الهجرة النبوية بين التخطيط البشري والعون الإلهي

روائع الفتح
طبوغرافي

 

بقلم أ.د. محمد علي دبُّور

أستاذ التاريخ الإسلامي المشارك بجامعتي القاهرة وأم القرى

mdabbour2000@yahoo.com

11212469_511275559031494_1732544914_n

من سنن الله تعالى أنه لا يمنح توفيقه لمتواكل أو متكاسل أو متسلق على أكتاف الغير، بل يمنحه سبحانه وتعالى لمن بذل الجهد والعرق وأخذ بكل الأسباب البشرية المتاحة ليصل إلى هدفه المنشود وغايته المرجوة، فبعد أن يستنفد المسلم كل وسعه ويبذل كل جهده ويأخذ بكل أسباب النجاح وتحقيق الهدف...هنا فقط يأتي العون الإلهي ليمنحه التوفيق والرشاد والهداية والحماية والرعاية حتى يصل لمبتغاه.  

هذا واحد من أهم دروس رحلة الهجرة المباركة وأعظمها، فعندما أذن الله تعالى لنبيه r بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، كان يعلم – بقينًا- أن هذه الخطوة ليست سهلة، وأنها محفوفة بالمخاطر، كما علم أيضًا بما تدبره قريش لقتله، لذا- وفي ظل هذه الوضع الحرج- بدأ r في وضع خطة محكمة للخروج من مكة، في واحدة من أجلّ ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة، واضعًا في حسبانه كل الاحتمالات حتى لا تعلم قريشٌ بأمر خروجه ولا وقتَ هذا الخروج، ويمكن القول بأنها كانت خطة سرية إلى أقصى حدٍّ، خاصة أن المشركين كانوا قد وضعوا كل تحركاته تحت الرقابة الصارمة، فلو علموا بوقت خروجه لا شك أنهم سيقفون حائلاً بينه وبين ما يريد، وربما انتهى الأمر بقتله r، فوضع لتلك الهجرة كل ما في وسع البشر وطاقتهم من وسائل تضمن لها النجاح، وخطط تحقق لها التوفيق، فإذا لم يفلح الجهد البشري بعد الأخذ بكل تلك الأسباب، فستأتي عناية الله في اللحظة المناسبة لتحمي رسول الله حتى يحقق مرغوبه وينال مطلوبه.

وربما يسأل سائل: ألم يكن في مقدور الله تعالى أن يحمل رسوله r من مكة إلى المدينة كما حمله من مكة إلى المسجد الأقصى بفلسطين (الشام) ليلة الإسراء ويتحقق الهدف دون هذا العناء وذاك العنت والتعب؟!

بلى...كان في مقدرو الله سبحانه أن يفعل ذلك وأكثر، لكنَّ هذه المرة أراد الله ورسوله أن يعلما الأمة كلها معنى التوكل الحقيقيّ، وكيف يكون الأخذ بالأسباب، ومتى يتدخل عون الله ويأتي توفيقه للعبد، ومَن هو العبد المستحق للعون والتوفيق من الله عز وجل، وأن سنن الله لا تحابي أحدًا ولا تعرف مجاملة.

كل هذه المعاني القيمة والمهمة لم يكن للأمة أن تتعلمها لولا إلهام الله لرسوله r أن يتخذ ما اتخذ في رحلة الهجرة من خطوات مدروسة وتخطيط محكَم، وكان من عناصر هذا التخطيط:

اختيار رفيق الرحلة: وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان دائمًا ما يتعجل رسول الله r في الهجرة، فيستمهله رسول الله قائلاً: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا".

دقة تحديد مكان الاختباء: فرسول الله r كان يدرك أنه لن يستطيع أن يخرج مرة واحدة إلى المدينة، وكان يتوقع أن تطارده قريش بعد أن تكتشف أمر خروجه، فكان لابد من تحديد مكان ينتظر فيه حتى تكف قريش عن طلبه والبحث عنه، فكان اختيار غار ثور، ولا شك أن اختياره لم يكن اختيارًا عشوائيًّا، بل تم اختياره وفقًا لما يتميز به من وسائل الاختفاء والأمن، فهو غار يقع في جبل ثور، تتوفر فيه عناصر الاختفاء والسرية والحماية.

 اختيار البديل لينام في فراشه: فقد كان رسول الله r يعلم أن قريشًا ترصد تحركاته، وترقب داره، خاصة بعد أن قرروا قتله، وكان يعلم أنهم يتحينون فرصة نومه، وقد جاءه جبريل u، فقال له: "لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه"، وهذا من العون الإلهي، فاختار على بن أبي طالب لينام في فراشه، مُطَمْئِنًا إياه بأنه لن يصل إليه مكروه منهم، وقد فعل ذلك حتى إذا ما حاولت قريش الاطلاع على فراشه ظنوه نائمًا، فيستمرون في انتظار خروجه، مما يؤخر تحركهم للبحث عنه، ويهيئ له ولصاحبه فرصة الابتعاد عن مكة، فيكونان في مأمن منهم.

 اختيار الدليل: فكان لابد من اختيار دليل يكون على معرفة دقيقة وثيقة بدروب مكة ومسالكها حتى يتمكن من سلوك طريق آمنة وغير معهودة لأهل مكة، تحسبًا لتعقب قريش لهم، لأنهم إذا سلكوا الطريق المعهودة إلى المدينة (يثرب) لا شك أنهم سيقعون في أيديهم، كما كان يجب أن تتوفر في هذا الدليل صفات الأمانة والكتمان وحفظ السرّ حتى لا تتسرب أية معلومات عن هذا التخطيط، وكان هذا الدليل هو "عبد الله بن أُريقط (أرقط) الدَّيْلي.

 إعداد الراحلة (وسيلة النقل): وكان أبو بكر عندما قال له رسول الله r: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا" طمع أن يكون رسولُ الله هو صاحبه في الهجرة إلى يثرب، فاشترى راحلتين، واحتبسهما في داره يعلفهما استعدادًا ليوم الهجرة المبارك، فلما أكد له رسول الله صحبته له في الهجرة، دفعهما إلى الدليل يرعاهما لميعادهما.

 ضرورة معرفة أخبار قريش: فكان لابد من وجود وسيلة إعلامية تنقل لهم أخبار قريش وتحركاتهم وما يدور في أنديتهم، ومعرفة ما ينوون فعله، حتى يتحسب رسول الله r لكل شيء قبل وقوعه، وتكون تحركاته في مأمن بعيدًا عن أعين قريش ومخططاتهم، ووقع الاختيار على عبد الله بن أبي بكر ليقوم بهذه المهمة الإعلامية الدقيقة، فكان يقضي النهار مع قريش، فيسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله r وأبي بكر، وفي المساء يأتي إلى رسول الله وصاحبه فيخبرهما الخبر.

 وسيلة الإمداد بالزاد: فكان لابد من تحديد شخص يقوم بحمل الزاد والطعام إلى رسول الله r وصاحبه مدة إقامتهما في الغار، كما أنهما وقت خروجهما من الغار يحتاجان إلى زاد يكفيهما مدة الرحلة من مكة إلى المدينة، وقد وقع الاختيار على أسماء بن أبي بكر الصديق لتقوم بهذه المهمة الحيوية، فكانت تحمل إليهما في كل مساء ما يصلحهما من الطعام.

 تعفية آثار الأقدام: سيخرج رسول الله r وصاحبه في اتجاه الغار، ولا شك أن أقدامهما ستترك آثارًا على الرمال، ومن السهل التعرف عليها عن طريق قافة الأثر، وكان العرب يحسنون ذلك، والشيء نفسه يقال عن ذهاب وإياب عبد الله بن أبي بكر يوميًّا من وإلى الغار، وكذلك عن ذهاب وإياب أسماء بنت أبي بكر حاملة الطعام إليهما، لذلك كان لا بد من وجود وسيلة لإخفاء آثار الأقدام، فأوكلت هذه المهمة إلى عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر الصديق، حيث كان يرعى غنمًا لأبي بكر في رعيان أهل مكة نهارًا بالقرب من جبل ثور، وبخاصة أنه يوجد في سفح الجبل بعض المراعي، مما يتيح له الرعي دون أن يثير وجوده في هذه المنطقة انتباه أحد، أو يشك أحد فيما يفعل، فكان إذا أمسى ترقب مجيء عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء إلى الغار ونزولهما من عند رسول الله r وصاحبه، فيتتبع أثرهما بالغنم حتى يعفّىَ عليها، وبذلك يجعل منطقة الاختباء آمنة بعيدة عن الشكوك حتى يخرج منها رسول الله وصاحبه.

 دقة تحديد وقت الخروج إلى الغار وكيفيته: لا شك أن عيون مكة كانت ترصد بيت رسول الله r وطرقات مكة، وإذا أراد رسول الله أن يخرج من بيته، فلا بد من اختيار وقت غير مألوف حتى لا يراه أحد، فخرج وقت الظهيرة (في الهاجرة)، حيث شدة الحر والهجير ووقت القيلولة التي يمكث الناس فيها في بيوتهم، وتقل حركة الناس في الطرقات، وبذلك يكون في مأمن عن أعين قريش، أو أن ترصده عين أحد المارة، فأحاط خروجه بالسرية التامة، كما أنه خرج متلثمًا (أو متقنعًا)؛ تحسبًا لوجود أحد في طرقات مكة قد يراه أو يتعرف عليه، حتى وصل إلى دار أبي بكر الصديق.

 وإمعانًا في السرية لم يتحدث رسول الله مع أبي بكر إلا بعد أن تأكد أنه لا يوجد في الدار أحد من الغرباء أو الضيفان، حيث قال لأبي بكر: أخرج عني مَن عندك. ولما اطمأن رسول الله أن الموجودتين إنما هما ابنتا أبي بكر قال لصاحبه: إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة. ثم أخبره أنه سيكون صاحبه ورفيقه في طريق الهجرة، ففرح أبو بكر بذلك فرحًا شديدًا عبرت عن عائشة رضي الله عنها بقولها: فو الله ما شعرتُ قطّ قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيتُ أبا بكر يبكي يومئذٍ.

 وعندما أراد رسول الله وصاحبه الخروج من الدار لم يخرجا من الباب المعهود للدار، فربما رصدتهما عيون قريش، أو فطن إليهما أحد المارة فيشي بهما عند المشركين، لذلك وللمحافظة على سرية هذا الخروج خرجا من خَوْخَة (باب خلفي) في ظهر دار أبي بكر.

 ولتأمين طريق الخروج إلى الغار، والابتعاد عن عيون قريش، سلك رسول الله وصاحبه طريقًا غير معهودة أو معروفة لمن أراد التوجه نحو يثرب، لأن قريشًا إذا اكتشفت خروج رسول الله r، فمن المتوقع أن تبحث عنه في الطريق الشمالي تجاه يثرب، فهي تعلم أنه r يريد اللحاق بأصحابه هناك، لذلك توجه رسول الله وصاحبه جنوبًا-لا شمالاً-نحو غار ثور، وقد قلنا إنه يقع جنوبي مكة المكرمة، فكان هذا من حكمة رسول الله r وحسن تخطيطه.

 ولقد اتخذ رسول الله r قرار الهجرة-بعد أن أذن الله له بذلك-في نفس الليلة التي دبرت فيها قريش لقتله، ولا شك أنها لم تكن تعلم شيئًا عن قراره هذا، فحاصروا ببيته عندما جنَّ الليل لتنفيذ مؤامرتهم، وبعد أن أعد رسول الله r للأمر عدته وأمر على بن أبي طالب أن ينام في فراشه، خرج في سكون الليل-وكان من عون الله وتأييده أن ألقى على القوم النوم، فلم ينتبهوا إلى خروجه.

