التفسير الموضوعى: سورة البقرة: الآيات من 272 - 280

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

سورة البقرة: الآيات من 272 - 280

قال تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)  الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280))} [البقرة: 272-280].

محتويات العدد:

الهداية بيد الله وحده:

وصف الفقير المتعفف:

الصدقة والأمن من الخوف:

الربا يمحق البركة ويعقبه العذاب:

عملك الصالح في الدنيا هو حصنك الأمين يوم القيامة:

التحذير من الربا والدعوة إلى تركه:

قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].

إن الهداية بيد الله وحده سبحانه إذا أراد أن يهدي إنسانًا فلا يستطيع أحد إضلاله ، وإذا أراد ضلال أحد طمس على بصره وبصيرته .

أما سبب نزول الآية: فقد أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد ابن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا إلى على أهل دينكم))، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} وما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلى على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية.

وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا. فنزلت.

وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} معناه أن نفع الإنفاق خاص بكم وعائد عليكم في الدنيا والآخرة.

وقوله سبحانه: {فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} يعني أنكم أيها المسلمون متجردون عن أغراضكم، لستم كغيركم، فإنفاقكم خاص لوجه الله.

وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}يعني يوفيكم الله نفعه في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فتوسعة الرزق ودفع سوء القضاء كما ورد في الحديث: ((إن القضاء والصدقة يعتلجان بين السماء والأرض حتى تغلبه الصدقة)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)).

وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} يعني لا تنقصون من أجور إنفاقكم شيئًا في سبيل الله بل يضاعفه الله أضعافًا مضاعفة.

وصف الفقير المتعفف:

قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273].

هذا الوصف ينطبق على جماعة من المهاجرين الذين انقطعوا إلى الله وإلى رسوله وسكنوا المدينة تاركين وراءهم في مكة أموالهم وأهليهم {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} أي: لا يستطيعون التحرك والتجارة والسعي في الأرض.

وقوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي: أن الجاهل يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم،  

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئًا)).

وقوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أي: لا يلحفون في المسألة، ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة، وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرءوا إن شئتم يعني قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا})).

وفي مسند الإمام أحمد: حدثنا عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مزينة أنه قالت له أمه: ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يسأله الناس، فانطلقت أسأله، فوجدته قائمًا يخطب وهو يقول: ((من استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافًا)) فقلت بيني وبين نفسي: لنا ناقة لهي خير من خمس أواق، ولغلامه ناقة فهي خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسأل.

وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي لا يخفى عليه شيء منه، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.

الصدقة والأمن من الخوف:

قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].

صاحب الصدقة والمعروف لا يقع، فإذا وقع أصاب متكًا؛ إذ البلاء لا يتخطى الصدقة؛ فهي تدفع المصائب والكروب والشدائد المخوِّفة، وترفع البلايا والآفات والأمراض الحالَّة.

فمن الأحاديث الدالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات))، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه: ((وفعل المعروف يقي مصارع السوء)) .

كما أن الصدقة تحفظ البدن وتدفع عن صاحبها البلايا والأمراض، يدل لذلك حديث: ((داووا مرضاكم بالصدقة)).

قال ابن الحاج: ((والمقصود من الصدقة أن المريض يشتري نفسه من ربه ـ عز وجل ـ بقدر ما تساوي نفسه عنده، والصدقة لا بد لها من تأثير على القطع؛ لأن المخبر صلى الله عليه وسلم صادق، والمخبَر عنه كريم منان، وقد سأل رجل ابن المبارك عن قرحة في ركبته لها سبع سنين، وقد أعيت الأطباء فأمره بحفر بئر يحتاج الناس إليه إلى الماء فيه، وقال: أرجو أن ينبع فيه عين فيمسك الدم عنك.

وقد تقرح وجه أبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك قريبًا من سنة فسأل أهل الخير الدعاء له فأكثروا من ذلك، ثم تصدق على المسلمين بوضع سقاية بنيت على باب داره وصب فيها الماء فشرب منها الناس، فما مر عليه أسبوع إلا وظهر الشفاء وزالت تلك القروح وعاد وجهه إلى أحسن ما كان.

والأمــر كما قال المنــــاوي: ((وقد جُـــرِّب ذلك ـ أي التداوي بالصدقة ـ فوجدوا الأدوية الروحانية تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية، ولا ينكر ذلك إلا من كثف حجابه)).
وليس هذا فحسب؛ بل إن بعض السلف كانوا يرون أن الصدقة تدفع عن صاحبها الآفات والشدائد ولو كان ظالمًا، قال إبراهيم النخعي: ((كانوا يرون أن الصدقة تَدْفَع عن الرجل الظلوم)).

الربا يمحق البركة ويعقبه العذاب:

قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275، 276].

للربا آثار نفسية وخلقية مدمرة؛ ذلك أن المرابي يستعبده المال، فيسعى للوصول إليه بكل سبيل دونما مبالاة باعتداء على المحرمات، أو تجاوز للحدود.

والربا ينبت في النفس الجشعَ، والظلمَ، وقسوة القلب، بل إن الربا يحدث آثارًا خبيثة في نفس متعاطيه وتصرفاته، وأعماله، وهيئته.

ويرى بعض الأطباء أن الاضطراب الاقتصادي الذي يولد الجشع الذي لا تتوافر أسبابه الممكنة - يسبب كثيرًا من الأمراض التي تصيب القلب، فيكون من مظاهرها ضغط الدم المستمر، أو الذبحة الصدرية، أو الجلطة الدموية، أو النزيف في المخ، أو الموت المفاجئ.

ثم إنه مزيل للترابط والتآخي والتكافل بين الناس؛ فأضراره على الأفراد والمجتمعات كثيرة جدًا.

وإن من أعظم آثار الربا المدمرة محقَ البركة.

وقوله تعالى: {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: ((وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن الشياطين مما انعقد عليه إجماع الآراء ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء. وقال: الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة، ويظهر منها أحوال عجيبة والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف كانت الملائكة والجن فوق حاسة البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات.

قال البقاعي بعد نقله ما ذكر ((وقد ورد في كثير من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)))) وورد أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب ونحو ذلك.

وروى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، فثع ثعة، وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى. وقوله: فثع أي قاء.

 وللدارمي أيضًا وعبد بن حميد بسند حسن أيضًا عن جابر رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فركبنا مع رسول الله وهو بيننا صلى الله عليه وسلم كأنما على رءوسنا الطير تظلنا فعرضت له امرأة معها صبي لها. فقالت: يا رسول الله، ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار، فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل، ثم قال: ((اخسأ عدو الله، أنا رسول الله (ثلاثًا) فدفعه إليها)).

وأخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع، وأن ذلك كان في حرة راقم، قال جابر: فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما، فقالت: يا رسول الله، اقبل مني هديتي فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد. فقال: ((خذوا منها واحدًا وردوا عليها الآخر)) ورواه البغوي في شرح السنة عن يعلى بن مرة رضي الله عنه ثم ساق البقاعي ما جاء في الإنجيل، قال له وذلك كثير جدًا، يعني ما وقع للمسيح عليه السلام، من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك. وبعد أن ساق ذلك قال: وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافيًا، لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان.

 ولما كان الربا يتنافى مع تعاليم الإسلام التي تحض على المعاونة الصادقة والمساعدة لمن يحتاجها، قال الله فيه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}وقد فسروا المحق بما يقتضيه معناه من المحق الحسي والمحق المعنوي.

وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل.

 وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر فجاءهم بتمر جديب، فقال: ((أكل تمر خيبر هكذا؟)). قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال: ((لا تفعل، بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جيدًا)).

وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)).

وروى البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا. قال مجد الدين في كتابه (المنتقى) وفيه دليل على جواز الذهب بالفضة مجازفة.

 وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء) متفق عليه).

 وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا هاء وهاء)). يعني يدًا بيد. بحيث يحصل التقابض في الحال لا يتأخر منه شيء، فما تأخر فهو باطل لأنه ربا.

