حسن الفهم: يقوم على الحوار

الشارع المصري
طبوغرافي

أول ما ينبغى أن تقوم عليه محاور الحوار هو: حسن الفهم، قال بعض الحكماء: رأس الأدب كله حسن الفهم والتفهم والإصغاء للمتكلم. فمما لاريب فيه: أن حسن الفهم مطلوب فى كل شىء، قبل البدء فى أى عمل حتى يكون السير فيه على بصيرة؛ لأن صحة التصور ضرورية فى صحة العمل والتصرف. ولهذا كان العلم فى الإسلام مقدمًا على العمل.

ومن هنا كان أول ما نزل من القرآن (اقرأ) ثم نزل بعد ذلك: ( يا أيها المدثر - قم فأنذر - وربك فكبر - وثيابك فطهر ) [المدثر: ١ – ٤]. فكانت القراءة وهى مفتاح العلم والفهم مقدمة على المطالبة بالأعمال.

ونعنى ب‍(حسن الفهم)، حسن التعرف على حقيقة موقف الطرف الآخر، وذلك بأخذ هذا الموقف من مصادره الموثقة، أو من العلماء الثقات المعروفين، لا من أفواه العامة، ولا من الشائعات، ولا من واقع الناس، فكثيرًا ما يكون الواقع غير موافق للشرع.

وهذا ما فعله أبو الأنبياء –عليه السلام- فى حواره مع (النمروذ)، فلما فهم النمروذ أن الإماتة هى القتل، والإحياء هو العفو، حيث أحضر رجلين من السجن فقتل أحدهما وعفا عن الآخر، وأوهم بهذا أنه نقض دليل إبراهيم، لم يشأ سيدنا إبراهيم أن يدخل فى جدل يكشف فيه المغالطة التى صنعها النمروذ الذى لم يفهم دليل إبراهيم، ولذلك انتقل إبراهيم إلى دليل آخر مماثل لا يستطيع النمروذ أن يغالط فيه فقال له: ( إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر) [البقرة: 258]
وهذا الحوار بين إبراهيم والنمروذ ينبهنا إلي ثلاثة أمور:
الأمر الأول: المستوي الثقافي لشخصية النمروذ، وخواؤه الفكري، وفقره الذهني، وسذاجة تصوره للحياة والموت، حيث أعمت بصيرته السلطة والنفوذ.

الأمر الثاني: التضاد في الآية كان علي مستويين: أحدهما التضاد الطبيعي بين الحياة والموت والمشرق والمغرب، والآخر التضاد علي مستوي الموقف، موقف المستند إلي المعلومات والسند العلمي المتين (ربي الذي يحيي ويميت)، وبين موقف من جعل نفسه ندًا لله تعالي مستندًا إلي الجهل والجبروت (أنا أحيي وأميت).

الأمر الثالث: لم يلتفت إبراهيم إلي إبطال مقالة النمروذ إيذانًا بأن بطلانها من الجلاء والظهور بحيث لا يكاد يخفي علي أحد، وأن التصدي لإبطالها من قبيل السعي في تحصيل الحاصل.