 ثم توجه رسول الله r إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي كان في انتظاره، وما إن وصل الرسول إلى الدار حتى خرج هو وصاحبه من خَوْخَة في ظهر الدار، وتوجها إلى غار ثور ليلاً، ومكثا فيه ثلاثة أيام حتى تكف قريش عن مطاردتهما والبحث عنهما.

 اكتشفت المتآمرون-بعد فوات الأوان-أن رسول الله r قد خرج من بيته، وأفلت من مؤامرتهم،  لذلك قرروا اتخاذ إجراءين مهمين لعلهما يكشفان عن مكان الرسول وصاحبه، أو-على الأقل-يساعدان في جمع معلومات عن مكان اختبائهما:  الإجراء الأول: الاستعانة بقائف للأثر (متتبع للأثر)، يتتبع أثر أقدام النبي وصاحبه لمعرفة الاتجاه الذي توجها إليه، فتتبع هذا القائف آثار الأقدام حتى وقف على باب الغار وقال: هنا انقطع الأثر، وإذا كان الجهد البشري قد انقطع، والأخذ بالأسباب قد بلغ مداه، هنا تتدخل العناية الإلهية لتكمل ما بدأه رسول الله r من تخطيط وأخذ بالأسباب للنجاة من الوقوع في أيدي المشركين، فصرفهم الله عن الغار، وألقى في قلوبهم اليأس من العثور عليهما في هذا المكان، ورجعوا من حيث أتوا، ليفكروا في وسيلة أخرى تساعدهم في الكشف عن مكانهما.

 الإجراء الثاني: اللجوء إلى أسلوب الإغراءات المادية (مائة ناقة)؛ لتشجيع من لديه معلومات عن رسول الله وصاحبه للتقدم للإدلاء بها علَّها تساعد في الكشف عن مكانهما، أو لاستنفار المجتمع المكي كله للبحث عنهما في كل مكان وفي كل اتجاه، وقد حاول سُراقة بن مالك أن يظفر بهذه الجائزة، ولكن يأتي الون الإلهي ليعرقل تقدمه نحو رسول الله وصاحبه، فأدرك أنهما محفوظان ولن يصل إليهما أحد بسوء أبدًا، فوعد رسول الله وصاحبه أنه سيخَذِّل عنهما ويضلل من يطلبهما، فكان في أول النهار طالبًا لهما، وصار في آخره مُخَذِّلاً عنهما.

  بعد مرور الأيام الثلاثة المحددة للاختفاء في غار ثور، وبعد أن يئست قريش من العثور على رسول الله وصاحبه وكفت عن طلبهما وفقًا للتقارير التي كانت تأتيهما من عبد الله بن أبي بكر، حانت لحظة الخروج منه والتوجه نحو يثرب، وكان الرسول r وأبو بكر قد اتفقا مع دليلهما أن يأتيهما بالراحلتين صبيحة اليوم الثالث من دخولهما الغار، فجاء في الموعد المحدد، وفي الساعة المتفق عليها انطلق الرسول r وأبو بكر ومعهما الدليل ليدلهما على الطريق الآمنة، ومعهما أيضًا عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ليكون في خدمتهما وتقديم العون اللازم لهما أثناء الرحلة.

 وكان المسلمون في يثرب (المدينة) يخرجون بعد صلاة الصبح من كل يوم إلى مشارف المدينة ينتظرون بلهفة وشوق قدوم رسول الله r، ولا يغادرون أماكنهم إلا بعد أن تلفحهم الشمس بحرها الشديد، حتى كان ضحى يوم الإثنين 12 من شهر ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة/ الموافق 24 من شهر سبتمبر سنة 622 م، من العام الثالث عشر للبعثة النبوية وصل رسول الله r إلى المدينة، فخرج المسلمون إليه، وما فرح أهل المدينة بشيء فرحهم برسول الله r حين قدم عليهم.

 لقد كانت الهجرة حدثًا فاصلاً في تاريخ الإسلام، تمخض عنها قيام دولته في المدينة، وإرساء ركائز المجتمع الإسلامي على أساس من الوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق، وكان رسول الله r رئيس هذه الدولة، وقائد جيوشها، وكبير قضاتها، ومعلمها الأول.

 

بقلم أ.د. محمد علي دبُّور

أستاذ التاريخ الإسلامي المشارك بجامعتي القاهرة وأم القرى

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

11212469_511275559031494_1732544914_n

من سنن الله تعالى أنه لا يمنح توفيقه لمتواكل أو متكاسل أو متسلق على أكتاف الغير، بل يمنحه سبحانه وتعالى لمن بذل الجهد والعرق وأخذ بكل الأسباب البشرية المتاحة ليصل إلى هدفه المنشود وغايته المرجوة، فبعد أن يستنفد المسلم كل وسعه ويبذل كل جهده ويأخذ بكل أسباب النجاح وتحقيق الهدف...هنا فقط يأتي العون الإلهي ليمنحه التوفيق والرشاد والهداية والحماية والرعاية حتى يصل لمبتغاه.  

هذا واحد من أهم دروس رحلة الهجرة المباركة وأعظمها، فعندما أذن الله تعالى لنبيه r بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، كان يعلم – بقينًا- أن هذه الخطوة ليست سهلة، وأنها محفوفة بالمخاطر، كما علم أيضًا بما تدبره قريش لقتله، لذا- وفي ظل هذه الوضع الحرج- بدأ r في وضع خطة محكمة للخروج من مكة، في واحدة من أجلّ ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة، واضعًا في حسبانه كل الاحتمالات حتى لا تعلم قريشٌ بأمر خروجه ولا وقتَ هذا الخروج، ويمكن القول بأنها كانت خطة سرية إلى أقصى حدٍّ، خاصة أن المشركين كانوا قد وضعوا كل تحركاته تحت الرقابة الصارمة، فلو علموا بوقت خروجه لا شك أنهم سيقفون حائلاً بينه وبين ما يريد، وربما انتهى الأمر بقتله r، فوضع لتلك الهجرة كل ما في وسع البشر وطاقتهم من وسائل تضمن لها النجاح، وخطط تحقق لها التوفيق، فإذا لم يفلح الجهد البشري بعد الأخذ بكل تلك الأسباب، فستأتي عناية الله في اللحظة المناسبة لتحمي رسول الله حتى يحقق مرغوبه وينال مطلوبه.

وربما يسأل سائل: ألم يكن في مقدور الله تعالى أن يحمل رسوله r من مكة إلى المدينة كما حمله من مكة إلى المسجد الأقصى بفلسطين (الشام) ليلة الإسراء ويتحقق الهدف دون هذا العناء وذاك العنت والتعب؟!

بلى...كان في مقدرو الله سبحانه أن يفعل ذلك وأكثر، لكنَّ هذه المرة أراد الله ورسوله أن يعلما الأمة كلها معنى التوكل الحقيقيّ، وكيف يكون الأخذ بالأسباب، ومتى يتدخل عون الله ويأتي توفيقه للعبد، ومَن هو العبد المستحق للعون والتوفيق من الله عز وجل، وأن سنن الله لا تحابي أحدًا ولا تعرف مجاملة.

كل هذه المعاني القيمة والمهمة لم يكن للأمة أن تتعلمها لولا إلهام الله لرسوله r أن يتخذ ما اتخذ في رحلة الهجرة من خطوات مدروسة وتخطيط محكَم، وكان من عناصر هذا التخطيط:

اختيار رفيق الرحلة: وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان دائمًا ما يتعجل رسول الله r في الهجرة، فيستمهله رسول الله قائلاً: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا".

دقة تحديد مكان الاختباء: فرسول الله r كان يدرك أنه لن يستطيع أن يخرج مرة واحدة إلى المدينة، وكان يتوقع أن تطارده قريش بعد أن تكتشف أمر خروجه، فكان لابد من تحديد مكان ينتظر فيه حتى تكف قريش عن طلبه والبحث عنه، فكان اختيار غار ثور، ولا شك أن اختياره لم يكن اختيارًا عشوائيًّا، بل تم اختياره وفقًا لما يتميز به من وسائل الاختفاء والأمن، فهو غار يقع في جبل ثور، تتوفر فيه عناصر الاختفاء والسرية والحماية.

 اختيار البديل لينام في فراشه: فقد كان رسول الله r يعلم أن قريشًا ترصد تحركاته، وترقب داره، خاصة بعد أن قرروا قتله، وكان يعلم أنهم يتحينون فرصة نومه، وقد جاءه جبريل u، فقال له: "لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه"، وهذا من العون الإلهي، فاختار على بن أبي طالب لينام في فراشه، مُطَمْئِنًا إياه بأنه لن يصل إليه مكروه منهم، وقد فعل ذلك حتى إذا ما حاولت قريش الاطلاع على فراشه ظنوه نائمًا، فيستمرون في انتظار خروجه، مما يؤخر تحركهم للبحث عنه، ويهيئ له ولصاحبه فرصة الابتعاد عن مكة، فيكونان في مأمن منهم.

 اختيار الدليل: فكان لابد من اختيار دليل يكون على معرفة دقيقة وثيقة بدروب مكة ومسالكها حتى يتمكن من سلوك طريق آمنة وغير معهودة لأهل مكة، تحسبًا لتعقب قريش لهم، لأنهم إذا سلكوا الطريق المعهودة إلى المدينة (يثرب) لا شك أنهم سيقعون في أيديهم، كما كان يجب أن تتوفر في هذا الدليل صفات الأمانة والكتمان وحفظ السرّ حتى لا تتسرب أية معلومات عن هذا التخطيط، وكان هذا الدليل هو "عبد الله بن أُريقط (أرقط) الدَّيْلي.

 إعداد الراحلة (وسيلة النقل): وكان أبو بكر عندما قال له رسول الله r: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا" طمع أن يكون رسولُ الله هو صاحبه في الهجرة إلى يثرب، فاشترى راحلتين، واحتبسهما في داره يعلفهما استعدادًا ليوم الهجرة المبارك، فلما أكد له رسول الله صحبته له في الهجرة، دفعهما إلى الدليل يرعاهما لميعادهما.

 ضرورة معرفة أخبار قريش: فكان لابد من وجود وسيلة إعلامية تنقل لهم أخبار قريش وتحركاتهم وما يدور في أنديتهم، ومعرفة ما ينوون فعله، حتى يتحسب رسول الله r لكل شيء قبل وقوعه، وتكون تحركاته في مأمن بعيدًا عن أعين قريش ومخططاتهم، ووقع الاختيار على عبد الله بن أبي بكر ليقوم بهذه المهمة الإعلامية الدقيقة، فكان يقضي النهار مع قريش، فيسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله r وأبي بكر، وفي المساء يأتي إلى رسول الله وصاحبه فيخبرهما الخبر.

 وسيلة الإمداد بالزاد: فكان لابد من تحديد شخص يقوم بحمل الزاد والطعام إلى رسول الله r وصاحبه مدة إقامتهما في الغار، كما أنهما وقت خروجهما من الغار يحتاجان إلى زاد يكفيهما مدة الرحلة من مكة إلى المدينة، وقد وقع الاختيار على أسماء بن أبي بكر الصديق لتقوم بهذه المهمة الحيوية، فكانت تحمل إليهما في كل مساء ما يصلحهما من الطعام.

 تعفية آثار الأقدام: سيخرج رسول الله r وصاحبه في اتجاه الغار، ولا شك أن أقدامهما ستترك آثارًا على الرمال، ومن السهل التعرف عليها عن طريق قافة الأثر، وكان العرب يحسنون ذلك، والشيء نفسه يقال عن ذهاب وإياب عبد الله بن أبي بكر يوميًّا من وإلى الغار، وكذلك عن ذهاب وإياب أسماء بنت أبي بكر حاملة الطعام إليهما، لذلك كان لا بد من وجود وسيلة لإخفاء آثار الأقدام، فأوكلت هذه المهمة إلى عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر الصديق، حيث كان يرعى غنمًا لأبي بكر في رعيان أهل مكة نهارًا بالقرب من جبل ثور، وبخاصة أنه يوجد في سفح الجبل بعض المراعي، مما يتيح له الرعي دون أن يثير وجوده في هذه المنطقة انتباه أحد، أو يشك أحد فيما يفعل، فكان إذا أمسى ترقب مجيء عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء إلى الغار ونزولهما من عند رسول الله r وصاحبه، فيتتبع أثرهما بالغنم حتى يعفّىَ عليها، وبذلك يجعل منطقة الاختباء آمنة بعيدة عن الشكوك حتى يخرج منها رسول الله وصاحبه.