 وروى الإمام أحمد ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد، قال المجد: وهو صريح في كون الشعير والبر جنسين.

وروى الإمام مسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر، لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التم. وبوب المجد على هذا الحديث في أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، وقال بعد إيراده: وهو يدل بمفهومه على أنه لو باعها بجنس غير التمر لجاز.

 وروى الإمام مسلم والنسائي وأبو داود عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثنى عشر دينارًا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثنى عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا تباع حتى تفصل)).

عملك الصالح في الدنيا هو حصنك الأمين يوم القيامة:

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 277].

إنها بشارة ذكرت في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعًا، كان لسورة البقرة العدد الأكبر من ذكرها حيث ذكرت في ستة مواضع منها، وفي غيرها من السور ذكرت في سبعة مواضع ، فالجملة ثلاثة عشر، وهي كالآتي:

 الموضع الأول: قال الله تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. وفيها أن هذه البشارة يستحقها من اتبع هدى الله، أي أنه صدق بما به الله أخبر وأدى ما الله به أمر واجتنب الوقوع فيما نهى الله عنه وزجر.

الموضع الثاني: قال تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] المتأهلون لهذه البشارة هم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا.

الموضع الثالث: قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] صاحب  البشارة هو من أسلم وجهه لله وهو محسن.

الموضع الرابع: قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262].

الموضع الخامس: قال تعالى : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] في هاتين الآيتين البشارة لمن أنفقوا أموالهم في سبيل الله بالليل والنار سرًا وعلانية ولم يتبعوا ما أنفقوا منًا ولا أذى.

 الموضع السادس: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277] وهنا ذكر الإيمان والعمل الصالح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة،

الموضع السابع: قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169- 171] وفي هذه الآية البشارة للشهداء في سبيل الله.

 الموضع الثامن: قال تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69].

الموضع التاسع: قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48] أي آمن بالله ورسله وأصلح نفسه بالعمل الصالح وصار بذلك صالحًا في نفسه وفي مجتمعه.

الموضع العاشر: قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35] ، وفيها خطاب لبني آدم ذكورهم وإنثاهم عربهم وعجمهم فقراؤهم وأغنياؤهم، من اتقى واصلح منهم.

الموضع الحادي عشر: قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62- 64] في هذه الآيات ذكر الإيمان والعمل الصالح والتقوى والإصلاح.

الموضع الثاني عشر: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30- 32].

الموضع الثالث عشر: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13- 14]. في هذه الآيات ذكر مع قولهم ربنا الله، الإستقامة على منهج الله، أي أنهم التزموا الإيمان بالله والاستقامة والثبات.

 مجمل الصفات التي ينال صاحبها هذا السرور بهذه البشارة العظيمة من الله العظيم ، اتباع هدى الله إيمانًا وتصديقًا بالقلب واللسان والجوارح عملًا صالحًا وإصلاحًا وأسلم وجهه لله وهو محسن، أقام الصلاة وآتى الزكاة وأنفق في سبيل الله سرًا وعلانية إخلاصًا لله، استمسك بالإيمان بالله واليوم الآخر بالتقوى والثبات والاستقامة  في عبادته لربه جل جلاله‏، فصار من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما أشاد بمن قتل شهيدًا في سبيل الله، فهل أنت من هؤلاء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

التحذير من الربا والدعوة إلى تركه:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}.

روى ابن جرير عن السدي أن هاتين الآيتين نزلتا في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية أسلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو، وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} من فضل كان من الجاهلية من الربا.

وعن جابر رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)) رواه مسلم.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله)) رواه مسلم.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة: آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والحالّ والمحلَّل له ومانع الصدقة" [رواه الإمام أحمد].

ما ورد من نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن آكل الربا وعدِّه من الموبقات:-
عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: : ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وثمن الدم ، ونهى عن الواشمة والموشومة، وآكل الربا وموكله، ولعن المصور)) [رواه البخاري].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله، قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) [متفق عليه].