تناول إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، في خطبة الجمعة اليوم التركيز على العبادة ،مشيرا إلى أنها تزكي السرائر وتحفظها من العلل البواطن والظواهر.
وأكد الخطيب إلى أن العبادة ليست بكثرة الصيام والصلاة؛ وإنما العبادة بالاستقامة على أمر الله والورع عن ما حرم الله، والصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله، ومن اتعظ بخطوب الأيام أغنته عن خطب الأنام.
وقال الدكتور صالح : ان “كمائن القلوب تُظْهِرها المحن، والمؤمن أسير الحق، الإخلاص مطيته، والصدق محجته، وعلى هذا الطريق الأقوم يقف أعلام ورؤوس يثبتون في الشدائد والملمات، ويعتصمون بالحق عند الأزمات، ويَصْبرون ويبَصِّرون عند الفتن والابتلاءات، إنهم علماء الشرع المطهر، رفع الله قدرهم، وأعلى مقامهم، قائمون بالحق، متمسكون بالهدى، ثابتون على الجادة”.
وأضاف: “طاعة علماء الشرع مقرونة مع ولاة الأمر بطاعة الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عظم الله شأنهم، واستشهدهم على أعظم مستشهد: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، هم المرجع عند السؤال، وإليهم الرد عند الاستشكال، وإليهم المفزع في النوازل والفتن، والمدلهمات والمظلمات، وهم الملاذ في الأزمات، مجالسهم مجالس فضل وخير، تفيد العلوم والحكم، وتحفظ من الغفلة، استنبطوا أصول الأحكام، وضبطوا قواعد الحلال والحرام حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب”.
وأردف: “يقول الإمام أحمد رحمه الله: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه مرتين أو ثلاثاً؛ أما العلم فيحتاج إليه في كل وقت”.
وتابع: “بحسن تعليمهم يتخرج المتخرجون، وبجميل مواعظهم يرجع المقصرون، في حكمة مسالكهم تتجلى صلابة الإيمان وثباتُ المواقف في الخطوب والنوازل، هم سرج العباد، ومنابر البلاد. هم أولياء الرحمن، وغيظ الشيطان؛ حيث يقول الإمام الشافعي: “إذا لم يكن العلماء أولياَء الله فلا أعرف لله ولياً”.
وقال خطيب الحرم المكي: “العلم تركة الأنبياء، وَرِثَه الصحابة رضوان الله عليهم، ثم ورثه من بعدهم التابعون، وهكذا جيلاً بعد جيل إلى أن يشاء الله قبضه، ولهذا يقول عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله: كان الرجل من أهل العلم إذا لقي مَن هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمة، سأله وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه علَّمه وتواضع له، وإذا لقي من هو مثله في العلم ذاكره ودارسه. وإن من الجفاء أن يموت العالم ولم يؤخذ عنه العلم ولم يورث”.
وأضاف الشيخ “ابن حميد”: “من علامات توفيق الله حب أهل العلم، وذكرهم بالجميل، ودفع قالة السوء عنهم، وتوقيرهم، من غير ادعاء عصمتهم، أو عدم الرد عليهم عند أخطائهم؛ حب من غير تعصب ولا تعسف، ولا يصدنك حبهم أن ترى الحق عند من خالفهم، وأن حبهم من أجل ما خصهم به مولاهم من علم وصلاح وتقوى، وبما منحهم ربهم من فضل واستقامة؛ أما الحق فخذه أنى وجدته”.
وأردف: “من أعظم حقوق أهل العلم حفظُ الألسنة عن الوقيعة بهم، أو النيلِ منهم بالسيئ من القول والعمل؛ ذلك أن النيل منهم مما هم منه براء أمر عظيم، ونهش أعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم”.
ولفت إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أن أغلب ما يقود إلى الوقيعة في أهل العلم: الغيرةُ، والحسد، والهوى، والتعصب، والحزبية، والتعالم؛ ناهيكم بخطط الأعداء؛ بل إنه لا يقع في أعراض العلماء إلا ضال، أو جاهل، أو مغرض، أو متعصب.
