الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
قال – تعالى - : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِى رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) [ البقرة / 21-29]
نعمة الخلق أول النعم وأجلها:
خلق الله آدم من تراب الأرض ومن مائها، ومرّ بمراحل الطين ثم الصلصال ثم الحمأ المسنون، ثم كانت التسوية والتصوير على الشكل الآدمي، وأما الخلق الثانى وهو ما يجرى فى القرار المكين الذى هو رحم المرأة، ففيه تلتقى نطفة الرجل مع نطفة المرأة وتتحول بعد ذلك إلى قطعة دم لِزَجٍ هى المضغة، وتتوالى عمليّةُ النموّ لتأتى مرحلة العظام، وبعد ذلك تُكْسَىٰ العظام اللحمَ، إلى أن تأتى عملية الولادة، ويأتى المولود مُتَلَبِّسًا بنعم كثيرة صادرًا عن نعم كثيرة، ومما يتلبس به من النعم، نعمة العقل ونعمة الهداية. قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلٰلَةٍ مِّنْ طِيْنٍ(12) ثُمَّ جَعَلْنٰهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِيْنٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْـمُضْغَةَ عِظٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظٰمَ لَحْمًاق ثُمَ أَنْشَأْنٰهُ خَلْقًا آخَرَط فَتَبٰرَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخٰلِقِيْنَ(14)} [المؤمنون: 12-14].لم تكن نعمة الخلق مقصورة على إيجاد الإنسان من العدم؛ ولكنها تشمل أيضًا الكونَ الذى يعيش فيه الإنسان، فهناك خلق الكون بسماواته وأراضيه، ومياهه وأنهاره، وكذلك خلق الحيوان والنبات والفواكه والثمار، قال تعالى: {فَاَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنّٰتٍ مِّنْ نَخِيْلٍ وَّ أَعْنَاب لَكُمْ فِيْهَا فَوَاكِهُ كَثِيْرَةٌ وَّمِنْهَا تَأْكُلُوْنَ}[ المؤمنون:19]. وقال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِى الْاَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِى بُطُوْنِه مِنْم بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشِّرِبِيْنَ} [النحل:66].
وقال تعالى: { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}[الإنسان:1]. فلم نكن فى عالم الذكرى، ولم نكن فى عالم الوجود، وكنا لا شيء.
ولقد من الله تعالى على عبده زكريا عليه السلام؟ منَّ عليه بهذه النعمة فقال له {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9].
فمفهوم النعمة الأولى هو وجودنا على غير مثال سابق، لا أناساً آخرين، ولا أشياء أخر، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2].فلم يكن يعلم الإنسان - وهو يتكبر على الخلائق- أنه لا شيء كان.
فهى النعمة، وهى السر الإلهى الداعية نبى البشر للتأمل إذا عقلوا.شكر نعمة الخلق هو إخلاص العبادة لله وحده:
الخطاب فى قوله (يا أيها الناس) عام يشمل جميع الناس، فالكل مأمور بعبادة الله، كما قال تعالى : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.والأمر بالعبادة (اعبدوا ربكم) يشير إلى الدوام، فقد أطلق الأمر بالعبادة، ولم يقيده بزمن، وقد يغفل كثير من الناس عن هذا الأمر، ويظنُّ أن العبادة أفعال مخصوصة، والأمر ليس كذلك، بل كل فعل نوى فيه العبد طاعة الله، فهو عبادة، وإن كان من المباحات.
ثم إنه لا يوجد حال من الأحوال تمرُّ بالإنسان تمنعه من العبادة إلا إذا فقد عقله وتمييزه، لذا على العبد أن يستطلع أنواع العبادات التى يمكنه أن يؤديها فى هذه الأحوال.وإن من الأمور المهمة التى يجب أن ينتبه المسلم لها أن العبادة لا تنقطع عنه، فإن سُجِن فله عبودية يلزمه تحقيها، وله فى يوسف عليه الصلاة والسلام قدوة، وإن مرض، فله عبودية، وله فى أيوب عليه الصلاة والسلام قدوة، وهكذا غيرها من أحوال الدنيا التى تمر بالإنسان.
فتحقيق العبودية فى قوله: (اعبدوا ربكم) أمر لازم، وعلى العبد أن يبحث عن أنواع العبادات التى تناسبه ليلتزمها، كما أرشد النبى صلى الله بعض أصحابه إلى أنواعٍ من العبادات تتناسب معهم.
وإذا تأملت الآيات وجدته ابتدأ باسم الربوبية لما كان بالأمر بعبادته، ثمَّ علل ذلك الأمر، وبين سبب كونه مستحقًا للعبادة، فهو المستحق للعبادة لأنه ربكم، ولأنه خلقكم وهيأ لكم السماء والأرض والماء لتسكنوا وتنعموا بخيراتها.
ولما دلَّل الله سبحانه وتعالى على استحقاقه للعبودية، ظهر باسم الألوهية فقال: {فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون}، فلا يجوز أن يصرف شيء من أعمال العبادة لغير الله، كائنًا من كان هذا الشيء.
والمراد بها أن يكون العبد مُحبًا لله تعالى، ومحبته له منتهى الحب، لذا يفعل العبادات بدافع محبته لله وخوفه ورجائه له، طلبًا فى إرضاء محبوبه، فالذى دفعه لفعل العبادة هو محبته له - عزَّ وجلَّ – وهو أعظم ركن فى العبوديــة، فمن لا يحب الله لم يكن عابدًا، وليس فى الوجود من هو أجدر من الله – تعالى – بأن يُحَب، فهو صاحب الفضل والإحسان، الذى خلق الإنسان ولم يكن شيئًا مذكورًا، وخلق له ما فى الأرض جميعًا، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وخلقه فى أحسن تقويم، وصوَّره فأحسن صورته وكرَّمه وفضَّله على كثيرٍ ممَّن خلقه، ورزقه من الطيبات وعلَّمه البيان واستخلفه فى الأرض، ونفخ فيه من رُوحه، وأَسجَدَ له ملائكته، فمن أولى من الله بأن يُحب؟!
قال ابن القيم – رحمه الله – فى شأن محبة الله: ((وهى المنزلة التى فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبـُّون، وبرُوح نسيمها تروّح العابدون؛ فهى قُوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرَّة العيون، وهى الحياة التى مَن حُرمها فهو من جملة الأموات.والنور الذى من فقده فهو فى بحار الظلمات. والشفاء الذى من عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذَّة التى من لم يظفر بها فعيشه كلُّه هموم وآلام. وهى رُوح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال. التى متى خلت منها فهى كالجسد الذى لا رُوح فيه. تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلاَّ بشقِّ الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوِّؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهى مطايا القوم التى مراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب. وطريقهم الأقوم الذى يُبلِّغهم إلى منازلهم الأولى من قريب.
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدَّر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أنَّ المرء مع من أحب، فيا لها من نعمةٍ على المحبِّين سابغة..
تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون. وقد تقدَّموا الركب بمراحل وهم فى سيرهم واقفون.من لى بمثل سيرك المدلَّل
تمشى رويدًا وتجيء فى الأوَّل؟!
أجابوا منادى الشوق إذ نادى بهم «حى على الفلاح»، وبذلوا نفوسهم فى طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضا والسماح. وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح.تالله لقد حمدوا عند الوصول سُراهم , وشكروا مولاهم على ما أعطاهم. وإنما يحمد القوم السُّرَى عند الصباح [مدارج السالكين لابن القيم (3/6، 7)].
تحدى المكذبين بالقرآن بأن يأتوا بسورة من مثله وعجزهم من أعظم الأدلة على إعجاز القرآن وصدق النبى صلى الله عليه وسلم :
لقد كان دواء إنكار الكافين بالتحدي، فإن كنت مرتابون من أن ما جاء به محمد من القرآن ليس من عند الله، فإنه بشرٌ مثلكم، ويملك من أدوات البيان ما تملكون، فأتوا بسورة من مثل ما تدَّعون أنه أتى بها، ولا تكتفوا بهذا، بل اطلبوا من أعوانكم أن يعينوكم على ذلك، وإن فعلتم فإنكم لن تستطيعوا أن تأتوا بسورة من مثله، ولما كان الأمر كذلك، فإنه يلزمكم الإيمان بكونه من الله، ثم يلزمكم بعد ذلك تحقيق العبودية لله باتقاء النار التى وقودها الناس والحجارة.وقد تكرر هذا التحدى للكفار أن يأتوا بمثل القرآن فى عدد من المواضع :
1- {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38].2- {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].
3- {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى إِجْرَامِى وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35].
4- {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3].
5- {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف: 8].
نلاحظ أنه لدينا خمس أسئلة وهى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ؟) ولدينا خمس إجابات كما يلي:
1- تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة مثل القرآن فقال فى الآية الأولى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}.
2- تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثل القرآن، فقال فى الآية الثانية {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}.
3- بيَّن لهم أن الرسول لو كان كاذباً فإنما كذبه على نفسه ولن يضرهم شيئاً، فقال فى الآية الثالثة: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى إِجْرَامِي}.
4- بيَّن لهم أن كلامهم غير صحيح وأن القرآن حق من عند الله تعالى، فقال فى الآية الرابعة: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}.
5- بين لهم أنه لو كذب على الله فمن يحميه من الله؟ فقال فى الآية الخامسة والأخيرة: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}.الهداية للحق والتسليم به نعمة من الله وفضيلة فى العبد وسبب من أسباب التقوى:
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}.يأتى الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بالنتيجة قبل أن يتم التحدي. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أنهم لن يفعلوا ولن يستطيعوا.
إن قوله سبحانه: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} معناه أنه حكم عليهم بالفشل وقت نزول القرآن وبعد نزول القرآن إلى يوم القيامة، لأن الله لا يخفى عن علمه شيء. فهو بكل شيء عليم. وكلمة “لم تفعلوا” عندما تأتى قد تثير الشك. فنحن نعرف أن مجيء إن الشرطية يثير الشك؛ لأن الأمر لكى يتحقق يتعلق بشرط. وأنت إن قلت: إن ذاكرت تنجح، ففى المسألة شك، أما إذا قلت كقول الحق {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فمعنى ذلك أن نصر الله آت لا محالة.و”إن” حرف و “إذا” ظرف، وكل حدث يحتاج إلى مكان وزمن. فإذا جئت بأداة الشرط فمعنى ذلك أنك تقربها من عنصر تكوين الفعل والحدث. فإذا أردت أن تعبر عن شيء سيتحقق تقول إذا، وإذا أردت أن تشكك فيه تقول “إن” والله سبحانه وتعالى قال “فإن لم تفعلوا” ولأن الفعل ممكن الحدث أراد أن يرجح الجانب المانع فقال “ولن تفعلوا” هذا أمر اختياري. فإذا تكلمت عن أمر اختيارى ثم حكمت أنه لن يحدث. فكأن قدرتك هى التى منعته من الفعل. فلا يقال أنك قهرته على ألا يفعل. لا. علمت أنه لن يفعل. فاستعداداته لا يمكن أن تمكنه من الفعل.
وهذه أمور ضمن إخبارات القرآن الكريم فى القضايا الغيبية التى أخبر عنها، فعندما يقول الله سبحانه وتعالى {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} معناه أنهم مصدقون ولكن ألسنتهم لا تعترف بذلك. وقوله تعالى {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} معناه أن الشك مفتعل فى نفوسهم؛ هم لا يريدون أن يؤمنوا ولذلك يأتون بسبب مفتعل لعدم الإيمان، لقد استقر فكرهم على أنهم لا يؤمنون، وما دام هذا هو ما قررتموه، فإنكم ستظلون تبحثون عن أسباب ملفقة لعدم الإيمان.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }
الحق سبحانه وتعالى يريد هنا أن يلفتنا إلى صورة أخرى عن عجز هؤلاء الكفار، فهم بحثوا عن أعذار، ليبرروا بها عدم إيمانهم وتظاهروا بأنهم يشكون فى القرآن الكريم. يقول لهم: لو كانت لكم قدرة وذاتية فعلا فامنعوا أنفسكم من دخول النار يوم القيامة، كما منعتم انفسكم من الإيمان فى الدنيا.ما أعظم أن يعود الإنسان إلى الحق فإذا لم يستطع الكفار أن يأتوا بسورة من القرآن أو آية مثله فلماذا لا يعودون للحق ويرجعون إلى رحاب التقوى منقذين أنفسهم وأهليهم من نار وقودها النار والحجارة .
الكفر بالله يعقبه أشد الندم فى الدنيا والآخرة:
إن المشركين يندمون على شركهم وخلو صحائفهم من الصالحات { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر (36-37)] ، {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون (99-100)] ،{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة (12)] ، {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف (53)] .مثل البعوضة فما فوقها:
ضرب الله لنا مثلاً بالبعوضة الصغيرة التى لا نأبَهُ لها ولا نُعيرُها اهتمامًا إلا فى قتلها، تلكم البعوضة التى قال الله عنها: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26]، فهل سألنا أنفسَنا: لماذا يضربُ الله لنا مثلاً بالبعوضة؟! نعم، البعوضة التى لا يعرفُ من نزلت عليهم هذه الآية منها إلا صورتَها، فكيف بنا ونحن فى زمنٍ كشفَ فى البعوضة قلبَها ودماغَها وعيونَها وعروقَها، فهذه المخلوقةُ الصغيرة لا تُحقَر ولا تُزدَرى
ويضربُ الله لنا مثلاً فى الذُّباب، ذلكم المخلوق الذى يأنَفُ منه العموم تأفُّفًا وازدراءً، ويخُصُّه الله بالحضِّ على الإنصات والاستماع إليه بخلاف غيره من الأمثال، فيقول - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى عَزِيزٌ} [الحج: 73، 74].كيف يضربُ الله مثلاً بهذه المخلوق الصغير جدًّا، المُحتقَر لدى أهل الدنيا، ولو علِموا ما فيه من الأسرار لأدركوا عظمةَ البارى - جل شأنُه -، ولأيقَنوا أنهم لا يُحيطون به علمًا، فإنه - سبحانه - قد يجعل أسرارًا عظيمة فى أضعف مخلوقاته.
وإذا كانت هذه العظمة فى خلقَ الذُّباب؛ فكيف بخلق الناس، وإذا كان خلقُ الناس هو ما نعلمُه ونُشاهِدُه وما غابَ عنا كل أسراره؛ فكيف بخلق السماوات والأرض ولقد صدق الله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
وهذه الآية جاءت رداً على الكفرة المعاندين حيث قالوا أما يستحى ربُّ محمد أن يضرب مثَلاً بالذباب والعنكبوت! فبّين الله تعالى أنه لا يعتبريه ما يتعرى الناسَ من استحياء ، فلا مانع من أن يصوّر لعباده ما يشاء من أمورٍ بأى مثل مهما كان صغيرا ، بعوضة فما فوقها . فالذين آمنوا يعلمون ان هذا حق من الله ، أما الذين كفروا فيتلقّونه بالاستنكار . وفى ذلك يكون المثل سبباً فى ضلال الذين يجانبون الحق وسبباً فى هداية المؤمنين به.
إن صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم، ويهديه فى الصراط المستقيم إلى علم الحقّ، والعمل به، وإلى تلقّى المحابّ
والمسارّ بالشكر، وتلقّى المكاره والمصائب بالرّضا والصّبر:
فالإيمان بالله عز وجل ملجأ المؤمنين فى كل ما يلمُّ بهم: من سرور، وحزن، وخوفٍ، وأمنٍ، وطاعة، ومعصية، وغير ذلك من الأمور التى لابدّ لكل أحد منها، فعند المحابّ والسّرور يلجؤون إلى الإيمان، فيحمدون الله، ويُثنون عليه، ويستعملون النعم فيما يحبّ، وعند المكاره والأحزان يلجؤون إلى الإيمان من جهات عديدة: يتسلَّون بإيمانهم وحلاوته، ويتسلَّون بما يترتّب على ذلك، من الثواب، ويقابلون الأحزان والقلق براحة القلب، والرجوع إلى الحياة الطيبة المقاومة للأحزان، ويلجؤون إلى الإيمان عند الخوف، فيطمئنّون إليه ويزيدهم إيماناً، وثباتاً، وقوة، وشجاعة، ويضمحلُّ الخوف الذى أصابهم،كما قال الله تعالى عن الصحابة:{الَّذِينَ قَالَ لَـهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [سورة آل عمران، الآيتان: 173- 174].وهذا بخلاف الكفر والعناد فالكفر يرتبط بالإنكار والضلال والفسق ونقض العهد:
{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}.فقد وصفهم تعالى بقوله : {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } أى الّذين تركوا العملَ بعهد الله ، وهو وصيّتُه لهم وأمرُه إياهم بلزوم طاعته وتحاشى معصيته . وعهدُ الله هو العهد الذى أنشأه فى نفوسهم بمقتضى الفطرة ، تدركه العقول السليمة ، وتؤيده الرسل والأنبياء .
أما نقضُهم له فهو أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يكون موصولا، كوصل الأقارب وذوى الأرحام ، والتوادّ والتراحم بين بنى الإنسان ، وسائر ما فيه عمل خير، وعلاوة على ذلك تجدُهم يفسدون فى الأرض بسوء المعاملة ، وإثارة الفتن وأيقاد الحروب وافساد العمران .
وجزاء هؤلاء أنهم هم الخاسرون ، لكل توادٍّ وتعاطف وتراحم بينهم وبين الناس فى الدنيا ولهم الخزى والعذاب فى الآخرة .كيف تكفرون بالله:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } .استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله، الذى خلقكم من العدم وأسبغ عليكم نعمه العظيمه; وأنعم عليكم بما لا يعد ولا يحصى من أصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم ونهاية أعماركم ; ثم تعودون إليه كما خلقكم فيجازيكم سبحانه وتعالى فى القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون، فيجازيكم الجزاء الأوفى فلا يظلم ربك أحدًا، فإذا كنتم فى تصرفه; وتدبيره; وبره; أيليق بكم أن تكفروا به، وتجحدوا النعم .
الكافر دائمًا يتعامى عن الحق ، ويتجاهل الأدلة على وجوده تعالى ، ومع أن الكافر يصل فى قرارة نفسه الى صدق الحق إلا أنه يأبى أن يتراجع عن عناده وخصومته لهذه الدعوة.
قال تعالى : {وما أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون*وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبأ :34-35] ، وقال تعالى : {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسى خلقه * قال من يحيى العظام وهى رميم قل يحيها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذى جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا انتم منه توقدون} [يس : 77 – 80] ، وقال تعالى : {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد} [البقرة : 206] ، وقال تعالى : {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين} [النمل : 13] .
نسأل الله الكريم المنان أن يهدينا إلى طريق الإيمان وأن يرزقنا شكر الرحمن على نعمه وأن يظلنا بظل طاعته إنه المنعم الوهاب.
التفسير الموضوعي للقرآن الكريم سورة البقرة (5) الآيات (21-29)
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة