الأستاذ الدكتور/ أحمدعبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
مع أهل الحياء
الملائكة تهرب من بنى آدم حياءً .. السيدة عائشة رضى الله عنها كانت تتشدد فى ملابسها أمام قبر الفاروق
يطيب لنا اليوم أن أصحبكم فى معية الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأن نستضيف اليوم كوكبة نيرة من صفوة الأكابر، وهم من اتصفوا بالحياء ( أهل الحياء ).
ما أجمل أن ترى عبدًا مسلمًا واقفًا عند حدود الله تعالى، يشعر أن لله عليه سلطانًا، وأن لله تعالى مقامًا عظيمًا {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن: 46] ويستشعر بنقصان عمله وقدرة الله تعالى عليه؛ فيستحى من الله سبحانه وتعالى، ويستحى من نفسه، ويستحى من الملكين الكريمين اللذين معه، ويستحى من صحيفة أعماله.
ولا زلت أبحث مع نفسى عن واحدٍ، يعبر عن هذه المدرسة الجامعة، حتى وجدت بعد طول تعمق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان النبى صلى الله عليه وسلم، يستحى أن يرد سائلًا، وكان يستحى من كلمة لا، ويستحى أن يعرض عن الناس، وأن يجذب يده ممن يسلم عليه حتى ينزع الأخر يده من يد رسولنا الكريم، فقد كان حقًا أشد حياء من العذراء فى خدرها ( صلى الله عليه وسلم ).
إن الإيمان والحياء مقترنان لا يفترقان أبدًا، فمن كان من أهل الإيمان لابد وأن يكون من أهل الحياء.. ومن كان من أهل الحياء لا بد وأن يكون من أهل الإيمان.
الحياء على مراتب.. وأعلى مراتب الحياء هى مرتبة حق الحياء
أعلى مراتب الحياء، ما كان عليها الأنبياء الكرام، وعلى رأسهم سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم.
إن قيمة الحياء فى حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلت الصحابة الكرام من أهل الحياء الحق لله تعالى، والأعمال العظيمة التى قدمها أهل الحياء لله تقف شامخة كبيرة لهم وللدنيا كلها، وهذا سيدنا عثمان بن عفان، يقول عنه النبى صلى الله عليه وسلم “ «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا أَبَدًا» وقد أصبح من أهل الجنة، وبُشر بالشهادة، وتزوج ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد النبى الكريم يستحى من عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه، ويجمع ملابسه فى الجلسة التى يدخلها، ولا يفعل ذلك مع الصحابة الكرام، ويقول (ألا أستحى من رجلٍ تستحى منه ملائكة الرحمن). وهذا البيان النبوى يُعنى أن الملائكة أنفسهم يعرفون الحياء.
وقد كان عثمان بن عفان فى أدبه، وعفته، وتواضعه، وخفضه الجناح مثلًا رائعًا وقدوة يقتدى بها، فعندما حُوصر رضى الله عنه، لم يدافع عن نفسه، ولم يستنجد بأحد لحيائه، وقد كان الصحابة يعرضون عليه أن يكونوا حصنًا له فيرفض، وهو مستسلم لأمر الله تعالى عز وجل، ويظل محاصرًا يقرأ سورة الأنعام حتى يُقتل، وقد بشره الرسول الكريم بالشهادة حينما زاره الرسول الكريم وهو صائم، وبشره بالإفطار معه فى الجنة.
ومعنا أيضًا السيدة فاطمة الزهراء رضى الله عنها. وقد كانت أشبه الناس بأبيها، والسيدة فاطمة رضى الله تعالى عنها وصلت بحيائها وخُلُقِها أن بلغت مرتبة سيدة نساء أهل الجنة، فعن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ “.
وها هى السيدة فاطمة رضى الله تعالى عنها، تستحى من أن يرمقها الرجال بأعينهم بعد أن ماتت، فكانت وصيتها الكريمة للإمام على رضى الله تعالى عنه؛ لفرط حيائها “يا أبا الحسن إذا ما أنا مت فادفنونى ليلًا، وليس نهارًا، وإذا مت نهارًا ادفنونى ليلًا، فإنى لا أحب أن يرانى الرجال، وأنا محمولة على المحمل”، ونفذ الإمام على وصيتها؛ فدُفِنَت ليلاً، فهى حقًا سيدة نساء أهل الجنة رضى الله تعالى عنها.
ومعنا أيضًا السيدة عائشة رضى الله تعالى عنها، وهى ابنة الصديق، وزوج الحبيب صلى الله عليه وسلم، والتى كان حياؤها الشديد هو ما تتسبب فى الكذب عليها والطعن فيها بحادث الإفك، فهى رضوان الله تعالى عنها لا تحادث الرجال. حتى نزل بيان الله تعالى ليبرئها، { وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)}[ النور]
أي: ولولا تفضل الله عليكم أَيها الخائضون، ورحمته بكم، لأَصابكم عذاب عظيم فيما خضتم فيه من الإِفك فى شأْن عائشة، أَما رحمته فى الدنيا فقد تمثلت فى إمهالكم حتى تثوبوا إِلى رشدكم، وتتوبوا إِلى ربكم من ذنبكم، وتعرفوا حرمة بيت نبيكم، وأما رحمته فى الآخرة، فبالعفو عمن تاب منكم، وغفران ما اقترفته أَلسنتهم، وكل ذلك من فضل الله عليكم.
ولما دُفن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت السيدة عائشة رضى الله تعالى عنها، بجوار والدها الصديق تتخفف من ملابسها، أما بعدما دُفِن الفاروق عمر رضى الله تعالى عنه بجوار أبيها وزوجها، كانت تشدد على ملابسها ولا تتخفف حياء من الفاروق رضوان الله تعالى عليهما وهو ميت ومدفون؛ تستحى من قبره! فحقا هم من تأسوا واقتدوا بحق بسيدنا رسول الله
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21].
مع أهل الحياء لا زلت أستقبل هؤلاء القوم الكبار، الذين امتلأت قلوبهم حياءً من الله تعالى، وها هو سيدنا موسى عليه السلام، كليم الله تعالى، وهو من وصفه القرآن الكريم{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}[ القصص]
فسيدنا موسى عليه السلام بحيائه الشديد، وأدبه الجم يراقب الفتاتين من بعيد، ويتابعهما ما خطبكما؟ { قَالَتَا لَا نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [القصص] ويلتمس العذر لهما لمشاركتهما الرجال، ثم يسقى لهما، ويصدر الرعاء.
والحياء أيضًا كان منهما، وقد تجلى فى المشية، والحركة، والنظر والكلام {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[ القصص: 25]
فها هو سيدنا موسى عليه السلام يحمل هذا القلب الملئ بالحياء والإيمان والتقوى، وتظهر فيه رجولة المسلم ونخوته، فنجده يستحى من الله تعالى أن يراه الله تعالى متخاذلًا أو كسولًا فى وقتٍ يستطيع أن يساعد فيه امرأة مسلمة.
والملائكة أيضا تعى خلق الحياء جيدًا، فنجدهم لا يحبون مشاهدة المسلم على معصية أبدًا فيهربون منه حينها، فملائكة الرحمن تتباعد عن المسلم عند المعصية.
ولا ننسى أنه عندما ضاع الحياء ضاع شبابنا، وعندما ضاع الحياء كثرت المعاصي، وضاعت الأمة .
مع أهل الحياء ..الملائكة تهرب من بنى آدم حياءً
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة