الحج : نداء إلى الإيمان بالله وتذكير بيوم البعث

العالم الإسلامي
طبوغرافي

حكم جليلة لعبادة العمر:

نداء إلى الإيمان بالله وتذكير بيوم البعث

زيارة بيت الله الحرام تأكيد لارتباط المسلم بحضارته وتاريخه، وسيره على نهج أنبياء الله ورسله

د.  أحمد عمر هاشم: شرع الحج للناس سياحةً لهم وتجردًا لله، وتهذيبا وتربيةً لنفوسهم

د. محمود صدقي: مؤتمر تربوي وتعليمي يمدّ الأمّة المسلمة بقدرٍ كبير من الفوائد والمنافع

في كل عام، تأتي فريضة الحج بمثابة مؤتمر تربوي وموسم تعليمي، يمد الأمة الإسلامية بالعديد من الفوائد والمنافع التي تنعكس آثارها ونتائجها على سلوك المسلم.

والحج هو العبادة المشتملة على معاني العبادات الأخرى، ففيه الطواف والدعاء الذي هو روح الصلاة، وفيه بذل المال وإطعام الفقراء الذي هو لب الزكاة، وفيه ضبط النفس وإمساكها عن الرفث والفسوق والجدال بما يمثل جوهر عبادة الصوم، وقبل هذا، وذاك هو رحلة روحية وعبادة جليلة، فيها العديد من المعاني والقيم.

جهاد الكبير والصغير

ويقول الدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء: شرع الحج للناس سياحةً لهم تجردًا لله، وتهذيبا وتربيةً لنفوسهم في طريقهم إليه سبحانه وتعالى، فقد روي أن رجلاً قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى»، والحج نوع من أنواع الجهاد، قال صلى الله عليه وسلم: «جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة»، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحج جهاد، والعمرة تطوع»، وللحج حكم جليلة، وهي على النحو التالي:

الفرار إلى الله

أولاً: صلاح القلب: ففي رحلة الحج ما يرسخ في قلب الإنسان معاني الفرار إلى الله واللواذ بالجناب الإلهي، قال تعالى: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ»، وهذا الفرار وإن كان قلبياً معنويّاً إلا أنه يترسخ بالأفعال الحسية، فالحاج يترك دياره وأهله وزينته وشهواته وما يملكه وراء ظهره، ويبذل من ماله وجهده متحملًا مشقة السفر والاغتراب، قاصدًا بيت الله الحرام، وهذا الحاج قصد الفرار إلى الله ليؤمنه في الدنيا والآخرة من عاقبة ذنوبه وتقصيره في عمره الذي فات.

ثانياً: تاريخ وحضارة: إذ في زيارة بيت الله الحرام تأكيد الارتباط المسلم بحضارته وتاريخه، وسيره على نهج أنبياء الله ورسله، فالكعبة المشرفة هي أول بيت وضع لهداية الناس إلى التوحيد وعبادة الله، وقد كان الأنبياء هم أولئك الهداة إلى توحيد الله وعبادته وشد الرحال إلى المواضع التي خصها الله تعالى بالطهارة والتقديس، فشد الرحال إلى هذا البيت الحرام هو توثيق لعرى الرابطة بين الإنسان والأنبياء لا سيما خاتمهم الأعظم عليهم جميعًا الصلاة والسلام.

ثالثاً: إعمار للأرض: إذ إن في حث الشريعة على الحج والعمرة وترغيبها فيهما دعوةً صريحة إلى ابتغاء الرزق الطيب والاكتساب، وذلك بالمشاركة في العمل والإنتاج والتنمية الاقتصادية وخدمة المجتمعات الإنسانية، فمن المعلوم أن تكاليف هذه الرحلة ليست بالشيء القليل، وكما يحتاج المسلم إلى زاد يكفيه في سفره للحج يحتاج أيضًا لتوفير زاد آخر يكفي أهله وعياله حتى يعود.

- رابعاً: شجاعة وتضحية: قال الله عز وجل: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»، فإن المسلم الذي فارق وطنه وبلاده وقصد البيت الحرام لهو إنسان وطَّن نفسه على الشجاعة، وبرهن على استعداده للتضحية بحياته في سبيل تلبيته نداء مولاه سبحانه، فقد كانت رحلة الحج قديماً محاطة بالكثير من المشقة والمخاطرة التي قد تودي بحياة الإنسان، وعلى الرغم من هذا لم ينقطع المسلمون عن زيارة البيت العتيق.

