من سنن الله تعالى أنه لا يمنح توفيقه لمتواكل أو متكاسل أو متسلق على أكتاف الغير،

الشارع المصري
طبوغرافي

من سنن الله تعالى أنه لا يمنح توفيقه لمتواكل أو متكاسل أو متسلق على أكتاف الغير، بل يمنحه سبحانه وتعالى لمن بذل الجهد والعرق وأخذ بكل الأسباب البشرية المتاحة ليصل إلى هدفه المنشود وغايته المرجوة، فبعد أن يستنفد المسلم كل وسعه ويبذل كل جهده ويأخذ بكل أسباب النجاح وتحقيق الهدف...هنا فقط يأتي العون الإلهي ليمنحه التوفيق والرشاد والهداية والحماية والرعاية حتى يصل لمبتغاه.

هذا واحد من أهم دروس رحلة الهجرة المباركة وأعظمها، فعندما أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، كان يعلم – يقينًا- أن هذه الخطوة ليست سهلة، وأنها محفوفة بالمخاطر، كما علم أيضًا بما تدبره قريش لقتله، لذا- وفي ظل هذه الوضع الحرج- بدأ صلى الله عليه وسلم في وضع خطة محكمة للخروج من مكة، في واحدة من أجلّ ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة، واضعًا في حسبانه كل الاحتمالات حتى لا تعلم قريشٌ بأمر خروجه ولا وقتَ هذا الخروج، ويمكن القول بأنها كانت خطة سرية إلى أقصى حدٍّ، خاصة أن المشركين كانوا قد وضعوا كل تحركاته تحت الرقابة الصارمة..

وكل هذه المعاني القيمة والمهمة لم يكن للأمة أن تتعلمها لولا إلهام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ما اتخذ في رحلة الهجرة من خطوات مدروسة وتخطيط محكَم، وكان من عناصر هذا التخطيط:

-اختيار رفيق الرحلة: وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان دائمًا ما يتعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيستمهله رسول الله قائلاً: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا".

- دقة تحديد مكان الاختباء: فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدرك أنه لن يستطيع أن يخرج مرة واحدة إلى المدينة، وكان يتوقع أن تطارده قريش بعد أن تكتشف أمر خروجه، فكان لابد من تحديد مكان ينتظر فيه حتى تكف قريش عن طلبه والبحث عنه، فكان اختيار غار ثور، ولا شك أن اختياره لم يكن اختيارًا عشوائيًّا، بل تم اختياره وفقًا لما يتميز به من وسائل الاختفاء والأمن، فهو غار يقع في جبل ثور، تتوفر فيه عناصر الاختفاء والسرية والحماية.

-اختيار البديل لينام في فراشه: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا ترصد تحركاته، وترقب داره، خاصة بعد أن قرروا قتله، وكان يعلم أنهم يتحينون فرصة نومه، وقد جاءه جبريل، فقال له: "لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه"، وهذا من العون الإلهي، فاختار على بن أبي طالب لينام في فراشه، مُطَمْئِنًا إياه بأنه لن يصل إليه مكروه منهم.

- اختيار الدليل: فكان لابد من اختيار دليل يكون على معرفة دقيقة وثيقة بدروب مكة ومسالكها حتى يتمكن من سلوك طريق آمنة وغير معهودة لأهل مكة، تحسبًا لتعقب قريش لهم، وكان هذا الدليل هو "عبد الله بن أُريقط (أرقط) الدَّيْلي.

-إعداد الراحلة (وسيلة النقل): وكان أبو بكر عندما قال له رسول الله : "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا" طمع أن يكون رسولُ الله هو صاحبه في الهجرة إلى يثرب، فاشترى راحلتين، واحتبسهما في داره يعلفهما استعدادًا ليوم الهجرة المبارك، فلما أكد له رسول الله صحبته له في الهجرة، دفعهما إلى الدليل يرعاهما لميعادهما.

-ضرورة معرفة أخبار قريش: فكان لابد من وجود وسيلة إعلامية تنقل لهم أخبار قريش وتحركاتهم وما يدور في أنديتهم، ومعرفة ما ينوون فعله، حتى يتحسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل شيء قبل وقوعه.

-وسيلة الإمداد بالزاد: فكان لابد من تحديد شخص يقوم بحمل الزاد والطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه مدة إقامتهما في الغار، كما أنهما وقت خروجهما من الغار يحتاجان إلى زاد يكفيهما مدة الرحلة من مكة إلى المدينة، وقد وقع الاختيار على أسماء بن أبي بكر الصديق لتقوم بهذه المهمة الحيوية..

-تعفية آثار الأقدام: سيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في اتجاه الغار، ولا شك أن أقدامهما ستترك آثارًا على الرمال، ومن السهل التعرف عليها عن طريق قافة الأثر، وكان العرب يحسنون ذلك فأوكلت هذه المهمة إلى عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر الصديق، حيث كان يرعى غنمًا لأبي بكر في رعيان أهل مكة نهارًا بالقرب من جبل ثور، وبخاصة أنه يوجد في سفح الجبل بعض المراعي، مما يتيح له الرعي دون أن يثير وجوده في هذه المنطقة انتباه أحد، أو يشك أحد فيما يفعل، فكان يتتبع أثرهما وأسماء بنت أبي بكر الصديق بالغنم حتى يعفّىَ عليها، وبذلك يجعل منطقة الاختباء آمنة بعيدة عن الشكوك حتى يخرج منها رسول الله وصاحبه.

-دقة تحديد وقت الخروج إلى الغار وكيفيته: حيث لا بد من اختيار وقت غير مألوف حتى لا يراه أحد، فخرج وقت الظهيرة (في الهاجرة)، حيث شدة الحر والهجير ووقت القيلولة التي يمكث الناس فيها في بيوتهم، وبذلك يكون في مأمن عن أعين قريش، أو أن ترصده عين أحد المارة، كما أنه خرج متلثمًا (أو متقنعًا)؛ تحسبًا لوجود أحد في طرقات مكة قد يراه أو يتعرف عليه، حتى وصل إلى دار أبي بكر الصديق.

وإمعانًا في السرية لم يتحدث رسول الله مع أبي بكر إلا بعد أن تأكد أنه لا يوجد في الدار أحد من الغرباء أو الضيفان.
-لتأمين طريق الخروج إلى الغار، والابتعاد عن عيون قريش: سلك رسول الله وصاحبه طريقًا غير معهودة أو معروفة لمن أراد التوجه نحو يثرب وكان هذا من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن تخطيطه.

لقد كانت الهجرة حدثًا فاصلاً في تاريخ الإسلام، تمخض عنها قيام دولته في المدينة، وإرساء ركائز المجتمع الإسلامي على أساس من الوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس هذه الدولة، وقائد جيوشها، وكبير قضاتها، ومعلمها الأول.