كان رأس فقهاء المدينة في زمانه، والمقدم عليهم في الفتوى(سعيد بن المسيب)

تنمية بشرية
طبوغرافي

بعد مضي سنتين من خلافة الفاروق عمر -رضي الله عنه- ولد (سعيد بن المسيب) في المدينة المنورة، فنشأ نشأة مباركة، وسار على نهجهم، واقتدى بأفعالهم، وروى عنهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج بنت الصحابي الجليل أبي هريرة، فكان أعلم الناس بحديثه.

كان رأس فقهاء المدينة في زمانه، والمقدم عليهم في الفتوى، حتى اشتهر بفقيه الفقهاء، ويكفي ابن المسيب فخرًا أن الخليفة العادل (عمر بن عبد العزيز) كان أحد تلاميذه، ولما تولى عمر إمارة المدينة لم يقض أمرًا إلا بعد استشارة سعيد، فقد أرسل إليه عمر رجلاً يسأله في أمر من الأمور، فدعاه، فلبى الدعوة وذهب معه، فقال عمر بن عبد العزيز له: أخطأ الرجل، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك.

وعاش سعيد طيلة حياته عزيز النفس، فها هو ذا أمير المدينة في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان يأمره بالبيعة للوليد بن عبد الملك، فيمتنع فيهدده بضرب عنقه، فلم يتراجع عن رأيه رغم علمه بما ينتظره من العذاب، وما إن أعلن سعيد مخالفته حتى جردوه من ثيابه، وضربوه خمسين سوطًا، وطافوا به في أسواق المدينة، وهم يقولون: هذا موقف الخزي، فيرد عليهم سعيد في ثقة وإيمان: بل من الخزي فررنا إلى ما نريد. ولما علم عبد الملك بما صنعه والى المدينة لامه وكتب إليه: سعيد.. كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده من خلاف، وبعد كل هذا التعذيب الذي ناله سعيد جاءه رجل يحرضه في الدعاء على بني أمية، فما كان منه إلا أن قال: اللهم أعز دينك، وأظهر أولياءك، وأخزِ أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

رفض سعيد أن تكون ابنته أعظم سيدة في دولة الخلافة الإسلامية؛ وذلك حين أراد الخليفة عبد الملك بن مروان أن يخطب ابنة سعيد لولي عهده الوليد، لكن سعيدًا رفض بشدة، وزوج ابنته من طالب علم فقير.

فقد كان لسعيد جليس يقال له (عبد الله بن وداعة) فأبطأ عنه أيامًا، فسأل عنه وطلبه، فأتاه واعتذر إليه، وأخبره بأن سبب تأخره هو مرض زوجته وموتها، فقال له: ألا أعلمتنا بمرضها فنعودها، أو بموتها فنشهد جنازتها، ثم قال: يا عبد الله تزوج، ولا تلق الله وأنت أعزب، فقال: يرحمك الله ومن يزوجني وأنا فقير؟ فقال سعيد: أنا أزوجك ابنتي، فسكت عبد الله استحياء، فقال سعيد: مالك سكت، أسخطًا وإعراضًا؟ فقال عبد الله: وأين أنا منها؟ فقال: قم وادع نفرًا من الأنصار، فدعا له فأشهدهم على النكاح، فلما صلوا العشاء توجه سعيد بابنته إلى الفقير ومعها الخادم والدراهم والطعام، والزوج لا يكاد يصدق ما هو فيه.

وحرص سعيد على حضور صلاة الجماعة، وواظب على حضورها أربعين سنة لم يتخلف عن وقت واحد، وكان سعيد تقيًّا ورعًا، يذكر الله كثيرًا، جاءه رجل وهو مريض، فسأله عن حديث وهو مضطجع فجلس فحدثه، فقال له ذلك الرجل: وددت أنك لم تتعن ولا تتعب نفسك، فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله وأنا مضطجع.

ومرض سعيد، واشتد وجعه، فدخل عليه نافع بن جبير يزوره، فأغمى عليه، فقال نافع: وَجِّهوه، ففعلوا، فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة.. أنافع؟ قال: نعم، قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهكم فراشي، ومات سعيد سنة ثلاث أو أربع وتسعين من الهجرة، فرحمه الله رحمة واسعة.