رن جوال وحيد منبهً له أن هناك رسالة تقبع في انتظاره لعله يلقي عليها نظره، وليكنه كان غير قادرا على تحريك قدميه أو حتى فتح عينه من شدة التعب ... وتثائب في كسل رفع رأسه قليلاً فبدى شعره أشعث ومنكوش ذو القصة الغريبة مخضب بألوان غريبة.
نادى وحيد على أمه في عصبية وبصوت متقطع متحشرج يملأه أنين مبحوح لتُحضْر له الهاتف وفي عصبية أزاح وحيد يدها الممدودة له بعنف وقال: هوا في إيه يا ماما ... أنت مش شايفاني عامل ازاي؟ ... مش عارف أفتح عنيا وانت تقوليلي بنت البواب وام الخير!!! وعاد ليستكمل قرأه الرسالة ثم ترك هاتفه بجانب طفاية السجائر المضخمة بأعقابها على بجواره على السرير.
انسحبت الأم بهدوء ودموعها تملأ عينيها من رد فعل كانت أمه في الخمسينات من عمرها، متدينة تراعي الله في تصرفاتها احترفت الخياطة من أجل تحقيق رغبات وحيدها وحيد التي لا تنتهي، وكانت تذل نفسها لتحقيق ما في نفسه وتحرق نفسها لينعم بالسعادة وتهين نفسها لكي تكرمه ولم تشتكي لأحد منه يوماً بالرغم من قسوة قلبه... وكانت تخفى ذلك عن زوجها الرجل المسن المتوسط الحال المحافظ على لصلاة في أوقاتها داخل المسجد، يقيم الليل بالسنن والنوافل، دائم الدعاء لولده عسى أن يهدي الله ويربط عليه قلب أمه. اعتدل وحيد بصعوبة من وضعه وبتثاقل شديد قام بالاتصال بشخص ما: أيوه يا مان مفهمتش رسلتك .... معلش مش هقدر دلوقتي أنا واصل بعد الفجر ويدوبك لسه بغمض عنية جاتلي رسالتك ... وكمان أبويا مش راحمني نازل فيا سلخ ... طيب حاضر هترصف واجيلك كمان ساعة بالكتير.
كانت أم وحيد تجلس في صالة المنزل تقوم بتركيب أزرار الفستان وتقدم وحيد وهو مرتدي ملابسه الغريبة وشعره المنكوش وممسك بهاتفه المحمل متصل بسماعة أذن ... وقال لها: أم وحيد إيدك على كاشات عشان ورايا مشوار مهم ... التفتت إليه وهي تضع يديها في كيس نقودها وقالت: يا حبيبي أنت لسه ما نمتش كويس وما حطيتش حاجة في معدتك ... رد وحيد بدلال وهو يأخذ كل ما في داخل الكيس: يا شيخه هاتي ... وانطلق مسرعاً ورفع صوته بأغنية أجنبية معناها (دي حياتي وأنا حر).
وفي لهفة نادت عليه أمه وقالت: ما تتأخرش يا لولو ... والله صوتك حلو غني يا وحيد وخد بالك من نفسك يا حبيبي.
أنطلق وحيد من باب العمارة باندفاع وكان جسده يهتز لشدة إرهاقه وانهماكه في الأغنية التي كان يرددها بصوت مرتفع ... وفي لحظة أتت سيارة من خلفه مسرعة وصدمته صدمة قوية بالرغم من تحزير السائق له بصوت نفيره العالي ... ولشدة إرهاق وحيد وعدم تركيزه وصوت الأغنية التي كان يسمعها وترديده لها لم يسمعه صوت النفير ... طار في الهواء وسقط على رأسه وأخذت تنزف بشدة ... وتجمع الناس من حوله لإنقاذه ... وكان بينهم شاب يبدو على سمته أنه متدين ومثقف وحاول أن يلقنه الشهادة قبل أن يسلم روحه لبارئها ... ولكن لم يستجب وحيد وظلت شفتاه تتمتم بجمل غير مفهومة فقرب الشاب أذنه من فمه لسماع ماذا يقول فوجده يغني بصوت منخفض (دي حياتي وأنا حر) وأسلم روحه ... اعتدل الشاب في جلسته وقال: استغفر الله العظيم ... (يبعث كل عبد على ما مات عليه) صدق رسول الله.
من الحياة (غنِّ يا وحيد)
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة