الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
قال تعالى : {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [سورة البقرة].
الإيمان يعقبه النور والنفاق يجلب الظلمات:
إن الله سبحانه شبه المنافقين فى اشترائهم الضلالة بالهدى وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى برجل استوقد نارا، فلما أضاءت هذه النار ما حوله وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وأحس بالأنس بعد الوحشة، انطفأت هذه النار، وصار فى ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، فإذا أضفنا إلى هذا أنه أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك فكذلك هؤلاء المنافقون فى استبدالهم الضلالة بالهدى، والغى بالرشد.إنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورًا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك، فوقعوا فى حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
ومثل آخر ضربه الله تعالى لهم وهو مثل قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم فى حال شكهم وكفرهم وترددهم (كصيب) والصيب المطر قاله ابن مسعود وابن عباس وعدد من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصرى وقتادة وعطية العوفى وعطاء الخرسانى والسدى والربيع بن أنس.وقال الضحاك: هو السحاب ولكن الأشهر هو المطر الذى نزل من السماء فى حال ظلمات وهى الشكوك والكفر والنفاق ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف، والبرق هو ما يلمع فى قلوب هؤلاء الصنف من المنافقين فى بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال – تعالى - : {يجعلون أصابعهم فى آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين} فلا يجدى عنهم حذرهم شيئا.
الكفر والنفاق ينكت على القلوب حتى يغشى عليها:
إن كفر الكفار بآيات الله ورسالات الرسل والكتب السماوية هو الذى ينكت على قلوبهم حتى يغشى هذه القلوب، وقد ورد فى صحيح الترمذى عن أبى هريرة عنه – صلى الله عليه وسلم - أنه قال ((إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت فى قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذى ذكر الله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}))
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)إن هؤلاء الكفار الذين منحهم الله الحواس فى أجسادهم وذُكر منها على سبيل المثال السمع والبصر، كونهما أعظم حاستين من حواسهم، ينبهنا تعالى ويذكرنا أن مقصد هذه الحواس هو أن نتذكره بها سبحانه، وكى تبقى هذه الذكرى حية فى أذهاننا وحاضرة أمامنا فقد جعل سبحانه كل خلقه آياتٍ بيناتٍ تدل عليه وعلى عظمته ، فآيات الله موجودة فى أنفسنا وفى الطعام وفى الماء وفى الشجر وفى الحجر وفى الهواء وفى الأنهار، وفى البحار وفى السماء وفى الكواكب وفى النجوم، آيات الله موجودة فى كل شيء، فعلينا عندما نستشعر أى آية من هذه الآيات عبر أى حاسة من الحواس التى أنعم علينا بها، علينا أن نتذكره سبحانه ونستشعر عظمته وبالتالى ندرك ضعفنا، ونتذكر أن الله هو خالق كل شيء ومالك كل شيء ومبدع كل شيء، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وأننا عائدون له لا محالة، وأنه سيسألنا ويحاسبنا على كل ما عملناه فى الدنيا، فإن كنا من العقلاء الباحثين عن خير أنفسهم، فإننا كلما سمعنا كلمة وكلما رأينا صورة تذكرنا بها الله .
والأصم هو الذى لا يسمع بتاتا، فنحن نقول حجرٌ أصم، فالكافر -وبخلاف المؤمن- عندما يسمع صوتاً لآيةٍ من آيات الله، سواء أكان صوتَ إنسانٍ أو طائرٍ أو دابةٍ أو ريحٍ أو شجرٍ أو حجرٍ أو ماء أو أى صوتٍ آخر فإنه لا يتذكر الله بهذا الصوت، وبهذا فإن حاسة السمع التى منحه إياها سبحانه ما قامت بعملها المهم والمعتبر وهو تذكر الله، وتذكر العهد، والاستقامة لأوامر الله والانتهاء عن نواهيه، فكان هذا الكافر بحكم الأصم عند الله، مع أنه يسمع، يقول تعالى {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام 39]. ويقول تعالى{أَفَلَم يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَو ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} [الحج: 46]، بمعنى أن كل الفوائد الأخرى التى يتحصل عليها الكافر من سمعه فى الدنيا مع إنكاره وحدانية الله ستصبح سبباً فى حسرته يوم القيامة، يقول تعالى {قَد خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُم يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُم عَلَى ظُهُورِهِم أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}[الأنعام 31}، ويقول تعالى{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزُمر: 56]
والأبكم هو الذى لا يعرف مصلحة نفسه ولا يعرف كيف يقوم بتفهيم حاجته لغيره، فالبكم علة بجهازين، جهاز (العقل) وهو الفؤاد وهو محط العقل والفهم وجهاز (النطق) بوحداته المختلفة الذى يقوم بنطق الكلمات، وهذا بخلاف الأخرس الذى يعقل مراده ويعرف حاجته، ولكنه لا يستطيع نطق الكلمات المعبرة عن حاجته لعلة فى جهاز النطق، فيستعيض عن نطق الكلمات باستخدام الإشارة، وقد توسط البكم بين الصمم والعمى لعلاقته الوثيقة بما قبله وما بعده، فالأصم هو الذى يسمع ما يدله على الله وعظمته، ومن المفترض أن يسبح الله ويعظمه ما إن يسمع ما دله على الله، ولكن لمرض فى قلبه كعلة الأبكم فى فؤاده فإنه يبقى صامتاً مغطياً لنعمة الله عليه، فعدم الشكر هنا هو كفر، يقول تعالى{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]، وهذه العلاقة بين الصمم والبكم هى نفسها العلاقة بين العمى البكم، فالأعمى هو الذى يرى آيات الله الدالات على عظمته ولكنه لا يذكر الله ولا يعظم الله ويغطى هذه النعمة بكفره.
والأعمى هو الذى لا يرى بالكلية بخلاف الكفيف الذى قد يرى بصيص النور من خلف علته المانعة للرؤية، فعندما نقول: إن هذا الإنسان يحيى على الكفاف، نعنى أن لديه القليل الذى يعيش عليه، فهو تعالى يشبه حال الكافر الذى يرى ولا تذكره الصور التى يراها بذات الله وعظمته والعهد الذى بينه وبين الله، يشبهه بحال الأعمى الذى لا يرى بتاتاً، فكل الصور التى رآها فى حياته ستكون سبباً لحسرته فى الآخرة لقاء تكذيبه بوحدانية الله، يقول - تعالى - : {قَد جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَبِّكُم فَمَن أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَن عَمِى فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]، ويقول تعالى {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قَوْماً عَمِينَ} [الأعراف: 64]. ويقول تعالى {أَفَلَم يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَو ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ } [الحج : 46].
{فَهُم لَا يَرْجِعُونَ}
إن مقصد الحواس التى أنعم الله بها علينا هو استشعار آيات الله فى كل شيء ثم تذكر العهد الذى بيننا وبين الله، ثم الاستقامة على الصراط المستقيم فى اتباع أوامر الله والانتهاء عن نواهيه، وعدم تذكر هذا العهد من هذه الآيات هو بمثابة كذب من هذا الإنسان على الله، يقول : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام: 39].فالمعاصى وعدم الطاعة كلها أفعال تدل على تكذيب العبد بالعهد الذى بينه وبين الله، لذلك أعقب تعالى قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُم أَم لَمْ تُنذِرْهُم لَا يُؤْمِنُونَ} أعقبه بعد عدة آيات بقوله : {فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، فكانت كلمة (يكذبون) تفسيراً وتوضيحاً لكلمة (كفروا)، والكذب هو أخطر أمراض القلوب، ولا يصح للمسلم أن يكون كاذباً، فالكافر مكذب بآيات الله، وهذا التكذيب يؤدى إلى اسوداد قلبه ، يبدأ الأمر بالنكات ثم يتسع ليصبح غشاء فأغشية فأغلفة فأغطية فأكنة، فإن لم يستغل العبد فرص الله الممنوحة له من الله بالاستغفار والتوبة والعودة، يُطبع على قلبه، بمعنى أن عدم طاعته لله وأن معصيته لله يصبحان أمران طبيعيان يقوم بهما بلا تأنيب ضمير فلا تقوى فى النفس تلومه على ما يفعله، فإن وصل لهذا الحد وطبع على قلبه يغلف هذا القلب بهذا الران السميك المانع لنور القلب من إنارة الطريق له يقول - تعالى - : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِم ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}[آل عمران: 90]، ويقول – تعالى - : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُم سَبِيلاً} [النساء: 137].
فجزاء هذا الصنف من الناس هو الطبع على القلب نسأل الله أن يعافينا منه .
قال بعض العلماء : الطبع علامة تدل على كنه الشيء وقيل: طبع الإنسان لدلالته على حقيقة مزاجه قال وطبع الدرهم علامة جوازه. بمعنى أن الختم هو انغلاق القلب نتيجة المعاصى فى حين لا زال طريق العودة للطاعة بالتوبة والاستغفار مفتوحاً، أما الطبع فيدل على أن المعصية أصبحت متأصلة فى فاعلها فهى طبعه وهى طبيعته، ولا يستطيع تركها أو العودة عنها.ومع أن كلاً ممن ختم على قلبه أو من طبع على قلبه لا يستطيع بذاته العودة للحال الأولى التى خلقه الله عليها من تلقاء نفسه بل يجب أن يعيده خالقه لهذه الحالة، إلا أننا وبالرجوع للآيات سنجد أن الله قد جاء على ذكر (الختم)، فى قوله – تعالى - : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى أَبْصَارِهِم غِشَاوَةٌ وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ}، ولم يأتى على ذكر (الطبع)، مما يدل على أنه قوله (فهم لا يرجعون) إنما تعود على أن هؤلاء الكفار الذين قالوا لله (بلى) فى السماوات وقالوها كذباً، فكان هذا الكذب على الله هو أكبر المعاصى وكانت نتيجته أن خُتمت قلوبهم، وما كان بإمكانهم أن يتوبوا أو يأبوا أو أن يُغفر لهم، واستحقوا على هذا الكذب العذاب الأليم ، وما عاد بيدهم حيلة ليرجعوا عما فعلوا، إلا أن كرم الله ورحمته سبقت عذابه فأعطاهم الفرصة بقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، فأنار الله قلوبهم من جديد وأعطاهم فرصةً أخرى بأن أهبطهم إلى الأرض يروا آيات الله ويختبروها، وتأتيهم رسله وأنبياءه وكتبه، فكانت هذه حياة جديدة وفرصة ثانية برحمته.
التكذيب بالحق والإعراض عن الهدى يعيد الكافر لحالة الصمم والعمى:
بعد أن ماتت قلوب الكفار بتكذيبها بآيات الله الكونية، جاءت بعثة الرسل والأنبياء والكتب السماوية، ودبت الحياة فى قلوب الكفار من جديد، فالأنبياء هداة مهديين يهدون للصراط المستقيم وعلينا الاقتداء بهم للوصول لطريق الهداية، يقول تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه قُلْ لَّا أَسْئَلُكُم عَلَيْهِ أَجْراً إِن هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90].وهناك العديد من الآيات التى تبين كيفية عودة الكافر لحالة العمى والصمم من خلال تكذيب رسالة رسوله، يقول تعالى : {قَد جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَبِّكُم فَمَن أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَن عَمِى فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104] ويقول تعالى {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِم رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُم رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُم فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ * وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 70-71] ويقول تعالى {وَمِنْهُم مَن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَو كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} [يونس : 42] ويقول تعالى {وَمِنْهُم مَن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِى الْعُمْى وَلَو كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} [يونس: 43] ويقول {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى عَن ضَلَالَتِهِم إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِأَيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ} [النمل: 81-82]ويقول {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم: 52] ويقول - عز وجل: {وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْى عَن ضَلَالَتِهِم إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ}[الروم: 53] ويقول – تعالى - : {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَو تَهْدِى الْعُمْى وَمَن كَانَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الزخرف43: 40].
إن الله يمنح الكافر الكثير من الفرص للنجاة والفوز بالجنة، فبعد أن ختم الله على قلب كل كافر فى السماوات بران غليظ عندما قال (بلى) كذباً على الله، جلى له الله قلبه بنفس الكلمة لأنها إشارة الطاعة ثم أهبطة للأرض مانحاً إياه فرصةً ثانيةً يرى فيها آيات الله فيصدق بها فيقول (لا إله إلا الله) أو ما يدله عليها، ولكن الكافر أعرض أيضاً عن آيات الله الكونية حتى ران على قلبه من جديد بما كسبت يديه بتكذيبه أن هذه الآيات من صنع الله وخلقه، فمات قلبه وخُتم عليه من جديد، ولكن رحمة الله التى تسبق عذابه أرسلت له الأنبياء والرسل والكتب السماوية.
من خصائص السَّمع الممدوح فى القرآن الكريم هي: الفهم لما يُلقى، والاستجابة للأوامر، والانتهاء عن الموانع، فإذا تخلَّف الفهم، أو الطاعة والاستجابة، كان النَّفى للسمع، وهذا فى حق المؤمنين والكافرين.
فالإعراضُ عن الحق هو إعراضٌ عما سُمع، فيكون فى حكم الأصم؛ لذا قال عنه تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 7] ، فهو سمع لكن لم يستجب، فكان فى حكم من لم يسمع؛ لأنَّ الغاية من الخطاب لم تتحقق، فاستوى وجوده بعدمه، حال مقابلته بالرَّفض والعصيان {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198]، {إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14]؛ فالأول هو نَفْى لإدراك الأصوات فى حقِّ الموتى، والثانى نفى للرد من طرف الموتى، فكانت النتيجة أنَّهم لا يسمعون.
وتعطُّل السمع - سمع الاستجابة والهداية التوفيقيَّة - إنَّما يكون لتعطل مَحل الإدراك، وهو القلب؛ لذا جُمعا فى الختم فى كذا آية، وأُفرد البصر بالغشاوة والغطاء، بل صرح بذلك فى آية: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100]؛ أي: لا يسمعون ما ينفعهم للهداية؛ بل ما يقيم عليهم الحجة فقط، فهم يفهمون ويُدركون بالسمع ما قيل؛ لكن قلوبهم لا تقتنع، وصدورهم لا تنشرح للحق، فاستوى السَّمع والصمم؛ لأنَّ الاستجابة منتفية، وإن كان الإدراكُ للأصوات، وفهم الكلام قائم؛ فالعمل بموجبه مُتخلف عنه، وهذا قطع للغاية من الخطاب بالأمر أو النَّهي؛ لذا قال تعالى لنبيه عن موقف الناس من دعوته: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]؛ أي: يستجيبُ لدعوتك، ويلبِّى رسالتك، وينقادُ لأمرك ونَهيك، الذين يسمعون بقلوبهم ما ينفعهم، وهم أولو الألباب والأسماع والأبصار.
والمراد بالسَّماع هنا: سماع القلب والاستجابة، وإلاَّ فمجرد سماع الأذن يشترك فيه البر والفاجر.
فكل المكلفين قامت عليهم حُجة الله - تعالى - باستماع آياته، فلم يبقَ لهم عذر بعدم القَبول؛ إذ حقيقةُ السماع تنبيه القلب على معانى المسموع، وتحريكه عنها؛ طلبًا وهربًا، وحبًّا وبُغضًا، فهو قائد لكل أحد إلى وطنه ومألفه.لذا نَجد أصحاب السماع أصناف، فمنهم:
1- من يسمع بطبعه ونفسه وهواه، وهذا حظُّه من مسموعه ما وافق طبعه.
2- ومن يسمع بحاله وإيمانه ومعرفته وعقله، وهذا يفتح له من المسموع بحسب استعداده وقوته ومادته.
3- ومَن يسمع بالله، لا يسمع بغيره، وهذا أعلى سماعًا، وأصح من كل أحد.والمسموع على ثلاثة أضرُب فى القرآن الكريم:
أحدها: مسموع يُحبه الله ويرضاه، وأمر به عباده، وأثنى على أهله، ورَضِى عنهم به؛ {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83].الثاني: مسموع يبغضه ويكرهه، ونَهى عنه، ومدح المعرضين عنه؛ {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140].
الثالث: مسموع مباحٌ مأذون فيه، لا يُحبه ولا يُبغضه، ولا مدح لصاحبه ولا ذمه، فحكمه حكم سائر المباحات؛ من المناظر والمطعومات والملبوسات، فمن حرَّم هذا النوع، فقد قال على الله بغير علم، ومَن جعله قربة إلى الله، فقد كذب على شرعه، وجعل من دينه ما ليس منه.
أما الضرب الأول، فهو أساس الإيمان الذى يقوم عليه، وهو على ثلاثة أنواع:
1- سماع الإدراك: ففى قوله حكاية عن مُؤمنى الجن قولهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1 - 2]، فهذا سماع اتَّصل بالأذن.2- سماع الفهم: وهو المنفى عن أهل الأعراض والغفلة؛ {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم: 52]، فالتخصيص هنا لسماع الفهم والعقل، وإلاَّ فالسمع العام الذى تقوم به الحجة لا تخصيصَ فيه، مثل ذاك: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]؛ أي: لو علم فيهم قبولاً وانقيادًا، لأفهمهم فهم هداية، أمَّا فهم الإدراك، فقد حصل وأعرضوا بعده، فهُمْ سمعوا سَمع الإدراك؛ لكن لم يستجيبوا؛ لأنَّ فى قلوبهم مِن دَاعى التولِّى والإعراض ما يَمنعهم عن الانتفاع بما سمعوا.
3- سماع القبول والإجابة؛ كما فى الآية: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، فإن هذا سمعُ قَبول وإجابة مثمرة للطاعة، والتحقيق أنَّه متضمن للأنواع الثلاثة، فقد أخبروا بأنَّهم أدركوا المسموع وفهموه واستجابوا له.
ومن سَمْعِ القَبول قوله - تعالى -: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]؛ أي: قابلون مستجيبون لهم.
وسماع خاصَّة الخاصة من المقربين هو سماع القرآن يُتلى بالاعتبارات الثَّلاثة، إدراكًا، وفهمًا، وقبولاً وإجابة، وكل سَماع فى القرآن مَدَحَ الله أصحابَه، وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه - فهو هذا السماع، سماع كلام ربِّ العالمين، وسماع المواعظ، وكلام الأنبياء والمرسلين، وهذا النَّوع هو حادى القلوب إلى جوار علاَّم الغيوب، وسائق يسوق الأرواحَ إلى ديار الأفراح، ومحرك يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات، وأرفع الدَّرجات، ومنادٍ يُنادى للإيمان، ودليلٌ يسير بالركب فى طريق الجنان، وداعٍ يدعو القلوب بالمساء والصباح من قبل فالقِ الإصباح: “حى على الفلاح، حى على الفلاح”، فلم يعدم من اختار هذا السماع؛ إرشادًا لحجةٍ، وتبصرة لعبرةٍ، وتذكرة لمعرفة، وفكرًا فى الآية، ودلالة على رشد، وردًّا على ضلالة، وإرشادًا من غَيٍّ، وبصيرة من عمى، وأمرًا بمصلحة، ونهيًا عن مضرة ومفسدة، وجلاء بصيرة، وحياة لقلب، وغذاء ودواء وشفاء، وعصمة ونَجاة وكشف شبهة، وإيضاح بُرهان، وتحقيق حق، وإبطال باطل.
الصمم والعمى القلبي:
فى آيات كثيرة من القران الكريم يتعدد الخطاب ويتنوع الأسلوب القرآنى فى بيان نعمتى السمع والبصر . فبوجود هاتين الحاستين وسلامتهما يكون الإنسان مدركا وعاقلا , ومميزا بين الخير والشر والحق والباطل , ومأمورا بالبحث والنظر فى الكون بتأمل وتدبر .فمن وراء السمع الظاهر والإبصار الظاهر هناك سمع آخر وإبصار آخر يسمع به المؤمنون ويبصر به الموقنون ومن عداهم من الكافرين والمنافقين لا يسمعون ولا يبصرون، فقد عطلوا ما وهبهم الله من أدوات الفهم والإدراك والتدبر . فنعى عليهم ذلك بقوله سبحانه تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [لأعراف:179]
وقوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْى وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: 42-43] .وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].
وهناك أسباب تؤدى بالمرء إلى الإعراض عن ذكر الله وتدعوه إلى الانصراف عن التعلق بخالقه جل وعلا وتهوى به بعيداً عن سبيل النجاة وطريق الفلاح .
أسباب الإعراض عن ذكر الله تعالى :
أولاً : ضعف الإيمان فتدخل بذلك رياح الشرك إلى القلب والنفس.ثانياً : الكبر والخيلاء فالكبر يدفع إلى جحود الحق والكفر بالنعمة .
ثالثاً : الأمن من عذاب الله وعدم الخوف من عقابه بسبب طول الأمد فى النعمة والرخاء مما قد يولد قسوة فى القلوب .
رابعاً : اتباع الشهوات والمطامع الدنيوية العاجلة ونسيان الآخرة وما أعده الله للمؤمنين فيها من النعيم المقيم الذى لا يخالطه كدر وما توعد به الكافرين من العذاب الأليم .
خامساً : موت القلب فالقلب الحى حياته ذكر الله واطمئنانه بترديد الأذكار والأدعية .
فالوجل والخوف عند سماع ذكر الله من علامات القلب الحى فهذا الوجل والخوف يبعث على الاطمئنان، أما إذا مات القلب وعلاه الران، فإنه لا يدل صاحبه على الخير ولا يوجهه إلى ذكر الله .
سادساً : الذنوب والمعاصى : فهى من أبرز الأمور التى تجعل المرء يعرض عن ذكر ربه بل إنها إذا زادت وكثرت حجبت القلب عن ربه جل وعلا .
نسأل الله أن ينجينا ويحفظنا من ران القلب وغشاوة البصر وصمم السمع إنه نعم المولى ونعم النصير .
التفسير الموضوعي للقرآن الكريم سورة البقرة (4) للأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة