صلاح الآباء وصلاح الأبناء

أسرة وطفل
طبوغرافي

 

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حُفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح.
وقال محمد بن المنكدر: إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم .
بل ذهب بعض الصالحين في هذه الآية إلى معنى أدق وأعمق، وخص هذا الصلاح بخلق كان معروفاً به الأب أو الجد وهو الأمانة، قال سعيد بن جبير -رحمه الله- عن الأب: إنه كان يؤدي الأمانات والودائع إلى أهلها، فحفظ الله تعالى كنزه حتى أدرك ولداه فاستخرجا كنزهما.

قد نحرم صلاح الأبناء بسبب ذنب خفي داومنا عليه أو كسب حرام أصررنا على كسبه، أو عقوق للوالدين؛ فصلاح الأبناء لا يرجع إلى بذل الجهد والمال فقط، إنما هناك أسباب عبادية عظيمة يقوم بها الأب نفسه، من أهمها: الخوف من الله ومراقبته - سبحانه وتعالى- أو عمل صالح خفيّ أو بر والدين أو قيام الليل.

ومما يُذكر في امتداد أثر صلاح الآباء على الأبناء ما يذكره الإمام الغزالي -رحمه الله- في كتابه إحياء علوم الدين فيقول: رُوي أن الشافعي -رحمه الله- لما مرض مَرَض موته، قال: مروا فلاناً يغسلني، فلما بلغه خبر وفاة الإمام الشافعي حضر هذا الرجل، وقال ائتوني بوصيته، فإذا فيها على الشافعي سبعون ألف درهم ديناً، فقضاها عنه، وقال: هذا غسلي إياه، قال أبو سعيد الواعظ: لما قدمت مصر بسنين طلبت منزل ذلك الرجل، فدلوني عليه، فرأيت جماعة من أحفاده، وزرتهم، فرأيت عليهم سيما الخير وآثار الفضل، فقلت: بلغ أثر الخير إليهم، وظهرت بركته عليهم.
ومن أجمل من استشعر هذا المعنى سعيد بن المسيب -رحمه الله- فقال: ((إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي))، يريد بذلك أن يصل إلى مرتبة الصالحين، فينال بصلاحه صلاح أبنائه من بعده.

إن لصلاح الوالدين وأعمالهما الصالحة أثرًا عظيمًا في صلاح الأبناء ونفعهم في الدنيا، بل وفي الآخرة كذلك، وكذلك الأعمال السيئة والموبقات التي يقوم بها الآباء والأمهات أثرها سيءٌ على تربية الأبناء.

وهذه الآثار على تربية الأبناء تتأتى من وجوه منها:
بركة هذه الأعمال الصالحة ومجازاة الله سبحانه وتعالى بها، وكذلك شؤم الأعمال السيئة وانتقام الله سبحانه وتعالى من فاعلها وعقوبته عليها؛ فقد تكون صور المجازاة والإثابة، أوالانتقام والعقوبة متمثلة في الأبناء إما بإصلاحهم وحفظهم وتوليهم وسعة رزقهم وعافيتهم، وإما بحيودهم عن طريق الحق وانحرافهم وكذلك نزول البلايا عليهم وحلول المشاكل بهم.نسأل الله العافية.

فعليك بتقوى الله وبالقول السديد، عليك أن تطيب مطعمك ومشربك وملبسك حتى ترفع يديك بالدعاء إلى الله بأيد طاهرة ونفسٍ زكية، فيتقبل منك لأولادك ويصلحهم الله ويبارك لك فيهم، قال الله عز وجل {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27] وقد ورد عن بعض السلف أنه قال لابنه: ((يابني لأزيدن في صلاتي من أجلك)) من أجل أن يكثر الدعاء لهم، قال بعض العلماء: معناه أصلي كثيراً وأدعو الله لك كثيراً في صلاتي.

والوالدان إذا قاما بتلاوة كتاب الله وقراءة سورة البقرة والمعوذات ونحو ذلك، فإن الملائكة تتنزل للقرآن، والشياطين تفر، ولا شك أن نزول الملائكة يصحبه نزول السكينة والرحمة، وهذا قطعاً له أثر على الأولاد وسلامتهم.
أما إذا تُركت تلاوة القرآن وغفل الآباء عن الذكر، فحينئذ تتنزل الشياطين وتغزو تلك البيوت التي تُرك فيها ذكر الله عز وجل، ولا شك أن مثل هذا يؤثر على الأبناء أيما تأثير، ويؤزهم إلى المعاصي أزاً، ويدفعهم إلى الفساد دفعاً.
ومن آثار الأعمال الصالحة للوالدين على تربية الأبناء: تأسي الأبناء بهما في هذه الأعمال.
فالولد الذي يرى أباه دائم الذكر ودائم التهليل والتحميد والتسبيح والتكبير يلتقط من قوله: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر.
وكذلك الولد الذي يرسله أبوه ليلاً بالصدقات إلى الفقراء سرًّا في بيوتهم يختلف عن الولد الذي يرسله أبوه ليلاً لشراء السجائر، والولد الذي يرى أباه يصوم الاثنين والخميس ويشهد الجمع والجماعات ويحضر المساجد، ليس كالولد الذي يرى أباه في الملاهي.
وإذا كان الرجل دائم البر لأبويه قائماً بالدعاء والاستغفار لهما يتفقد أحوال والديه ويطمئن عليهما ويسد حاجتيهما ويكثر من قول: ((رب اغفر لي ولوالدي)) ويقول دائماً ((رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)) ويزور قبريهما بعد موتهما ويكثر من الصدقة عنهما، ويصل من كان الأبوان يصلاه، ويعطي من كان الأبوان يعطيانه، فإذا رأى الابن من أبويه هذه الأخلاق فإنه بإذن الله يقتبس من هذه الأخلاق، ويستغفر هو الآخر لأبويه بعد موتهما ويفعل بهما ما رآهما يفعلان مع الآباء.
إن الولد الذي يرى أباه يقوم من الليل يُصلي، ويبكي من خشية الله، ويتلو القرآن لابد وأن يفكر: لماذا يبكي أبي، ولماذا يصلي أبي، ولماذا لم يترك النوم والفراش الدافئ، ويذهب إلى الماء البارد يتوضأ به؟! لماذا يجافي جنبه عن المضجع ويدعو ربه خوفاً وطمعاً؟!
كل هذه تساؤلات تدور في ذهن الابن ويفكر فيها، ويقتبس منها بإذن الله.
وكذلك الفتاة التي ترى أمها دائماً محتجبة عن الرجال مستترة منهم، قد غمرها الحياء، وكساها الوقار، وعَلَتْها العفة والطهارة، تتعلم من أمها الحياء والوقار والعفة والطهارة والصلاح.
وقد قيل قديماً: إن الطاووس مشى باختيال وكبْر وخيلاء، فقلده أبناؤه في مشيته، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: لقد بدأت ونحن مقلدوك، وهكذا الأب عندما يرتكب المحرمات، ويفرّط في الواجبات، فإن فساده هذا سينعكس على أبنائه.
ورحم الله الإمام ابن القيم عندما قال: ((أكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوهم كباراً)).
وقيل في سياق هذه المعاني: ((يا أبتِ! إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً)).
إنك أنت أيها الأب أول من تغرس السلوكيات والأخلاقيات والاتجاهات في نفس ولدك، وهو أرض خصبة للاستنبات أنت أول زارع فيها، وأول من يضع البذر فيها، فلتختر الزرع الذي تحب أن يكون عليه ابنك عندما يصبح إنساناً ناضجاً، فاغرس فيه محاسن الصفات ومكارم الأخلاق فينبت نباتاً حسناً، وكن أسوة حسنة لأولادك، بحسن تمسكك بدينك وحبك لربك سبحانه وتعالى ولنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتباعه، وحسن خلقك وكريم طبعك، وجميل خصالك، نسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا صلاح الأبناء وأن يجعلهم قرة عين لنا في الدنيا والآخرة.

للتواصل مع جريدة الفتح اليوم عبر الفيس .. يرجى التكرم بكليك أعجبنى على صفحة الجريدة بالفيس بوك على جانب الصفحة ........................