للكاتب الفرنسي الشهير جي دي موباسان (1850 ـ 1893 ) ، قصةٌ قصيرة بعنوان " مذكرات مجنون " ، تدور حول رجلٍ قضى نحبَه وهو يشغل أرفع مناصب القضاء، بعد أن أمضى حياته كلَّها يتعقب المجرمين وينصر الضعفاء ويقتص من الظالمين للمظلومين . ثم حدث بعد ذلك ما لم يخطر ببال أحدٍ أبداً ؛ لقد وجدوا رُقعةً عجيبةَ الشأن ، أذهلتْهم وكادت تذهب بألبابهم ؛ كان ذلك القاضي النزيه العدل يحتفظ بها في الملف الذي يسجل فيه مذكراته الجنائية .
وخلاصةُ هذه المذكرات العجيبة أن الرجلَ الذي كان يميت بكلمة منه ويُحيي ؛ شغلته كثيراً فكرة الحياة والموت ، وأراد أن يتبين سرَّ الوجود والعدم وحكمة البقاء والفناء . وكان يتساءل في حَيْرةٍ بالغة : ما معنى الحياة ؟ وما هذا الشيء المبهَمُ الخفيُّ الذي يحرك المرء ويحفظ وجودَه ؟ لماذا يتناحر الناس ويتحاربون ويُفني بعضُهم بعضاً ؟ ولماذا يتلذذ فريقٌ منهم بسفك الدماء وإزهاق الأرواح ؟ وما المنفعةُ التي تجنيها الحياة من وراء ذلك الصراع الوحشيِّ الدامي بين الكائنات الحية جميعِها ؟
وسوَّلت له نفسُه أن يجرِّب ذلك بنفسه ، وصوَّر له شيطانُه الرجيم أنه ليس ثمة لذةٌ أبدع من أن تجيء برجلٍ شديد البأس صعب المِراس ، ممتلئٍ شباباً وفتوة ، فتشك حشاه شكةً وشيكة ، وتشق صدره شقةً صغيرة ، فلا تلبث أن ترى الدم بنبجس من صدره دفَّاعاً طافحاً دافقاً ، وإذا هو كتلةٌ مسترخيةٌ من اللحم جامدةٌ باردة ، خاليةٌ من كل شعورٍ وفكرٍ وحاسَّة !ولقد عجز تماماً عن مقاومة هذه الشهوة السوداء، وتمكنت فكرة القتل في خاطره حتى أسكرتْه ، وبدأ جرائمَه البشعةَ المنكرةَ حين أمسكَ بعصفورٍ لخادمه المسكين ، وبدا له بعد أن رأى قلبه الصغير يدق ويخفق ، أن يخنقه ويطفئ شعلة الحياة في جسده ، ثم تراءى له أن يمتِّع بصره برؤية الدم الأحمر الدفاق ، فتناول مقصاً صغيراً ، وأقبل على الطائر الضعيف يقطع حبل وريده ، فانبجس الدم قانياً مدراراً ، ثم غسل يده ، وأخفى آثار فَعلته ودفن ضحيته تحت شجرة ، ونام ليلته هادئ البال مستريح الضمير .. وكأن شيئاً لم يكن !
لكن لا بدَّ من إعدام إنسان . هكذا حدثتْه وساوسُه. ونفَّذ فعلاً ما أراد ؛ فقد خرج ذات يومٍ ليتنزه في إحدى الغابات ، فإذا به يلمح طفلاً صغيراً يمشي وحده ، فأقبل عليه فجأةً وأمسك بعنقه ولم يتركْه إلا بعد أن أجهز عليه، ثم ألقى جثته في غَورٍ سحيق ، وعاد إلى بيته جذلان فرِحاً ، فأكلَ أكلاً لمّاً وشربَ شرباً جمّاً . ولما عثروا على جثة الطفل ، ولم يتمكنوا من معرفة قاتلِه الملعون ، حفظ ذلك القاضي نفسُه الحادثةَ وقيدها ضد مجهول !
وفي يومٍ آخر كان يسير بالقرب من شاطئ النهر فرأى أحد الصيادين نائماً تحت ظل شجرة ، وكان السكون يشمل المكان كلَّه ، ولمح فأساً في حقلٍ مجاور ، فلم يكن منه إلا أن أخذها وأهوَى بها على جمجمة ذلك الصياد البائس فهشَّمها تهشيماً ، ثم عاد أدراجَه على مهَل وهو يحدِّث نفسَه : يلُوح لي أني لم أُحسن اختيار مهنتي . إن وظيفة القضاء ليست لمثلي وكان أولَى لي أن أكون قاتلاً ، فإني والله نعم القاتل السفاك . واتجهت أصابع الاتهام إلى ابن أخي الصياد ، وكان هو آخر من قابل القتيل قبل مصرعه . ولم ينفعْه قسَمُه بشرفه أنه بريء ، ولم يُنقذْه من الإعدام شنقاً أن قاضيَه يعرف القاتل الحقيقي ، فنُفِّذَ الحكم ، وتدلَّى الفتى البريءُ من المِشنقة ، ووقف القاضي الآثمُ يتفرج عليه فرحاً مسروراً !!قد يُنكر بعض القراء هذه القصة ، ويرَون فيها مبالغةً لا أصل لها ، ويستبعدون أن يكون في واقع الحياة مثل هذا الرجل المخبول . وإذا كان هذا كلُّه صحيحاً ، فهل هو يعني أن الحياة تخلو من مثل ذلك القاضي ؟ أليس من الحق والشجاعة أن نعترف بأننا كلنا ذلك الرجل ، بشكلٍ أو بآخر ، وأن الأمر لا يعدو كونَه مسألةَ نِسَبٍ ليس أكثر . ثم ماذا لو كتب كل واحدٍ منا مذكراته بكل صدق أو نشر اعترافاته بكل تفصيل ؟ إن الناس مثل جبل الجليد ؛ تسعةُ أعشارِه تحت الماء ، والنفس الإنسانية دهليز مظلم وسرداب عميق معقَّد ، ولعلكم تذكرون ما قاله السيد المسيح لمن أرادوا أن يرجموا امرأةً زانية : من كان منكم بلا خطيئةٍ فلْيرْمِها بحجر !
ما معنى الحياة ؟ وما هذا الشيء المبهَمُ الخفيُّ الذي يحرك المرء ويحفظ وجودَه ؟
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة