محمود القلعاوى .. أمام وخطيب بالأوقاف
عجزتُ عن تخيل العالم بدون ستر الله لنا.. ماذا لو كانت للذنوب روائح تخرج منا على قدر معاصينا؟! ماذا لو كُتب على جباهنا المعصية التى ارتكبناها؟! ماذا لو وجد على باب بيوتنا شرح لما فعلناه؟! ماذا لو عَلِم الناس بما ستره الله علينا؟! رباه أعجز عن تخيل ذلك مجرد التخيل.. كيف ذلك؟ أظن لو حدث ذلك يومًا واحدًا.. لا؛ يوم كثير؛ بل كثير جدًا.. لِنقل أنه قد يحدث ساعة..
كم زوجة ستُطلق من زوجها لأنها ستعلم بنظراته وأفعاله، وسيعلم هو ما أخفته هى عنه. كم من صاحب سيترك صاحبه ؟!
كم من أناس سنكرههم ونحن الآن نحبهم ؟! كم.. كم.. كثير من الخراب سيحل. لا شك أن الحياة ستتوقف؛ نعم ستتوقف. لن تتحرك بعد هذه الساعة. الحمد لله.. نعم الحمد لله على نعمة الستر.. اللهم لا تنزع عنا سترك.. واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.
من أعظم النعم !! لا ريبَ أنَّ سترَ العُيوبِ والذنوب والأخطاء نعمةٌ من نِعَمِ الله الجليلةِ على عِبادِه.. فلو أنه عزَّ وجَلَّ أبْدَى عُيُوبَ الخلقِ لفَضَحَهم وهَتَك أسْتارَهم وكَشفَ عوراتهم؛ ولكنه جلَّ جلالُه أرحمُ الراحِمين، ويُمهِلُ العاصى والشاردَ والغافل؛ فلا يريد أن يَفضَحَ عِبادَه؛ بل يريدُ أن يتوبَ عليهم ليتوبوا { إن الله هو التوَّابُ الرحيم }.. فإن تابوا وأنابوا عفَا عنهم وصفح، فغَفرَ سيئاتهم وتجاوز عن هفواتِهم.
وصاحبُ الحياء من الله ومن الناس.. يعلمُ رحمةَ الله الواسعة فى إخفاءِ الذنوبِ وسَترِ العيوب، ويقدرها حقَّ قَدرِها؛ فالله أرحمُ بالعَبدِ من نفسِه؛ فكم مِن مَوضعٍ للمعصيةِ تهافتَ العبدُ عليه ورمَى الأخرقُ نفسَه فيه فسَترَه الله عزَّ وجلَّ عليه! وقد قارفَ المنكرات وأوقعَه هَواه فى الزلاتِ!
ولولا فضلُ الله ورحمتُه؛ لصارَ كثيرٌ من الأنقياءِ مَفضُوحِين بين الناس؛ تتبعُهم الهمزاتُ والطعنات، وتُلاحِقُهم اللعناتُ وتقذفهم أصابعُ الاتهامِ بالحق والباطل! فالعاصى إذا انكشفَ أمرُه ضاقَتْ عليه الأرضُ بما رَحُبَت، وتبرَّأ منه الأقربُون وتجنَّبَه الناسُ أجمعون.
كشف الستر: ومن رحمةِ الله عزَّ وجلَّ بِخَلقِه أنه نَهَى العبدَ أنْ يَهتكَ سِترَه بِنَفسِه، كما روى البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كلُّ أمتِى مُعافًى إلا المجاهِرين، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعملَ الرجلُ بالليلِ عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملتُ البارحةَ كذا وكذا؛ وقد بات يسترُه ربُّه ويُصبِحُ يكشفُ سِترَ الله عنه”.
ستره الله أربعين عامًا:
ذكر ابن قدامة فى كتابه التوابين قصة فى بنى إسرائيل أن موسى عليه السلام خرج يومًا يستسقي.. فلم ير فى السماء قزعة - أى سحابة - واشتد الحر، فقال موسى: يا رب! اللهم إنا نسألك الغيث فاسقنا، فقال الله جل وعلا: يا موسى! إن فيكم عبدًا يبارزنى بالذنوب أربعين عامًا، فصح فى القوم وناد إلى العباد: الذى بارز ربه بالذنوب والمعاصى أربعين عامًا أن اخرج، فقال موسى: يا رب! القوم كثير والصوت ضعيف فكيف يبلغهم النداء؟! فقال الله: يا موسى! قل أنتَ وعلينا البلاغ.. فنادى موسى بما استطاع، وبلغ الصوت جميع السامعين الحاضرين، فما كان من ذلك العبد العاصى - الذى علم أنه المقصود بالخطاب، المرقوم فى الكتاب أنه يُنادى بعينه بين الخلائق، فلو خرج من بين الجموع، عُرف وهتك ستره وانفضحت سريرته وكشفت خبيئته - فما كان منه إلا أن أطرق برأسه وأدخل رأسه فى جيب درعه أو قميصه، وقال: يا رب! اللهم إنى أتوب إليك فاسترني، اللهم إنى أتوب إليك فاسترني، اللهم إنى أتوب إليك فاسترني.فما لبث موسى ومن معه إلا أن أظلهم الغيم وانفتحت السماء بمطر كأفواه القرب، فقال موسى: يا رب! سقيتنا وأغثتنا ولم يخرج منا أحد! فقال الله: يا موسى! إن من منعتكم السقيا به تاب وسألنى وأعطيته وسقيتكم بعده، فقال موسى: يا رب! أرنى ذلك الرجل، فقال الله جل وعلا: يا موسى! سترته أربعين عامًا وهو يعصينى أفأفضحه وقد تاب إلى وبين يدي؟ الله أكبر.. ما أعظم ستر الله! إن الله ستير يحب الستر.
سترته أربعين عامًا وهو يعصيني
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة