التفسير الموضوعي للقرآن الكريم سورة البقرة: الآيات من 255-262

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم

سورة البقرة: الآيات من 255-262

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}

آية الكرسي أعظم آيات القرآن
شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
سعة ملك الله سبحانه وعظم خلقه
لا إكراه في الدين
مناظرة إبراهيم عليه السلام للنمرود
قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية
إحياء الطير لإبراهيم
مباركة الله للإنفاق والصدقات

آية الكرسي أعظم آيات القرآن:
قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].

روى الإمام مسلم بسنده عن أبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)). قلت: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فضرب في صدري وقال: ((ليهنك العلم أبا المنذر)).

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي أوله: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، قال: فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله. قال: إني محتاج وعليّ عيال وبي حاجة شديدة. فخليت سبيله، فأصبحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل أسيرك البارحة؟)). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً. فرحمته، فخليت سبيله. قال: ((أما إنه قد كذبك فسيعود)). فعرفت أنه يعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرصدته فجاء وقد فعل ذلك ثلاث مرات حتى إذا خاف منه في الثالثة، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قال أبو هريرة: قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حتى تختمها، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله. فلما أصبحت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل أسيرك البارحة؟)). قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله. قال: ((ما هي؟)). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ الكرسي من أولها حتى تختمها. وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولن يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟)).قلت: لا. قال: ((ذاك شيطان)).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)).

لله تعالى كمال الحياة والملك الدائم :
قوله سبحانه: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} معناه أن له الحياة التامة الكاملة التي لا بداية لها ولا نهاية.
والقيوم: أي القائم بنفسه، الذي لا يحتاج إلى غيره، ولا قوام للموجودات بدونه، فهي مفتقرة إليه وهو غني عنها؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}، فهو سبحانه وتعالى قيوم، أي قائم بنفسه، مقيم لغيره، لا يحتاج إلى أحدٍ من خلقه.

وهذان الاسمان ((الحي القيوم)) هما اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب.
تقول أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها: سمعت رسول الله يقول في هاتين الآيتين: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} و{الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } ((إن فيهما اسم الله الأعظم)).

ويقول أبو أمامة رضي الله عنه: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورةِ البقرة، وآل عمران، وطه))، قال هشام: أما البقرة فـ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي آل عمران: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي طه: {وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}.

وقوله سبحانه: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الكل عبيده، وكل ما في السموات والأرض تحت ملكه وقهره وسلطانه؛ فكل شيء في السماء أو في الأرض هو له سبحانه وتعالى؛ يقول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.

لا شفاعة إلا بإذن الله:
في هذه الآية الكريمة أخبرنا أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله {إِلَّا بِإِذْنِهِ}. وهذا كقوله سبحانه: { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [طه: 109].

قال البيضاوي في تفسير الجملة: ((بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه أو يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة أو استكانة فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة)).

ثبوت شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا. فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر سؤاله ما ليس له به علم فيستحي ويقول ائتوا خليل الرحمن فيأتونه فيقول: لست هناكم ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه ويقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه فيقول: لست هناكم، ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله لما ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي (مثله) ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أعود ثالثة، ثم أعود الرابعة أقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود)). رواه البخاري في التفسير برقم (4476) ورواه في كتاب الرقاق باب الحشر برقم (6565) وشرحه الحافظ هناك.

سعة ملك الله سبحانه وعظيم خلقه:
قوله سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فيه إشارة إلى سعة الأكوان التي خلقها الله تعالى.
وقد ورد في حديث أبي ذر الطويل الذي صححه ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا ذر، ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة.

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}: الكرسي موضوع بين يدي العرش، وهو موضع قدمي الرب، كما قال عدد من المفسرين من الصحابة وغيرهم هو موضع القدمين.

يقول الضحاك رحمه الله: الكرسي هو الذي يوضع تحت العرش، يجعل الملوك عليه أقدامهم.
وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقه في فلاة – أي كخاتم في صحراء- وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة))؛ فسبحان الله رب العرش العظيم.

وأما العرش فلا يقدر أحد قدره، وقد روي عن ابن عباس قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا وهب قال: قال ابن زيد، حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما السماوات السبع في الكرسي إلا كسبعة دراهم ألقيت في ترس((.

{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}؛ أي: لا يُعجزه ولا يثقله ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض، بل ذلك سهلٌ عليه يسيرٌ لديه، فلا يعزب عنه شيء، فكل الأشياء ذليلة حقيرة بين يديه، صغيرة متواضعة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة له، فلا يثقله حفظ السموات والأرض ومن فيهما وما بينهما.

{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}؛ أي: العالي فوق خلقه، الذي له علو المنزلة وعلو القهر والسلطان.

لا إكراه في الدين:
قال تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 256].

دلت الآية الكريمة أن السبب في النهي عن إكراه الناس على دخول دين الإسلام هو وضوح الدين وظهوره فقد قال - سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}.

وعدم الإكراه على الدخول في الإسلام لا يستلزم عدم القتال و الجهاد؛ لأن حرية اختيار الدين لا تعني عدم الحاجة لإبلاغ الدين، و حرية اختيار الدين لا تعني عدم نشر الدين، وحرية اختيار الدين لا تعني عدم حماية الدين و أهله من أعدائه.

وزعم البعض أن قول الله - سبحانه و تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ينفي حد الردة، وبعض المغرضين زعم أن قول الله - سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} يتعارض مع حد الردة، و هذه فرية يغني فسادها عن إفسادها فحرية اختيار الدين ليس معناها حرية الردة و حرية الخروج من الدين و حرية التلاعب بالدين.

قال البيضاوي - رحمه الله - {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إذ الإِكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه، ولكن قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء. وقيل إخبار في معنى النهي، أي لا تكرهوا في الدين.

ما هي العروة الوثقى:
{الْوُثْقَى} فعلى من الوثاقة يقال في المذكر: هو الأوثق، وفي المؤنث: هي الوثقى.

ذكرت كلمة (العروة الوثقى) في موضعين من كتاب الله تعالى، الأولى في سورة البقرة، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ [البقرة:256]، الثاني في سورة لقمان، قال الله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ { [لقمان:22]، وهي في كلا الموضعين قد فسرت بعدة تفسيرات، فقد فسرها بعض المفسرين بـ (لا إله إلا الله)، وقال آخرون هي الإيمان، وقال آخرون هي الإسلام، وقال آخرون هي القرآن، وكل هذه الأقوال لا تعارض بينها؛ لأن من تمسك بلا إله إلا الله فقد تمسك بالإيمان والإسلام والقرآن، والمقصود أنه تمسك بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه وكان المتمسك به على ثقة من أمره لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها أي لا انقطاع لها.

مناظرة إبراهيم عليه السلام للنمروذ:
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار: وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه: النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، قاله مجاهد.

قال مجاهد وغيره: وكان أحد ملوك الدنيا؛ فإنه قد ملَك الدنيا - فيما ذكروا - أربعةٌ: مؤمنان، وكافران؛ فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان، والكافران: النمرود وبُخْتَنصَّر.

وذكروا أن نمرود هذا استمرَّ في مُلكِه أربعمائة سنة، وكان قد طغَى وبغى، وتجبَّر وعتَا وآثر الحياة الدنيا.
ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حمَلَه الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع؛ فحاجَّ إبراهيم الخليل في ذلك، وادَّعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل: { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }.

قال قتادة، والسُّدِّيُّ، ومحمد بن إسحاق: يعني: أنه إذا أُتِيَ بالرجلين قد تحتَّم قتلُهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا، وأمات الآخر.

ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفَى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً آخر بيَّن وجود الصانع، وبطلانَ ما ادَّعاه النمرود، وانقطاعه جهرة - قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]؛ أي: هذه الشمس مسخَّرة، كل يوم تطلع من المشرق كما سخَّرها خالقُها ومسيِّرُها وقاهرُها، وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحيي وتميت، فَأْتِ بهذه الشمس من المغرب؛ فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء، ولا يُمانَع ولا يُغالَب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كلُّ شيء، فإن كنتَ كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلستَ كما زعمتَ، وأنت تعلم - وكل أحد - أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجزُ وأقلُّ من أن تَخلُقَ بَعوضةً، أو تنتصر منها.

فبيَّن ضلاله وجهله وكَذِبَه فيما ادَّعاه، وبطلانَ ما سلكه وتبجَّح به عند جَهَلة قومه، ولم يبقَ له كلام يجيب الخليلَ به، بل انقطع وسكت؛ ولهذا قال: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا بالشرود عن صراط الله ونوره، لانتقاصهم لله والاستخفاف بعزته وجنابه.

قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها:
قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 259].

هذا الرجل من عباد الله الصالحين، سواء كان نبياً أو تقياً لا نجزم بوصفه، وأنه طاف في تلك القرية الخالية الميتة المقفرة من السكان، فقال: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} استبعاداً ليس شكاً في قدرة الله {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}.
قال أهل العلم: أماته الله في الضحى وبعثه بعد مائة سنة في وقت العصر، فلما بعثه الله نظر إلى الشمس، وقال: تأخرت في منامي وانقطع عني السفر، فأوحى الله إليه: كم لبثت مكانك؟ قال: (يَوْماً) ثم أدركه الورع والصدق، فقال: (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

قال الله له: أين حمارك؟ قال: لا أدري؛ فنظر فوجد جلد حماره قد بَلي من كثرة السنين التي مرت، وإذا عظام الحمار ناخرةٌ باليةٌ هامدة، أصبحت رماداً، وإذا خُرجُه بطعامه وعنبه ولحمه.

قال الله عزوجل: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة:259] فقال الله للرفات كوني عظاماً، فتركبت عظام الحمار؛ يداه ورجلاه، وصلبه وهيكله، بلا لحم، وبلا عصب، ولا دم، وبلا عيون، ولا آذان، فلما استقامت العظام أمامه؛ أمر الله اللحم أن يكسى على العظم، ثم ركب الله جلد الحمار، ثم عينيه، ثم أذنيه، ثم نفخ فيه الروح، فهز الحمار رأسه، قال: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:259].

وقال سبحانه: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] لم يتغير، من الذي جعل الطعام الذي من طبيعته التغير أن يبقى مائة سنة لا يتغير؟ وجعل الإنسان والحيوان الذي قد يعيش مائة سنة يموت ويبلى ثم يعود حياً؟ إنه الله.

معجزة إحياء الطير لإبراهيم:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260].

فقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} معطوف على ما قبله من قوله: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم}، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه. وألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى {قَالَ} الله له وهو أعلم من إبراهيم بما سأل عنه: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} يعني ألم يوح إليك بذلك وتؤمن به {قَالَ بَلَى} قد أوحيت إلي فآمنت وصدقت بالخبر {وَلَكِنْ} تاقت نفسي للوقوف على كيفية هذا السر {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بالمعاينة بعد الخبر فيحصل مطلوبي من الطمأنينة في اعتقاد قدرتك يا ربي على هذا الإحياء. فقال الله له، وهو وليه الذي يريد تنوير قلبه وإحاطته بعلم ما طلب {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260].

المعنى من قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أملهن إليك وقطعهن على قول من فسر الصر بالإمالة، وهي لغة هذيل وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} معناه قطعهن يقال: صار الشيء يصوره صراً، إذا قطعه. وقوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} ظاهره العموم بأن يجعل على جميع الجبال ولكنه مخصوص بالجبال التي حوله، والمعنى: جزّئهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} يعني ادع تلك الطيور التي قتلتها وقطعتها ووزعتها على ما حولك من الجبال وهنالك يأتينك مسرعات طيراناً أو مشياً.

ثم قال سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يعني أنه بعزته غالب على أمره وبحكمته قد جعل أمر الإعادة موافقاً لحالة التكوين، وقد هدى الله خليله إبراهيم عليه السلام بهذا الأمر إلى تعليمه علماً حسياً يشاهده عياناً وجعله على يديه لأنه لو تولاه ملك من الملائكة لما حصل مثل هذا الإيقان الذي حصل.

مباركة الله للإنفاق والصدقات:
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

وقد أتى بيان مضاعفة الأجور للمنفق في سبيل الله بهذه الآية بضرب مثل تقريباً للأذهان، فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ}.

المن يفسد الإنفاق:
قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [البقرة: 261، 262].

قال المفسرون: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. أما عثمان رضي الله عنه فقد جهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يقول: ((يا رب عثمان، رضيت عنه، فارض عنه)).

وأما عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقد تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فنزلت الآية.
والمنّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه، وقال بعضهم: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه.
قوله: {وَلاَ أَذًى} الأذى السب والتشكي، والأذى أعم من المنّ؛ لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. قال سفيان في قوله: {مَنًّا وَلا أَذًى} ((أن يقول قد أعطيتك وأعطيت فما شكرت)).

والمنّ كبيرة من كبائر الذنوب؛ لما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله -¬صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال، والديوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى)) وفي بعض طرق مسلم: ((المنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة)).

فمن أنفق ماله مخلصاً في إنفاقه في سبيل الله، ولم يتبع ذلك بأي مفسد من المفسدات فإن الله قد وعده عظيم الأجر والثواب.

من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت

آية الكرسي أعظم آيات القرآن:
قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].

روى الإمام مسلم بسنده عن أبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)). قلت: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فضرب في صدري وقال: ((ليهنك العلم أبا المنذر)).

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي أوله: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، قال: فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله. قال: إني محتاج وعليّ عيال وبي حاجة شديدة. فخليت سبيله، فأصبحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل أسيرك البارحة؟)). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً. فرحمته، فخليت سبيله. قال: ((أما إنه قد كذبك فسيعود)). فعرفت أنه يعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرصدته فجاء وقد فعل ذلك ثلاث مرات حتى إذا خاف منه في الثالثة، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قال أبو هريرة: قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حتى تختمها، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله. فلما أصبحت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل أسيرك البارحة؟)). قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله. قال: ((ما هي؟)). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ الكرسي من أولها حتى تختمها. وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولن يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟)).قلت: لا. قال: ((ذاك شيطان)).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)).

لله تعالى كمال الحياة والملك الدائم :
قوله سبحانه: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} معناه أن له الحياة التامة الكاملة التي لا بداية لها ولا نهاية.

والقيوم: أي القائم بنفسه، الذي لا يحتاج إلى غيره، ولا قوام للموجودات بدونه، فهي مفتقرة إليه وهو غني عنها؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}، فهو سبحانه وتعالى قيوم، أي قائم بنفسه، مقيم لغيره، لا يحتاج إلى أحدٍ من خلقه.

وهذان الاسمان ((الحي القيوم)) هما اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب.
تقول أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها: سمعت رسول الله يقول في هاتين الآيتين: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} و{الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } ((إن فيهما اسم الله الأعظم)).

ويقول أبو أمامة رضي الله عنه: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورةِ البقرة، وآل عمران، وطه))، قال هشام: أما البقرة فـ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي آل عمران: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي طه: {وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}.

وقوله سبحانه: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الكل عبيده، وكل ما في السموات والأرض تحت ملكه وقهره وسلطانه؛ فكل شيء في السماء أو في الأرض هو له سبحانه وتعالى؛ يقول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.

لا شفاعة إلا بإذن الله:
في هذه الآية الكريمة أخبرنا أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله {إِلَّا بِإِذْنِهِ}. وهذا كقوله سبحانه: { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [طه: 109].

قال البيضاوي في تفسير الجملة: ((بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه أو يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة أو استكانة فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة)).

ثبوت شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا. فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر سؤاله ما ليس له به علم فيستحي ويقول ائتوا خليل الرحمن فيأتونه فيقول: لست هناكم ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه ويقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه فيقول: لست هناكم، ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله لما ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي (مثله) ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أعود ثالثة، ثم أعود الرابعة أقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود)). رواه البخاري في التفسير برقم (4476) ورواه في كتاب الرقاق باب الحشر برقم (6565) وشرحه الحافظ هناك.

سعة ملك الله سبحانه وعظيم خلقه:
قوله سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فيه إشارة إلى سعة الأكوان التي خلقها الله تعالى.
وقد ورد في حديث أبي ذر الطويل الذي صححه ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا ذر، ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة.

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}: الكرسي موضوع بين يدي العرش، وهو موضع قدمي الرب، كما قال عدد من المفسرين من الصحابة وغيرهم هو موضع القدمين.
يقول الضحاك رحمه الله: الكرسي هو الذي يوضع تحت العرش، يجعل الملوك عليه أقدامهم.

وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقه في فلاة – أي كخاتم في صحراء- وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة))؛ فسبحان الله رب العرش العظيم.

وأما العرش فلا يقدر أحد قدره، وقد روي عن ابن عباس قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا وهب قال: قال ابن زيد، حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما السماوات السبع في الكرسي إلا كسبعة دراهم ألقيت في ترس((.

{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}؛ أي: لا يُعجزه ولا يثقله ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض، بل ذلك سهلٌ عليه يسيرٌ لديه، فلا يعزب عنه شيء، فكل الأشياء ذليلة حقيرة بين يديه، صغيرة متواضعة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة له، فلا يثقله حفظ السموات والأرض ومن فيهما وما بينهما.
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}؛ أي: العالي فوق خلقه، الذي له علو المنزلة وعلو القهر والسلطان.

لا إكراه في الدين:
قال تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 256].

دلت الآية الكريمة أن السبب في النهي عن إكراه الناس على دخول دين الإسلام هو وضوح الدين وظهوره فقد قال - سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}.

وعدم الإكراه على الدخول في الإسلام لا يستلزم عدم القتال و الجهاد؛ لأن حرية اختيار الدين لا تعني عدم الحاجة لإبلاغ الدين، و حرية اختيار الدين لا تعني عدم نشر الدين، وحرية اختيار الدين لا تعني عدم حماية الدين و أهله من أعدائه.

وزعم البعض أن قول الله - سبحانه و تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ينفي حد الردة، وبعض المغرضين زعم أن قول الله - سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} يتعارض مع حد الردة، و هذه فرية يغني فسادها عن إفسادها فحرية اختيار الدين ليس معناها حرية الردة و حرية الخروج من الدين و حرية التلاعب بالدين.

قال البيضاوي - رحمه الله - {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إذ الإِكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه، ولكن قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء. وقيل إخبار في معنى النهي، أي لا تكرهوا في الدين.

ما هي العروة الوثقى:
{الْوُثْقَى} فعلى من الوثاقة يقال في المذكر: هو الأوثق، وفي المؤنث: هي الوثقى.
ذكرت كلمة (العروة الوثقى) في موضعين من كتاب الله تعالى، الأولى في سورة البقرة، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ [البقرة:256]، الثاني في سورة لقمان، قال الله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ { [لقمان:22]، وهي في كلا الموضعين قد فسرت بعدة تفسيرات، فقد فسرها بعض المفسرين بـ (لا إله إلا الله)، وقال آخرون هي الإيمان، وقال آخرون هي الإسلام، وقال آخرون هي القرآن، وكل هذه الأقوال لا تعارض بينها؛ لأن من تمسك بلا إله إلا الله فقد تمسك بالإيمان والإسلام والقرآن، والمقصود أنه تمسك بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه وكان المتمسك به على ثقة من أمره لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها أي لا انقطاع لها.

مناظرة إبراهيم عليه السلام للنمروذ:
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار: وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه: النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، قاله مجاهد.
قال مجاهد وغيره: وكان أحد ملوك الدنيا؛ فإنه قد ملَك الدنيا - فيما ذكروا - أربعةٌ: مؤمنان، وكافران؛ فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان، والكافران: النمرود وبُخْتَنصَّر.

وذكروا أن نمرود هذا استمرَّ في مُلكِه أربعمائة سنة، وكان قد طغَى وبغى، وتجبَّر وعتَا وآثر الحياة الدنيا.
ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حمَلَه الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع؛ فحاجَّ إبراهيم الخليل في ذلك، وادَّعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل: { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }.

قال قتادة، والسُّدِّيُّ، ومحمد بن إسحاق: يعني: أنه إذا أُتِيَ بالرجلين قد تحتَّم قتلُهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا، وأمات الآخر.

ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفَى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً آخر بيَّن وجود الصانع، وبطلانَ ما ادَّعاه النمرود، وانقطاعه جهرة - قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]؛ أي: هذه الشمس مسخَّرة، كل يوم تطلع من المشرق كما سخَّرها خالقُها ومسيِّرُها وقاهرُها، وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحيي وتميت، فَأْتِ بهذه الشمس من المغرب؛ فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء، ولا يُمانَع ولا يُغالَب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كلُّ شيء، فإن كنتَ كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلستَ كما زعمتَ، وأنت تعلم - وكل أحد - أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجزُ وأقلُّ من أن تَخلُقَ بَعوضةً، أو تنتصر منها.

فبيَّن ضلاله وجهله وكَذِبَه فيما ادَّعاه، وبطلانَ ما سلكه وتبجَّح به عند جَهَلة قومه، ولم يبقَ له كلام يجيب الخليلَ به، بل انقطع وسكت؛ ولهذا قال: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا بالشرود عن صراط الله ونوره، لانتقاصهم لله والاستخفاف بعزته وجنابه.

قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها:
قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 259].

هذا الرجل من عباد الله الصالحين، سواء كان نبياً أو تقياً لا نجزم بوصفه، وأنه طاف في تلك القرية الخالية الميتة المقفرة من السكان، فقال: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} استبعاداً ليس شكاً في قدرة الله {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}.
قال أهل العلم: أماته الله في الضحى وبعثه بعد مائة سنة في وقت العصر، فلما بعثه الله نظر إلى الشمس، وقال: تأخرت في منامي وانقطع عني السفر، فأوحى الله إليه: كم لبثت مكانك؟ قال: (يَوْماً) ثم أدركه الورع والصدق، فقال: (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

قال الله له: أين حمارك؟ قال: لا أدري؛ فنظر فوجد جلد حماره قد بَلي من كثرة السنين التي مرت، وإذا عظام الحمار ناخرةٌ باليةٌ هامدة، أصبحت رماداً، وإذا خُرجُه بطعامه وعنبه ولحمه.

قال الله عزوجل: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة:259] فقال الله للرفات كوني عظاماً، فتركبت عظام الحمار؛ يداه ورجلاه، وصلبه وهيكله، بلا لحم، وبلا عصب، ولا دم، وبلا عيون، ولا آذان، فلما استقامت العظام أمامه؛ أمر الله اللحم أن يكسى على العظم، ثم ركب الله جلد الحمار، ثم عينيه، ثم أذنيه، ثم نفخ فيه الروح، فهز الحمار رأسه، قال: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:259].

وقال سبحانه: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] لم يتغير، من الذي جعل الطعام الذي من طبيعته التغير أن يبقى مائة سنة لا يتغير؟ وجعل الإنسان والحيوان الذي قد يعيش مائة سنة يموت ويبلى ثم يعود حياً؟ إنه الله.

معجزة إحياء الطير لإبراهيم:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260].

فقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} معطوف على ما قبله من قوله: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم}، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه. وألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى {قَالَ} الله له وهو أعلم من إبراهيم بما سأل عنه: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} يعني ألم يوح إليك بذلك وتؤمن به {قَالَ بَلَى} قد أوحيت إلي فآمنت وصدقت بالخبر {وَلَكِنْ} تاقت نفسي للوقوف على كيفية هذا السر {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بالمعاينة بعد الخبر فيحصل مطلوبي من الطمأنينة في اعتقاد قدرتك يا ربي على هذا الإحياء. فقال الله له، وهو وليه الذي يريد تنوير قلبه وإحاطته بعلم ما طلب {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260].

المعنى من قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أملهن إليك وقطعهن على قول من فسر الصر بالإمالة، وهي لغة هذيل وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} معناه قطعهن يقال: صار الشيء يصوره صراً، إذا قطعه. وقوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} ظاهره العموم بأن يجعل على جميع الجبال ولكنه مخصوص بالجبال التي حوله، والمعنى: جزّئهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} يعني ادع تلك الطيور التي قتلتها وقطعتها ووزعتها على ما حولك من الجبال وهنالك يأتينك مسرعات طيراناً أو مشياً.

ثم قال سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يعني أنه بعزته غالب على أمره

وبحكمته قد جعل أمر الإعادة موافقاً لحالة التكوين، وقد هدى الله خليله إبراهيم عليه السلام بهذا الأمر إلى تعليمه علماً حسياً يشاهده عياناً وجعله على يديه لأنه لو تولاه ملك من الملائكة لما حصل مثل هذا الإيقان الذي حصل.

مباركة الله للإنفاق والصدقات:
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

وقد أتى بيان مضاعفة الأجور للمنفق في سبيل الله بهذه الآية بضرب مثل تقريباً للأذهان، فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ}.

المن يفسد الإنفاق:
قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [البقرة: 261، 262].

قال المفسرون: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. أما عثمان رضي الله عنه فقد جهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يقول: ((يا رب عثمان، رضيت عنه، فارض عنه)).

وأما عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقد تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فنزلت الآية.
والمنّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه، وقال بعضهم: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه.

قوله: {وَلاَ أَذًى} الأذى السب والتشكي، والأذى أعم من المنّ؛ لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. قال سفيان في قوله: {مَنًّا وَلا أَذًى} ((أن يقول قد أعطيتك وأعطيت فما شكرت)).

والمنّ كبيرة من كبائر الذنوب؛ لما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله -¬صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال، والديوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى)) وفي بعض طرق مسلم: ((المنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة)).

فمن أنفق ماله مخلصاً في إنفاقه في سبيل الله، ولم يتبع ذلك بأي مفسد من المفسدات فإن الله قد وعده عظيم الأجر والثواب.

الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية