ضميري يؤنبني.. كيف أبر أبي بعد موته؟!

استشارات
طبوغرافي

الأستاذة/ سمية رمضان

مستشار أسرى

download

هل يمكن بر الوالدين بعد الموت؟ فأنا كنت أتعامل مع أبي بجفاء في حياته، وضميري يؤنبني.. كيف
أعوضه بعد موته؟!

أخي الفاضل، أهلا وسهلا بكَ على ضيفا كريما على صفحة استشارات تربوية بجريدة الفتح اليوم، ونشكر لك ثقتك بنا.

أخي الفاضل.. لقد استشعرت في كلماتك مدى الندم على التفريط في حق والديك في حياتهما، ولعل كلماتك دعوة لكل من لديه هذا الكنز الغالي ، ليغتنم الفرصة ولا يضيعها، فها أنت أخي الفاضل تتمنى لو عاد بك الزمن مرة ثانية لتحسن إلى أبيك، وإلى أمك، ولكن الزمن أخي الفاضل لا يعود..

وقبل أن أوجه نصيحتي إليك أخي الفاضل، أوجه رجائي لكل القراء، أرجوكم لا تضيعوا حق الوالدين، بالله عليكم كونوا بارين بآبائكم، فكم تعبوا من أجلكم كثيرا، وكم لاقوا الأمرين في سبيل تربيتكم، ولم يترددوا لحظة واحدة في التضحية من أجلكم، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!

وبر الوالدين له صورٌ كثيرة، نذكر منها الإحسان إليهما، والقيام بحقوقهما، والتزام طاعتهما، واجتناب الإساءة إليهما، وفعل ما يرضيهما، إلا ما حرّم حلالًا أو أحلّ حرامًا، فإنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.

ومنْ برّ الْمرء لأبيه وأمّه أنْ يوقّرهما ويحترمهما في كلّ موقفٍ، فعن السيدة عائشة - رضي الله عنها- قالتْ: أتى رسول الله رجلٌ ومعه شيخٌ، فقال له: "منْ هذا الذّي معك؟". قال: أبي. قال صلى الله عليه وسلم : "فلا تمْش أمامه، ولا تجلسْ قبله، ولا تدْعه باسمه" [الطبراني في الأوسط].

وبر الوالدين من أهم العبادات بعد الصلاة، ومن أحب الأعمال إلى الله تعالى، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أىّ العمل أحبّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة علي وقتها. قلت: ثم أيّ؟ قال: برّ الوالدين. قلت: ثم أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"[متفق عليه].

وقد جاء برّ الوالدين قبل الجهاد في سبيل الله وفي ذلك تعظيمٌ من الله لبرّ الوالديْن، بل إن بر الوالدين كان مقدم على الهجرة في سبيل الله، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنِّى جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَىَّ يَبْكِيَانِ. قَالَ "ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا".

وفي القرآن الكريم جاءتْ توصية الابن بالوالدين وبرّهما في أكثر منْ آيةٍ مقرونةٍ بعبادة الله تعالى، والنهي عن الشّرْك، وقد قرن شكره تعالى بشكرهما: {أن اشْكرْ لي ولوالديْك إليّ الْمصير } [لقمان: 14].

يقول كعب الأحبار- رضي الله عنه-: إنّ الله ليعجّل هلاك العبد إذا كان عاقًّا لوالديه، ليعجّل له العذاب، وإن الله ليزيد في عمر الرجل إذا كان بارًّا بوالديه، ليزيده برًّا وخيرًا، ومن برّهما أن ينفق عليهما إذا احتاجا.

سؤال أطرحه عليك أخي الفاضل: ألا تحب أن يبرك أبناؤك ويحسنوا إليك.. إذًا فعليك بحسن البر لوالديك، فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "برّوا آباءكمْ تبرّكمْ أبناؤكمْ".

ويحكى أنّ رجلًا كان يطعم والده المسنّ في إناءٍ من الخشب، فسأله ابنه عن السّبب، فقال له: لأنّي إذا أطعمته في إناءٍ صينيٍّ كسره، فقال له ابنه: إذنْ يا أبتي سأحتفظ بهذا الإناء الخشبيّ حتّى أقدّم لك طعامك فيه عندما تكبر وتكون في سنّ جدي.. ومن يومها أصبح ذلك الرّجل يبرّ أباه ويطعمه أشْهى المأكولات؛ لأنّه أدْرك أنّ الجزاء منْ جنْس العمل.

والآن هذه فرصتنا للبر، بل وللمغفرة، فاغتنموا الفرصة فربما لا تعود، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ". قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "مَنْ أَدْرَكَ أبويهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ".

والآن أخي الفاضل، نعود ثانية لموضوع استشارتك، وهو البر بعد الموت، فمن رحمة الله بنا أنه لم يغلق في وجهنا أبواب رحمته، بل فتح لنا أبوابه الإنابة والتوبة على مصراعيه، وأتاح لنا من الفرص الكثيرة للعودة إلى طاعته، وحتى بعد وفاة الوالدين أعطانا فرصة لبرهما، فما أرحم الله بنا!

والآن نستعرض ما يمكن عمله للبر بالوالدين بعد موتهما: صلة أصدقاء الأب أو الأم، والتصدق عنهما بعد الوفاة، ويمكن عمل صدقة جارية لهما، وكذلك قضاء الدين عنهما، وتنفيذ وصيتهما، والدعاء لهما ، والحج عن الوالدين.
أخي الفاضل.. لم تخبرنا أخي إن كانت أمك ما زلت على قيد الحياة أم لا، فربما كانت فرصتك لبر أبويك متاحة من خلال أمك ، حاول أن تضاعف لها البر لتعوض تقصيرك في حق أبيك، أما إذا كانت قد توفيت، فلم يعد أمامك سوى برهما معا بعد الموت.

وأخيرًا.. أخي الفاضل، ما زالت الفرصة أمامك متاحة فاستثمرها، وحاول أن تعين أصدقاءك على البر بآبائهم، فالدال على الخير كفاعله، وأخيرا أخي الفاضل أرجو أن تكون دائم الدعاء للأبوين، وأردد معك: ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا، وأرجو ألا تنسانا من فضل دعائك.