وشدد على أن إضعاف دور أهل العلم يؤدي إلى عواقب خطيرة في حاضر الأمة ومستقبلها؛ وبخاصة مع هذه التطورات المعاصرة في وسائل اتصالاتها وتواصلها، وما تموج به من تيارات مضلة، وعقائد منحرفة، وأن بناء المجتمع يعتمد على علماء الشرع، ومشاركتهم، والرجوع إليهم، واحترامهم، وتقديرهم، وحفظ مكانتهم.. وإضعافُ دورهم إضعافٌ للمجتمع وإضعافَ مقاومته أمام معاول الفساد والإفساد والانحراف وأوحال الثقافات؛ مما يؤدي إلى الضياع، وفقدان الهوية، وتصدر الجهال.
وقال الشيخ صالح بن حميد: “هدم هيبة العالم وإضعاف مكانته؛ كسرٌ لباب عظيم يحول بين الناس وبين الفتن والفساد، وإن محاولة الوقيعة بين العلماء والأمة، والفصل بين الأمة وعلمائها هو من أعظم خطط الأعداء في الداخل والخارج؛ ففي كثير من بلاد الإسلام ما غاب أهل العلم ولكن غُيِّبوا، وماَ قصَّروا ولكن حُجبوا، وتصدر الجهال بل قد صُدِّروا، وأشد من ذلك أن يتصدر المجتمعاتِ أصحابُ اللهو والمجون”.
وأشار إلى أن العلماء ليس فيهم معصوم، ولا من الخطأ سالم، ويرد عليهم أخطاءهم أمثالهم ونظراؤهم من أهل العلم، وليس كل من عرف القراءة والكتابة تجرأ وخطَّأَ وصوَّب، والخلاف بين أهل العلم سنة من سنن الله.
وقال: “لا يجوز أن يُتخذ سبيلاً للحط من مكانتهم أو الانتقاص من قدرهم، مع ما يجب من التثبت في صحة ما يُنسب إلى العالم ومرادِه ومقصدِه، وليعلم أن هناك فرقاً كبيراً بين تخطئة العالم والرد عليه، وبين تجريحه والحط من منزلته، والإنصاف عزيز”.
وأضاف: “مَن يُدخلون أهل العلم في مسالك التصنيف؛ سيماهم التغريد من أجل التغرير، وأن من ابتُلي بتتبع الزلات، ودخل في التصنيفات؛ قسى قلبه، وجانب العدل والإنصاف مسلكه، وقلما يُكتب له التوفيق”.
وحذّر من الفرح حين السماع بخطأ عالم في فتيا، أو زلة في فهم، أو غلط في حكم؛ فضلاً عن أن الابتلاء بنشر ذلك، أو التفكه به في المجالس، أو التزين به في المجتمعات والمجموعات، أو بثه في التغريدات.
وأوصى الشيخ صالح بن حميد، أهل العلم بالحرص على سلامة العرض، والبعد عن مواطن الريب والشبه، وسدِّ الذرائع المفضية إلى التطاول عليهم، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها صفية) خير أسوة وأوضحُ منهج، وهو في وسط الصحابة الأطهار الأخيار، وأنه أعظم بالعالم وأكرم حين يكون قدوة في علمه وعمله وسمته وزهده وعفته وورعه، وتحري التثبت فيما يصدر عنه من قول أو رأى أو فتوى أو حكم، مع الترفع عن بعض المجالس، وما قد يكون فيها من استدراج أو تلبيس أو ملتبس، وما خاصَم ورعٌ قط، وإن عز العالم يكون بالعلم والتقوى ومعرفة السنن والعمل بها وتعظيمها وتعليمها، وفقه المسائل وشرحها؛ ذلك أن العالم يؤثر في الناس بقدر صلاحه وتقواه وعبادته وطاعته وإخلاصه.
خطيب المسجد الحرام : العبادة تزكي السرائر وتحفظها من العلل
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة