعلم ابنها الذي جاء مسرعًا.
وحُرر محضر ملخصه: ماتت السيدة فضيلة بسبب أمراض الشيخوخة، ولم يعلم أحد بموتها لأنها كانت وحيده في منزلها.
حملنا ما تبقى من الحاجة فضيلة وابنها صامت لا يتكلم، فتذكرتُ وصيتها، وذهبت مسرعاً إلى شقتي وأحضرتُ وصيتها (الصندوق الخشبي)، وكنت مرتبكًا، فسقطت ووقع الصندوق من يدى وتبعثر ما فيه، تخيل ماذا كانت وصيتها؟ ماذا كان في الصندوق؟ كان الصندوق مليئًا بذكرياتها مع ابنها، فكانت قد احتفظت بكل صورها معه، احتفظت له بكل ذكريات الطفولة والتدليل، وصور أعياد ميلاده، وصورها معه فكل لحظة سرور واطمئنان، ثم امتدت يدي لتلتقط خطابًا كان ملقى وسط الصور من باب الفضول، قرأت الكلمات القليلة التي كان يحتويها، وكانت: "ابنى حبيبي اكتب لك وأنا أحملُ فى قلبي المريض الآلام والأوجاع من هجرك لي ... فلم ولن تجد أحدًا يحبك مثلما أحببتك، فزوجتك التي تكرهني – ولا أعرف سببًا لذلك – إن مرضتَ ربما تتركك وتتزوج بغيرك، وقد تخلعك إن تبدل حالك، فلن تجد لك سندًا غير الله ثم أمك ... ولدى الحبيب كنت أنتظرك كل ليلة بجوار الباب على أمل أن تأتى وتجلس معي وأستأنس بك، ولدى الحبيب إذا وصلتك رسالتي هذه فاعلم أنى قد رحلت وأنا أدعو الله الرحمن الرحيم ألا يتركك أبناؤك وحيدًا كما فعلت معي، أدعوا الله ألا تعيش قصتي، فحياتنا قصة يا ولدى نسطرها بأيدينا، فاعلم يا ولدي أنه كما تدين تدان... أحبك يا ولدى..."
انتهى أحمد ولم أشعر إلا وأنا أجفف دموعي وأردد جملة كما "تدين تدان" ... وأمسكت بتليفوني واتصلت بإخواني جميعهم لأقول لكل واحد منهم: أنا ذاهب لزيارة أمي في قبرها، فمن يريد أن يطلب السماح والغفران من الله أن يأتي معي، وظللت أردد وأنا في طريقي الآية: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
من الحـــــــــــــــــياة الحاجة فضيلة
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة