الرضا .. باب السعادة العظيم

تنمية بشرية
طبوغرافي

يولد المرء وهو لم يختر أن يولد.. يجد نفسه يعيش أوساطاً وظروفا حسنة كانت أو سيئة، وقدرها الله عليه وهو في بطن أمه منذ أن أرسل إليه الملك لينفخ فيه الروح.. ووسط هذه الأقدار يمارس رغبة ملحة وجدت معه.. إنها الأحلام والطموحات.. يجدّ.. يجتهد.. بالعمل.. بالدعاء ويأتي بالأسباب.. ينجح.. ثم ينجح.. ثم تستقر عنده فكرة النجاح الأكيد في كل مرة.. ولكن! أحياناً تعصف الرياح بهذه الأحلام .. ويحتاج الإنسان إلى الرضا لا محالة إن أراد السعادة.

دعونى أروى لكم بعض ما يقر القلب ويجمع الفؤاد ويهدئ الروع ويبعث على الرضا.
اختلف ثلاثة نفر في مسألة:
قال الأول: أنا أحبّ الموت شوقاً للقاء ربّي.
وقال الثاني: أنا أحبّ الحياة لعبادة ربي وطاعته.

وقال الثالث: أنا لا أختار، بل أرضي بما يختار لي ربّي إن شاء أحياني، وإن شاء أماتني، فتحاكموا إلى أحد العارفين بالله فقال:
((صاحب الرّضا أفضلهم)).

لما قدِّم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - إلى مكّة وقد كُف بصره، جعل الناس يهرعون إليه ليدعو الله لهم، فجعل يدعو لهم، قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرَّفت عليه، فعرِفني، فقلت له:
يا عمّ، أنت تدعو للناس فيشفون، فلو دعوت لنفسكَ أن يردَّ الله بصرك، فتبسم وقال: يا بُنيّ قضاء الله أحبّ إلي من بَصري.

وروي أن عروة بن الزبير - رضي الله عنهما - قُطعت رجله، ومات أعز أولاده في ليلة واحدة، فدخل عليه أصحابه وعزوه، فقال: (اللهم لك الحمد، كان أولادي سبعة فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، فلئن كنتَ قد أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنتَ قد ابتليتَ فقد عافيت).

وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه: (ما بقي لي سرور إلا مواقع القدر، قيل له: ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله تعالى).

واعلم أن الله تعالى لا يرضى عن عبده؛ إلا إذا رضي العبد عن ربه في جميع أحكامه وأفعاله، وعندها يكون الرضا متبادلاً كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله: «رضيّ اللهُ عنهُم ورَضُوا عنهُ» [البينة: 8].

عمران بن حصين - رضي الله عنه وأرضاه - هذا الصحابي الجليل الذي شارك النبي في غزواته، وإذا به بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يصاب بشللٍ يُقعِدهُ تمامًا عن الحركة، ويستمر معه المرض مدة ثلاثين سنة، حتى أنَّهم ثقبوا له في سريره حتى يقضى حاجته، فدخل عليه بعض الصحابة.. فلما رأوه بكوا، فنظر إليهم وقال: أنتم تبكون، أما أنا فراضٍ.. أحبُّ ما أحبه الله، وأرضى بما ارتضاه الله، وأسعد بما اختاره الله، وأشهدكم أنِّي راضٍ.

والمؤمن لا ينال الرضا ولا يحصل له إلا إذا سبقه التوكل الكامل في قلبه، ودرجة الرضا درجة عزيزة غالية، ولذلك لم يوجبها الله على عباده، لكن! نَدَبهم إليها، واستَحبها منهم، وأثنى على أهلها، بل أخبر سبحانه أن ثواب الرضا أن يرضى الله عنهم، وهو أعظم وأكبر وأجل من الجنان، وما فيها (مدارج السالكين).

قال الإمام ابن القيم: «فهناك رضا من الله قبل رضا العبد أوجب له أن يرضى، ورضا بعده هو ثمرة رضاه، ولذا كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين»(مدارج السالكين).

فإن العبد المؤمن الصالح إذا حصل له الرضا ارتفع؛ جزعه في أي حكم كان أو قضاء؛ بل استقبل كل قضاء الله تعالى بالفرح والسرور.

وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى- رضي الله عنهما -: «أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر».

وهناك طريقة للتدريب على الرضا والتخلق به وصفها الصالحون: وهي الطمأنينة، فمن درَّب نفسه على الطمأنينة حصل له الرضا، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} والمؤمن الصالح الذي رضي بالله سبحانه ربًا، ورضي بالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، واستقر الرضا في قلبه، سكنت الطمأنينة في جوارحه وجنانه وبرد قلبه واطمأنّ، وفر منه السخط والضيق والضجر، بل إن الرضا يُنزل السكينة على أهل الإيمان، ومن نزلت عليه السكينة استقام عمله وصلح باله، والرضا بالله سبحانه نبع الحكمة، فمن رضي بالله نبعت الحكمة من تحت لسانه وتفجرت.

اجتمع سفيان الثوري ووهيب بن الورد ويوسف بن أسباط:
- فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم، وأما اليوم فوددت أني ميت.

- فقال يوسف: ولِمَ؟
- فقال سفيان: لِما أتخوف من الفتن.

- فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء، لعلي أصادف يومًا أتوب فيه وأعمل صالحًا.
- فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت؟
- فقال: أنا لا أختار شيئًا، أحب ذلك إليَّ أحبه إلى الله.
- فقال الثوري: روحانية ورب الكعبة.

وقال الحسين بن علي: من اتكل على حسن اختيار الله له،
لم يتمن غير ما اختار الله له.

• وقال الفضيل: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته.
• وقال العلماء: إن الرضا هو درجة من الصبر عالية سامية يصل إليها الصابرون، إذا ما صار الصبر عندهم صفة في نفوسهم، فالصبر هو قبول القضاء مع وجود الألم، ولكن! المؤمن الصابر يتحمل الألم في سبيل الله، والرضا هو قبول القضاء مع عدم وجود الألم، بل مع السرور أحيانًا.

• قال ابن أبي الدنيا: ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك.. فهو أحرى أن يفرغ قلبك ويقلل همتك.
• وقيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟
- قال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه، فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.