 دقة تحديد وقت الخروج إلى الغار وكيفيته: لا شك أن عيون مكة كانت ترصد بيت رسول الله r وطرقات مكة، وإذا أراد رسول الله أن يخرج من بيته، فلا بد من اختيار وقت غير مألوف حتى لا يراه أحد، فخرج وقت الظهيرة (في الهاجرة)، حيث شدة الحر والهجير ووقت القيلولة التي يمكث الناس فيها في بيوتهم، وتقل حركة الناس في الطرقات، وبذلك يكون في مأمن عن أعين قريش، أو أن ترصده عين أحد المارة، فأحاط خروجه بالسرية التامة، كما أنه خرج متلثمًا (أو متقنعًا)؛ تحسبًا لوجود أحد في طرقات مكة قد يراه أو يتعرف عليه، حتى وصل إلى دار أبي بكر الصديق.

 وإمعانًا في السرية لم يتحدث رسول الله مع أبي بكر إلا بعد أن تأكد أنه لا يوجد في الدار أحد من الغرباء أو الضيفان، حيث قال لأبي بكر: أخرج عني مَن عندك. ولما اطمأن رسول الله أن الموجودتين إنما هما ابنتا أبي بكر قال لصاحبه: إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة. ثم أخبره أنه سيكون صاحبه ورفيقه في طريق الهجرة، ففرح أبو بكر بذلك فرحًا شديدًا عبرت عن عائشة رضي الله عنها بقولها: فو الله ما شعرتُ قطّ قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيتُ أبا بكر يبكي يومئذٍ.

 وعندما أراد رسول الله وصاحبه الخروج من الدار لم يخرجا من الباب المعهود للدار، فربما رصدتهما عيون قريش، أو فطن إليهما أحد المارة فيشي بهما عند المشركين، لذلك وللمحافظة على سرية هذا الخروج خرجا من خَوْخَة (باب خلفي) في ظهر دار أبي بكر.

 ولتأمين طريق الخروج إلى الغار، والابتعاد عن عيون قريش، سلك رسول الله وصاحبه طريقًا غير معهودة أو معروفة لمن أراد التوجه نحو يثرب، لأن قريشًا إذا اكتشفت خروج رسول الله r، فمن المتوقع أن تبحث عنه في الطريق الشمالي تجاه يثرب، فهي تعلم أنه r يريد اللحاق بأصحابه هناك، لذلك توجه رسول الله وصاحبه جنوبًا-لا شمالاً-نحو غار ثور، وقد قلنا إنه يقع جنوبي مكة المكرمة، فكان هذا من حكمة رسول الله r وحسن تخطيطه.

 ولقد اتخذ رسول الله r قرار الهجرة-بعد أن أذن الله له بذلك-في نفس الليلة التي دبرت فيها قريش لقتله، ولا شك أنها لم تكن تعلم شيئًا عن قراره هذا، فحاصروا ببيته عندما جنَّ الليل لتنفيذ مؤامرتهم، وبعد أن أعد رسول الله r للأمر عدته وأمر على بن أبي طالب أن ينام في فراشه، خرج في سكون الليل-وكان من عون الله وتأييده أن ألقى على القوم النوم، فلم ينتبهوا إلى خروجه.

 ثم توجه رسول الله r إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي كان في انتظاره، وما إن وصل الرسول إلى الدار حتى خرج هو وصاحبه من خَوْخَة في ظهر الدار، وتوجها إلى غار ثور ليلاً، ومكثا فيه ثلاثة أيام حتى تكف قريش عن مطاردتهما والبحث عنهما.

 اكتشفت المتآمرون-بعد فوات الأوان-أن رسول الله r قد خرج من بيته، وأفلت من مؤامرتهم،  لذلك قرروا اتخاذ إجراءين مهمين لعلهما يكشفان عن مكان الرسول وصاحبه، أو-على الأقل-يساعدان في جمع معلومات عن مكان اختبائهما:  الإجراء الأول: الاستعانة بقائف للأثر (متتبع للأثر)، يتتبع أثر أقدام النبي وصاحبه لمعرفة الاتجاه الذي توجها إليه، فتتبع هذا القائف آثار الأقدام حتى وقف على باب الغار وقال: هنا انقطع الأثر، وإذا كان الجهد البشري قد انقطع، والأخذ بالأسباب قد بلغ مداه، هنا تتدخل العناية الإلهية لتكمل ما بدأه رسول الله r من تخطيط وأخذ بالأسباب للنجاة من الوقوع في أيدي المشركين، فصرفهم الله عن الغار، وألقى في قلوبهم اليأس من العثور عليهما في هذا المكان، ورجعوا من حيث أتوا، ليفكروا في وسيلة أخرى تساعدهم في الكشف عن مكانهما.

 الإجراء الثاني: اللجوء إلى أسلوب الإغراءات المادية (مائة ناقة)؛ لتشجيع من لديه معلومات عن رسول الله وصاحبه للتقدم للإدلاء بها علَّها تساعد في الكشف عن مكانهما، أو لاستنفار المجتمع المكي كله للبحث عنهما في كل مكان وفي كل اتجاه، وقد حاول سُراقة بن مالك أن يظفر بهذه الجائزة، ولكن يأتي الون الإلهي ليعرقل تقدمه نحو رسول الله وصاحبه، فأدرك أنهما محفوظان ولن يصل إليهما أحد بسوء أبدًا، فوعد رسول الله وصاحبه أنه سيخَذِّل عنهما ويضلل من يطلبهما، فكان في أول النهار طالبًا لهما، وصار في آخره مُخَذِّلاً عنهما.

  بعد مرور الأيام الثلاثة المحددة للاختفاء في غار ثور، وبعد أن يئست قريش من العثور على رسول الله وصاحبه وكفت عن طلبهما وفقًا للتقارير التي كانت تأتيهما من عبد الله بن أبي بكر، حانت لحظة الخروج منه والتوجه نحو يثرب، وكان الرسول r وأبو بكر قد اتفقا مع دليلهما أن يأتيهما بالراحلتين صبيحة اليوم الثالث من دخولهما الغار، فجاء في الموعد المحدد، وفي الساعة المتفق عليها انطلق الرسول r وأبو بكر ومعهما الدليل ليدلهما على الطريق الآمنة، ومعهما أيضًا عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ليكون في خدمتهما وتقديم العون اللازم لهما أثناء الرحلة.

 وكان المسلمون في يثرب (المدينة) يخرجون بعد صلاة الصبح من كل يوم إلى مشارف المدينة ينتظرون بلهفة وشوق قدوم رسول الله r، ولا يغادرون أماكنهم إلا بعد أن تلفحهم الشمس بحرها الشديد، حتى كان ضحى يوم الإثنين 12 من شهر ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة/ الموافق 24 من شهر سبتمبر سنة 622 م، من العام الثالث عشر للبعثة النبوية وصل رسول الله r إلى المدينة، فخرج المسلمون إليه، وما فرح أهل المدينة بشيء فرحهم برسول الله r حين قدم عليهم.

 لقد كانت الهجرة حدثًا فاصلاً في تاريخ الإسلام، تمخض عنها قيام دولته في المدينة، وإرساء ركائز المجتمع الإسلامي على أساس من الوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق، وكان رسول الله r رئيس هذه الدولة، وقائد جيوشها، وكبير قضاتها، ومعلمها الأول.