- خامساً: عبادة العمر: لما كانت هناك عبادة فردية بين العبد وربه «الصوم»، وعبادة جماعية على مستوى محلة السكن «الصلاة»، وأخرى على مستوى البلدة «الزكاة»، كان «الحج» عبادة جماعية على مستوى العالم أجمع، ولأجل هذا كانت هي العبادة المتممة والمشتملة على معاني العبادات التي تمثل أركان الإسلام، ففيها التلبية بتوحيد الله الذي هو أحد ركني الشهادة، وفيها أخذ المناسك عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يعني الإقرار برسالته، وهو الركن الثاني من الشهادة، وفيها الطواف والدعاء الذي هو روح الصلاة، وفيه بذل المال وإطعام الفقراء الذي هو لب الزكاة.

دروس مهمَّة

نتيجة-قرعة-حج-وزارة-السياحة-المصرية-2016

ويشير هاشم إلى أنه كثرت النصوص النبوية الشريفة في فضل الحج وعظيم ثوابه، منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه، وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفره غفر لهم.

ويؤكد الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء أن الناظر إلى فريضة الحج يرى أنَّ فيها دروساً مهمَّة للأمَّة الإسلامية، ومن هذه الدروس المساواة، وهي التي تتَجلَّى في الزِّيِّ والمظهر، وذلك في ملابس الإحرام، تلك الملابس التي يتَساوَى فيها الحجيج، ولا يمكن أن يتميَّز فيها إنسانٌ عن آخَر، ولا يمكن أنْ تكون هناك فَوارق في هذا الزِّيِّ الموحد بين الغنيِّ والفقير، ولا بين الرئيس والمرؤوس، وهذه المساواة التي هي من دُروس الإحرام لا يشعُر فيها إنسانٌ بأنَّه أفضل من الآخِر، وإنما الأفضليَّة والتمييز بتقوى الله فقط.

معاهدة سلام

ويصف الدكتور محمود صدقي باحث شرعي بالأزهر الحج بأنه مؤتمر تربوي وموسم تعليمي يمدّ الأمّة المسلمة بقدرٍ كبير من الفوائد والمنافع التي تنعكس آثارها ونتائجها على سلوك الإنسان المسلم، خاصة في هذه الظروف التي تمر بها الأمة ولعل من أبرز الأبعاد السلوكية لفريضة الحج تتمثل في تربية المسلم على تعظيم حرمات الله جل وعلا فعلى المسلم الذي قدّر الله له الحج أو العمرة أن يعظم حرمات الله وأن يعرف لهذه المشاعر حقها، وأن يعلم أنه بدخوله الديار المقدسة إنما يدخل في معاهدة سلام مع الوجود كله، إلى جانب تحقيق معنى الإخلاص الكامل لله وحده لا شريك له وهو ما تغرسه فريضة الحج في المسلمين، فالحاج عندما يقصد هذه الديار المقدسة يتجرد من كل الأغراض الدنيوية والغايات الحياتية، إلا غاية واحدة، وهي طاعة الله تعالى والامتثال لأمره سبحانه، وهذا فيه بُعدٌ سلوكي تربوي يتمثل في أهمية تربية النفس البشرية على إخلاص النية في مُختلف الأقوال والأعمال فرديةً كانت أو جماعية، والتجرد لله رب العالمين.

ويقول: ومن الأبعاد السلوكية لفريضة الحج تدريب النفس البشرية على الالتزام بالنظام والانضباط السلوكي والبُعد عن الفوضى، والحرص على إتباع إرشادات السلامة، والمشاركة الفردية والجماعية في التنظيم، والحرص على التوعية الشاملة الصحيحة التي تكفل بإذن الله تعالى لكل من التزم بها أداءَ شعائر الحج ومناسكه أداءً سليماً. فقد منع كلّ أساليب تعكير صفو الأمن خلال أداء المناسك، كالكذب والجدال والفسوق، وفي هذا بُعدٌ تربويٌ تنظيمي سلوكي يربي النفوس على الدقة والنظام، والأخلاق الحسنة والحرص على الصالح العام.

ويؤكد أن الحج يربي المسلم على حسن التعامل مع إخوانه الذين تربطه بهم رابطة الأخوة الإيمانية المتمثلة في قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وفي هذا بُعدٌ تربوي أخلاقي يفرض على الحاج أن يحسن التعامل مع إخوانه، وأن يتخلق معهم بالأخلاق الحسنة، وأن يُحسن مصاحبتهم ومعايشتهم، وأن يتحمل ما قد يحصل منهم من أخطاء أو نحو ذلك بأن يتعامل مع الموقف في حدود وضوابط الأخوة الإيمانية التي جمعتهم في هذه البقاع الطاهرة ضيوفاً للرحمن.