قصة وفاء.. من الحياة

الشارع المصري
طبوغرافي

عفاف فتاة فى سن العشرين صالحة تقية.. تقوم إذا جنّ الظلام، ولا تدع ذلك لا شتاء ولا صيفا، طال الليل أم قصر .. لطالما سُمع خرير الماء فى هدأة السحر على أثر وضوئها... لم تدع صيام التطوع سواء أكان حضرا أم سفرا، أشرق وجهها بنور الطاعة ولذة الهداية...
تقدم إليها شاب يطلب يدها- قيل إنه تقى ومصلى ويخشى الله – وافقت عفاف عليه بعد الالتجاء إلى ربها لاستخارته.. وكان مما اعتاد عليه أهل مدينتها أن ليلة الفرح تبدأ فى الساعة الثانية عشر ليلا، وتنتهى مع أذان الفجر! ... ولكن عفاف اشترطت فى إقامة حفل زواجها “ بألا تدق الساعة الثانية عشرة إلا وهى فى منزل زوجها “ولا يعرف سر ذلك إلا والدتها” ... حاول أهلها تغيير رأيها فهذه ليلة فرحها التى لا تتكرر وقبل هذا يجب مجاراة عادات وتقاليد أهل بلدتها لكنها أصرت على ذلك هاتفة: إذا لم تلبوا طلبى هذا، فلن أقيم حفل زفاف! ... فوافقوا على مضض..

وفى اليوم الموعود زفت عفاف إلى عريسها الذى بُهر من النور الذى يشع ويتلألأ من وجهها الذى كساه الله من جمال الطاعة ونضارة المحبة وبهاء الصدق والإخلاص.. قاربت الساعة من الثانية عشرة واتجه العروسان إلى منزلهما ودخلاه.. ودخلت العروس غرفتها وانتقلت نظراتها السريعة بين أرجائها ورفعت بصرها.. وفجأة شد انتباهها شيء ما وعلى إثره تسمّرت فى مكانها كأن سهمًا اخترق حناياها حين رأت ما فى أحد زوايا الغرفة ... زاغت نظراتها... تاهت أفكارها... ها هو (العود) يتربّع فى غرفتها... إنه الغناء، بل إنها آلة موسيقية... اغتمَّت لذلك غما... اختلست نظراتها إلى زوجها.. ثم هتفت بحسرة: الحمد لله على كل حال ولا يعلم الغيب إلا الله.. أحنت رأسها وقد امتلأ خجلاً وحزناً... استدارت إلى زوجها ومشت بخطى قد أثقلتها المخاوف وكبّلتها الشكوك... تبادلا أطراف الحديث، ومضى الوقت يتلكأ حتى أوشك الليل على الانتهاء؛ دقت ساعة الثلث الأخير من الليل، واستسلم الزوج للنعاس وغط فى سبات عميق، وهرعت وفاء لمصلاها... تنبه الزوج من نومه وفتح عينه، ولم يجد زوجته بجانبه تلفت فى أرجاء الغرفة ونهض باحثاً عليها ربما غلبها الحياء وفضلت النوم فى مكان آخر، فتحت الباب فى سكون مطلق وظلام دامس فرأى وجهها يتلألأ فى الظلام فى مصلاها ... تعجب الزوج من زوجته وفاء التى لا تترك القيام حتى فى ليلة زواجها!... اقترب منها وهى راكعة ساجدة تطيل القراءة وتتبعها بركوع ثم سجود طويل رأى إنه أجمل منظر رأته عيناه إنها أجمل من صورتها بثياب زفافها... رفعت وفاء من سجودها ثم اتبعته سلام يمنة ويسرة، وعرفت ما يدور بخلد زوجها، فاحتضنت يده بقوة أشعرته بدفء يجتاحه، وبعد أن بادلته بنظرات محبة وهى متلفعة بجلبابها، ثم أتبعتها بمساحات على رأسه بيدها وهى مبتسمة ومجتهدة ألا تظهر شيئا ما يختلج فى صدرها... وهتفت فى أذنه وهى تعبث بالسجادة بأطراف أصابعها بيدها الأخرى: أحببت ألا يشغلنى زوجى حبيبى عن حبيبى الأول.. ربى وربك ورب العالمين نعم الحبيب الله ... سمع الزوج ذلك منها ولم يستطع أن يرفع بصره خجلا وذلة مما هو فيه... استمر الحياة على هذا المنوال وكان الزوج حينها فى غاية البعد عن الله يقضى الليالى السهرات والطرب والغناء، وعلى الرغم من معرفة وفاء بذلك لم تتفوّه بكلمة واحدة على العكس، كانت تستقبله مرحبة بأجمل عبارات الشوق وأسرته بحلاوة وطيب كلماتها وهدوء وحسن أخلاقها وتعاملها الطيب وحسن عشرتها؛ فأحببتها حبا ملك كل فؤاده... وفى إحدى الأيام عاد فى ساعة متأخرة من الليل من إحدى سهراته العابثة ووصل إلى غرفته فلم يجد زوجته، خرج وأغلق الباب بهدوء وتحسس طريقه المظلم متحاشى التعثر، وسمع همسا واقترب وفجأة سمع صوت جميل يتلو القرآن الكريم هزته تلاوتها للقرآن وترنمها بآياته... إنها وفاء تتلو القرآن وبعدها خصت زوجها بالدعاء قبل نفسها... فى تلك اللحظة لم يتمالك الزوج إلا دموعه وهى تسقط من عينيه وأحنى رأسه بين ركبتيّه... يجمع دمعاته الملتهبة وكأنها غسلت جميع خطاياه، وأخرجت كل ما فى قلبه من الفساد والنفاق، وخلال دقائق معدودة نادى المنادى حى على الصلاة .. حى على الفلاح . صلى الفجر كما لم يصلِ مثل تلك الصلاة فى حياته.. واستغفر الله ورجع إليه تائباً منيباً بفضل الله ثم بفضل هذه “ الزوجة الصالحة “ التى دعته إلى التوبة والصلاح بفعلها لا بقولها... وبعد سنوات أصبح هذا الزوج من أكبر دعاة المدينة المنورة... وكان يقول ويردد فى محاضراته عندما سُئل عن سبب هدايته: لى كل الفخر أنى اهتديت على يد زوجتى ولى كل العز فى ذلك ..