بيوت اليسر والقناعة

تنمية بشرية
طبوغرافي

من مفاتيح سعادة البيوت التيسير والقناعة والرضا بالقليل، فربما افتقدت كثير من القصور للسعادة، وربما رفرفت السعادة على كوخ بيت صغير يعيش كفافًا، وما ذاك إلا غياب اليسر والقناعة الذي يثمر الشقاء، وحضوره الذي يثمر البركة والسعادة.
المرأة اليسيرة، يسيرة المهر والصداق، يسيرة الجَهاز والزفاف، يسيرة العشرة والألفة، يسيرة الطلبات والرغبات فلا تكلّف زوجها ما لا يطيق، بل هي تعيش حياته متكيّفة مع حال زوجها قنوعة صبورة شاكرة حامدة

البيت المسلم ينظر إلى من دونه من البيوت ولا ينظر إلى من فوقه فيستريح ويرى نعمة الله عليه سابغة، وفضل الله عليه عظيم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إذا نظر أحدُكم إلى مَنْ فُضِّلَ عليه في المال والخَلْقِ فلْينْظُرْ إلى مَنْ هـو أسفل منه, فذلك أجدرُ أن لاتزدروا نعمةَ الله عليكم)) [أخرجه الشيخان والترمذي].

وزاد رزيـن في رواية: قال عون بن عبد الله بن عتبة رحمه الله: كنتُ أصحبُ الأغنياء، فما كان أحدٌ أكثرَ همّا منّي، كنتُ أرى دابّةً خيراً من دابّتي، وثوباً خيراً من ثوبي، فلمّا سمعتُ هذا الحديث صحبتُ الفقراء فاسـترحت .

والنبي – صلى الله عليه وسلم – يبين لنا الغنى الحقيقي وأنه في القناعة فيقول: ((ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ((إن الأسرة الربانية التي تربي أبناءها على غنى النفس وتجعله منهجًا في الحياة لا تنظر إلى عرض الدنيا ولا ترى السعادة الحقيقية إلى في الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى وعبادته وذكره ، فكم من أناس عاشوا كفافًا وكانت لهم الدنيا جنة دخلوها بذكر الله والرضا بما أعطاه وذاقوا حلاوة عبادته فإذا هي خير من ملذات الدنيا ورفاهيتها.

والنبي صلى الله عليه وسلم يجعل الرضا باليسير في الحياة أحد أسس الفلاح فيقول : (( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ومتعه الله بما آتاه ((. وكان من دعائه – صلى الله عليه وسلم –أن يرزقه الله ما يدل على ذلك فيقول: ((اللّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً)) فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن البيت الذي يرضي باليسير ويرضى بعيشة الكفاف له من الفضل على غيره ما يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء ليكون لنا قدوة ويكون بيته لنا أسوة في الحياة مع شرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم . وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته كثير من القصص وكثير من النماذج المشرقة في الرضا القناعة ، فلو كانت الدنيا وزخرفها فضلًا ونعمة لأعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأحبهم إلى الله سبحانه، ولكنه- صلى الله عليه وسلم – أراد أن يعطينا نماذج تطبيقية؛ ففي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – (( تمر بالنبي ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيته نار)) ، وعند البخاري عن قتادة- رضي الله عنه – قال : (( فما أعلم النبي- صلى الله عليه وسلم – رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً بعينيه قط ((. وعند مسلم عن عائشة - رضي الله عنها –قالت : (( لقد مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين )).

وفي الصحيحين قالت - رضي الله عنها -: (( ما أكل آل محمد – صلى الله عليه وسلم – أكلتين في يوم إلا إحداهما تمرا)).
وعند البخاري قالت – رضي الله عنها وعن أبيها - (( كان فراش رسول الله من أدم وحشوة ليف ((.

إلى غير ذلك من النماذج التي تدل على تقلله من الدنيا وأخذه بقدر الكفاف لأنه دعا (( اللّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً )) وهكذا كان الصحابة والصالحون في كل العصور، لا ينظرون إلى الدنيا، ولكن ينظرون إلى الآخرة ، ولا يهمهم جمع الأموال، ولكن يهمهم كنز الأعمال الصالحة والحسنات.

قال الغزالي- رحمه الله - : ((كان محمد بن واسع يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويقول : من قنع بهذا، لم يحتج إلى أحد)). [الإحياء 3/239].

وهذا أبو حازم يكتب إليه بعض بني أمية يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه ، فكتب إليه : ((قد رفعت حوائجي إلى مولاي فما أعطاني منها قبلت وما أمسك عني قنعت. وقال الشافعي رأيت القناعة رأس الغنى فصرت بأذيالها متمسك فلا ذا يراني على بابه ولا ذا يراني به منهمك

فصرت غنياً بلا درهم أمر على الناس شبه الملك
وقال آخر : اقنع برزق يسير أنت نائله واحذر ولا تتعرض للإرادات فما صفا البحر إلا وهو منتقص ولا تكدر إلا بالزيادات وقال إبراهيم بن أدهم لشقيق: أخبرني عما أنت عليه: قال شقيق قلت: إن رزقت أكلت، وإن منعت صبرت، قال: هكذا تعمل كلاب بلخي، قلت فكيف تعمل أنت؟ قال: إذا رزقت آثرت، وإذا منعت شكرت، فعد المنع عطاء يشكر عليه، وهو كذلك .

قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في صيد الخاطر: ((تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان : يا سفيان عد منع الله إياك عطاء منه لك ، فإنه لم يمنعك بخلا إنما منعك لطفا، فرأيته كلام من قد عرف الحقائق فإن الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر، وعجزه أصلح له; لأنه لو قدر عليهن تشتت قلبه، إما لحفظهن أو بالكسب عليهن، فإن قوي عشقه لهن ضاع عمره، وانقلب هم الآخرة إلى الاهتمام بهن، فإن لم يردنه فذاك الهلاك الأكبر، وإن طلبن نفقة لم يطقها كان سبب ذهاب مروءته وهلاك عرضه، وإن مات معشوق هلك هو أسفا، فالذي يطلب الفائق يطلب سكينا لذبحه، وما يعلم ، وكذلك إنفاذ قدر القوة فإنه نعمة)) .

إن البيوت المسلمة التي رزقها الله القناعة ورضيت بما أعطاها الله وما قسمه الله لها من رزق هي أبعد البيوت عن حسد الآخرين، البيوت القانعة الراضية باليسير لا تنظر إلى ما يعيشه الآخرون من رفاهية، لأن هذه الرفاهية ليست مطلبهم، ولا همهم، ولكن مطلبهم شيء آخر، هو إرضاء رب العالمين وعبادته، وحين يدركون حلاوة العبادة والرضا ساعتها يعرفون أن كل ما في الدنيا من متاع لا يساوي شيئًا أمام جنة العبادة التي يدخلها المؤمنون في الدنيا قبل الآخرة .

نسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا القناعة والتيسير والرضا في بيوتنا فلا نسخط، ولا نتطلع، ولا نحسد الناس على ما آتاهم، ونرضى بالله ربًا ونرضى برزقه قسمًا ونحيا كفافًا حتى نرد على رب كريم نرجو منه النجاة في الدنيا والآخرة.