فَضْفَضَةٌ أَدَبيَّةٌ زجَّالون .. لا شعراء !

تنمية بشرية
طبوغرافي

د. شعبان عبد الجيد

مدرس الأدب والنقد، بكلية التربية

جامعة مدينة السادات

%d8%af-%d8%b4%d8%b9%d8%a8%d8%a7%d9%86-%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%8a%d8%af-%d9%85%d8%af%d8%b1%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d8%a8-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%82%d8%af-%d8%a8%d9%83

حين جدَّدَ الأندلسيون في أوزان الشعر وقوافيه ، ونظموا كلاماً لا يسيرُ في موسيقاه على منهج القصيدة العربية التي تلتزم وحدة الوزن والقافية ، ووجدوا أن ما استحدثوه هو شكلٌ جديدٌ غيرُ الشعر ؛ سمَّوه موشَّحة ، وسمَّوا من يكتبها وشَّاحاً .

وحين شاع فيهم الغناءُ ونظموا الموشحات باللهجة العامية ، لم يسموها الموشحات العامية ؛ وإنما سمَّوها زجَلاً ، تمييزاً لها عن الموشحة التي تكتب باللغة الفصحى ، وهذه حصافةٌ عجيبةٌ من القوم ، ووعيٌ نقديٌّ قديمٌ بحدود الأشكال الفنية وملامح الأنواع الأدبية .

وليس في هذا انتقاصٌ من شأن الموشحات والأزجال ، ولا وضعٌ من قدْر من يكتبونها ويصوغون القول في قالبها ؛ ولا يعدو الأمرُ هنا كونَه وضعاً للنقاطِ على الحروف ، وتسميةً للأشياء بأسمائها ، حتى لا تختلطَ الأمور ، وتشتبه أجناسُ الكلام ، ويصبح كلُّه عند العرب شعراً !

10615369_755890601137939_3350576253655685684_n-395x330
وبين يديَّ الآن كتاب ( العاطلُ الحالي والمُرْخِصُ الغالي ) لصفيِّ الدين الحِلِّي ، وهو أهم كتابٍ قديم تعرض لفنون الزجل ، وقد جاء فيه أن مجموع فنون النظم عند سائر المحققين سبعةُ فنون ، ولا اختلاف في عددها بين أهل البلاد ، وهي : الشعرُ القريض ، والموشح ، والدوبيت ، والزجل ، والمواليا ، والكان وكان ، والحماق .

وقد ذكر الحليُّ في كتابه هذا أنه أضاف إلى ديوان أشعاره فنَّي الموشَّح والدوبيت ؛ لتحليتهما بالإعراب ، ونسجهما على منوال الأعراب ، وأنه قد أعراه من الفنون الأربعة التي لَحنُها إعرابُها ، وخطأُ نحوِها صوابُها ، وهي : الزجل ، والمواليا ، والكان وكان ، والقُوما .

left-1

فهي الفنون التي إعرابُها لَحَن ، وفصاحتُها لَكَن ، وقوة ألفاظها وَهَن . حلالُ الإعراب بها حرام ، وصحةُ اللفظ بها سَقام ؛ يتجدَّدُ حُسنُها إذا زادت خلاعة ، وتضعُفُ صَنعتُها إذا أُودِعتْ من النحو صناعة .

وفي رأيي أن الاختلاف بين الشعر والزجل ليس اختلافاً في النوع أو الدرجة ؛ بل في كليهما ؛ فبينها حجابٌ ولا يستويان مثَلاً .

وهذا لا يمنع أن يتفاوت الشعراءُ أنفسُهم في إبداعهم ، أو يتباين الزجالون في كلامهم ؛ ومن ينظمُ الكلامَ باللهجة العامية ليس شاعراً ؛ بل هو زجَّال ، وإن تفنن في تصويره وتأنق في تعبيره ، ولا أعرف شيئاً اسمه ( الشعر العامي ) فهذه تسميةٌ باطلةٌ مشبوهة ، وأكثر من يقولون بها لا يفقهون أدبَ هذه الأمة ، ولا يعرفون تراثَها ، ولا يحسنون لسانَها ، وأكاد أشك في صدق انتمائهم إليها وغَيرتهم عليها .

والعامية في أرقى نمطٍ من أنماط صياغتها ، كلام من الدرجة الثالثة أو الرابعة ؛ لا تستسيغُه الذائقةُ العربية السليمة ، ولا يقبله الوجدانُ العربيُّ الأصيل .

وهي تفرِّق ولا تجمع ؛ فهي لهجةٌ ضيقةٌ مهما اتسعت ، وما يكتبه المصري بلهجته المحلية لا يفهمه العراقي إلا بجهد جهيد ، ونحن لا نكاد نفهم شيئاً مما يكتبه الجزائريون أو المغاربة أو الموريتانيون بلهجاتهم .

والفصحى وحدها ، بشعرها العمودي الأصيل ، هي الأقدر على أن تجمع صفَّنا وتوحِّد كلمتَنا . ولا أعرف من الذي يقف وراء هذه الترويج المشبوه للعامية وقالتها ، ولا من أين يموِّلون مهارجَها ومسابقاتِها ، وينفقون على مجلاتها وجوائزها ؛ ولهذا حديثٌ آخرُ لا يتسع له هذا المقام ، ولعلَّ إليه عودةً بعد حين !